الشيخ الحسين أحمد كريمو
يوم الاثنين 1 ربيع الأول 1 هـ (16 سبتمبر 622م)، غادر (ص) غار ثور إلى يثرب
مقدمة عقائدية
الله تعالى جعل الإنسان محور هذا الكون، ولذا شرَّفه بالتكليف الرباني، فأمره ونهاه بما وهب له من عقل، ومنحه من نعمة الإرادة، وهذا ما يُميِّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، حتى عن ملائكة الرحمن، وأعظمهم الكروبيين من حملة العرش الثمانية، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (إن الله عز وجل ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كلتيهما، فمَنْ غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومَنْ غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم) (علل الشرائع: ج 1، ص 5)
فالعقل فيصلٌ في الإنسان، والوحي عقلٌ له من خارجه لكي يُسدده، ويُؤيده، ويهديه إلى الصراط السوي والعمل المرضي عند الله تعالى، ولكن الشيطان الذي يقعد على الصراط يُحاول إسقاط العباد عن عبادة الله رب العالمين وصدِّهم عن العمل الصالح بالتسويل والتسويف وبكل طريقة يستطيعها وهذا ما أعلنه منذ البداية بقوله لرب العالمين: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17)
فما السبيل للإنتصار على الشيطان العدو اللدود لبني آدم؟ وكيف لهذا العبد الