عادل رفيق
نشرت مجلة ريسبونسبل ستيت كرافت الإلكترونية الأمريكية، التي يصدرها معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول، في 28 يناير 2022 مقالاً لجوناثان هوفمان، وهو طالب دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة جورج ميسون، كلية شار للسياسة والحكومة، تحت عنوان: “نظرة أعمق على علاقات إسرائيل مع المستبدين العرب.. هل هي معادية للثورات؟”، حيث جاء المقال على النحو التالي:
كانت تل أبيب تتمتع ببصيرة نافذة بخصوص حرصها على أن تظل السلطة في الدول المجاورة لها في يد أنظمة غير ديمقراطية، لتضمن استمرار ميزان القوى لصالحها.
حيث يمثل ازدهار العلاقات بين إسرائيل ومختلف الأنظمة العربية الاستبدادية أحد أهم التطورات في الشرق الأوسط الحديث.
وعلى الرغم من أن هذه العلاقات رفيعة المستوى قد توسعت بشكل كبير على مدى أكثر من عقدين من الزمان، إلا أنها تطورت من التعاون من خلف الكواليس، إلى حد كبير، إلى أشكال معلنة من التنسيق بصورة أكثر وضوحاً، لا سيما في أعقاب الانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011، حيث بلغت تلك العلاقات ذروتها في عام 2020 من خلال “اتفاقات أبراهام”، الموقعة في الأساس بين إسرائيل والبحرين والإمارات، ولكنها توسعت لاحقاً لتشمل المغرب والسودان.
أكدت التحليلات الكثيرة التي سعت إلى فهم هذه العلاقات في المقام الأول، على كيفية جمع هذه الجهات الفاعلة معاً من خلال الأهداف الجيوسياسية المشتركة بينها، خاصة بعد عام 2011. وسواء كان ذلك لمواجهة الخصوم المشتركين مثل إيران أو الحركات الإسلامية السياسية، أو لإبقاء الولايات المتحدة منخرطة بشكل معمّق في المنطقة، أو للحفاظ على التوازن السائد للقوى الإقليمية، فإن أغلب المراقبين ينظرون إلى هذه التقارب رفيع المستوى والممتد من القمة إلى أسفل الهرم من خلال عدسة الجغرافيا السياسية.
وعلى الرغم من أن عدسة السياسة الواقعية تلتقط على وجه التأكيد العناصر الحاسمة لهذه العلاقات، إلا أنها تتجاوز مجرد الجغرافيا السياسية: إذ أن هناك عنصر معياري قوي ومتجذر في روح الثورة المضادة كعامل مشترك بين هؤلاء الفاعلين الذين ينظرون إلى الديمقراطية – في أي مكان في المنطقة – على أنها لعنة تهدد بقاءهم. وقد وقفت إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضات العربية جنباً إلى جنب مع شركائها الإقليميين في حملة مطوَّرة من الثورة المضادة والتي تهدف ليس فقط إلى الحفاظ على توازن القوى السائد في المنطقة، بل أيضاً لمنع ظهور نموذج ديمقراطي شعبي في الشرق الأوسط.. إن فهم هذه الرغبة المشتركة لكل من تل أبيب والأنظمة العربية المختلفة في الحفاظ على الوضع الاستبدادي الإقليمي الراهن لأمر بالغ الأهمية من أجل فهم النطاق الكامل لهذه العلاقات.
وتقدم إسرائيل نفسها على أنها ملاذ للديمقراطية محاط بـ “جوار صعب” من الاستبداد والعنف المتأصل والتخلف. وعلى سبيل المثال، فقد قال ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، ذات مرة، “نحن (إسرائيل) نعيش في القرن العشرين، وهم [العرب] يعيشون في القرن الخامس عشر”، وشدَّد على أن إسرائيل تمثل “مجتمعاً حديثاً… في وسط عالم من القرون الوسطى”. وهناك رسالة مماثلة كان يرددها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود باراك، الذي غالباً ما كان يصف بلاده بأنها عبارة عن “فيلا شُيِّدت وسط غابة” وأنها بمثابة “قلعة في صحراء”، وذلك في ثنايا وصفه لعلاقة إسرائيل بجيرانها العرب. وجادل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في كتابه، “مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم”، قائلاً، بأن “العنف منتشر في كل مكان في الحياة السياسية لجميع الدول العربية. وهو الأسلوب الأساسي في التعامل مع الخصوم، سواء كانوا أجانب أو محلّيين، عرباً أو غير عرب”.
وكما جادل المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم سابقاً، فإن مثل هذه النظرة للعالم “تُرجمت إلى مفهوم جيواستراتيجي” بحيث تظل الدولة الصهيونية “منخرطة بشكل دائم في تحالف مع الغرب ضد الشرق المتخلف”. كل هذا على الرغم من حقيقة أن مكانة إسرائيل كدولة ديمقراطية هو موضع نقاش كبير، خصوصا لدى العديد من منظمات حقوق الإنسان البارزة بالإضافة إلى منظمات حقوقية أخرى، والتي وصفت الدولة اليهودية والأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها بأنه عبارة عن نظام فصل عنصري.
وعلى الرغم من الخطاب الذي يتبناه قادتها، فقد عارضت إسرائيل التحولات الديمقراطية في الشرق الأوسط واستفادت كثيراً من افتقار المنطقة إلى الديمقراطية. إسرائيل هي قوة الوضع الراهن في منطقة الشرق الأوسط وتعتمد بشكل كبير على الحرص على الحفاظ على بقاء الحكومات غير الديمقراطية في المنطقة. وهذا ما يعترف به حتى بعض الأمريكيين الداعمين لإسرائيل والموالين لها، كما جادل روبرت كاجان بعد وقوع الانقلاب العسكري بمصر عام 2013 والذي أطاح بحكومة منتخبة ديمقراطياً هناك، حيث كتب يقول: “بالنسبة لإسرائيل، التي لم تدعم الديمقراطية في أي مكان في الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، فإن وجود ديكتاتورية عسكرية وحشية مصمِّمة على القضاء على الإسلام السياسي ليس فقط أمراً مقبولاً، بل إنه أمر محبَّذ كذلك”.
فإسرائيل تخشى أن تكون الحكومات الشعبية المنتخَبة في المنطقة والمسؤولة أمام شعوبها أكثر انخراطاً في النضال من أجل الحقوق الفلسطينية والتوصل لتسوية حقيقية للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. حيث يظل الرأي العام العربي أشد دعماً للفلسطينيين فيما يقاسيه من شدَّة. وعلى الرغم من أن انتفاضات عام 2011 كانت دائماً مدفوعة بمطالب تتعلق بتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي تركزت بشكل أساسي على المستوى المحلي، إلا أن رمزية فلسطين كانت تبرز في كثير من الأحيان خلال تلك المظاهرات.
حيث يستمر التعبير عن هذه الرمزية في كثير من الاحتجاجات التي تندلع في المنطقة، لا سيما بعد سلسلة صفقات “التطبيع” في السنوات القليلة الماضية. لذلك، فإن تل أبيب تشعر بالنفور تجاه أي حكومات ديمقراطية ناشئة في المنطقة والتحديات التي يمكن أن تفرضها على استمرار سيطرتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فهي تعتمد على الحكام العرب المستبدين لقمع مثل هذه المشاعر.
ما يثير قلق إسرائيل بشكل خاص هو مصر والأردن المجاورتين لها، وكلاهما عقد معاهدات سلام مع تل أبيب. فمصر هي أكثر دول العالم العربي من حيث عدد السكان وتقع على حدود قطاع غزة بينما يتربع على سُدّة الحكم في الأردن أقلية هاشمية على أغلبية فلسطينية وتقع على حدود الضفة الغربية. وفي حال ظهور ديمقراطيات حقيقية في هذين البلدين، فإن بإمكانها أن تلعب دوراً أكثر أهمية في الدفع من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية.
وتستفيد إسرائيل أيضاً من غياب الحكم الديمقراطي في المنطقة عند السعي لحشد الدعم الخارجي لها. وذلك من خلال تصوير نفسها على أنها في موقف دفاعي باستمرار في ظل “جوار قاسٍ”، حيث تستطيع تل أبيب إبراز نفسها دائماً في صورة الضحية أمام داعميها من الدول الغربية. وبالإضافة إلى ذلك، فبتصوير نفسها على أنها بقعة استيطانية غربية منعزلة ومحاصرة، تهدف إسرائيل إلى تقديم نفسها على أنها أكثر الدول الإقليمية – وربما الدولة الوحيدة – الفاعلة القادرة على العمل مع الديمقراطيات الغربية. وإذا تمكنت دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط من ترسيخ أنفسها كديمقراطيات فاعلة، فقد تثبت قدرتها على لفت انتباه الدول الغربية في المنطقة كشركاء جدد لهم، وبذلك تتنافس مع إسرائيل في الحصول على دعم الغرب.
في هذا السياق فسّرت إسرائيل الانتفاضات العربية عام 2011 وما تلاها. فإسرائيل تعمل بشكل متزامن مع الأنظمة العربية المختلفة للحفاظ على سيطرة الأنظمة المستبدة على مقاليد الأمور في الشرق الأوسط، والتي بدورها تدعم هيمنة تل أبيب على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد تجلى ذلك بشكل واضح في خطاب مختلف المسؤولين الإسرائيليين منذ الأيام الأولى من تلك الانتفاضات العربية، وعلى سبيل المثال ما قاله وزير الدفاع آنذاك إيهود باراك، الذي صرح آنذاك بأن “تلك القيادات [الحكام المستبدين] بقدر ما كانت غير مقبولة من قبل شعوبها، فقد كانوا يتحلون بالمسؤولية بشكل كبير فيما يخص الاستقرار الإقليمي… إنهم أكثر ارتياحاً [تجاهنا] بشكل يفوق كثيرا مشاعرهم تجاه شعوبهم أو شوارع بلدانهم”. وعلى نفس الشاكلة من التصريحات، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو الانتفاضات العربية بأنها “موجة إسلامية معادية للغرب ولليبرالية ولإسرائيل وللديمقراطية كذلك”.
وفي خلال السنوات الإحدى عشر التي تلت تلك التعليقات، تطورت علاقات إسرائيل مع الدول الفاعلة الأخرى المضادة للثورات، ولا سيما السعودية والإمارات والبحرين وغيرها، بشكل كبير، لتشمل تعاوناً دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً مكثفاً، مع توفير تقنيات مراقبة متطورة لها، وجهود مكثفة للتنسيق معها من أجل الضغط على واشنطن لصالح أجنداتهم الخاصة. ومن هذا المنطلق، يجب النظر إلى ما يسمى بـ “اتفاقيات أبراهام” على أنها استمرار لهذه الجهود من خلال إنشاء تحالف رسمي بشكل أكبر، يضم الفاعلين المناهضين للديمقراطية، حيث يتم دعمه بكل شغف من قِبل الولايات المتحدة، في ظل سعي واشنطن إلى التحول (عن الشرق الأوسط) باتجاه المحيطين الهندي والهادي.
ففي الآونة الأخيرة، عملت إسرائيل على تنمية علاقاتها مع شخصيات تطمح لأن تصبح ضمن حكام المنطقة المستبدين، مثل الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر ونجله صدام حفتر، وكذلك الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان الذي استولى على السلطة في انقلاب وقع في السودان العام الماضي. وتمتد هذه الجهود إلى ما هو أبعد من الجغرافيا السياسية، للحديث عن ترسيخ تحالف أوسع للثورة المضادة يسعى إلى تأكيد هيمنته على الشرق الأوسط. لقد دعمت الولايات المتحدة بحماس بالغ هؤلاء الفاعلين المعادين للثورات من خلال تزويدهم بأسلحة متطورة وغض الطرف عن سجلاتهم التعسفية في مجال حقوق الإنسان. وعلى الرغم من وعد حملة جو بايدن بجعل حقوق الإنسان القضية المركزية لسياسته الخارجية، إلا أن هذا النمط عينه استمر تقريباً بلا توقف. إن استمرار الدعم الأمريكي لهذا التحالف – المتجذر بالأساس في ما يشار إليه في أحيان كثيرة بـ “خرافة دعم الاستبداد لضمان الاستقرار” – إنما يؤدي فقط إلى تفاقم مصادر المظالم الرئيسية والتي تشكل جوهر المشاكل الإقليمية، وهم: الحكام المستبدون أنفسهم.
.
رابط المصدر: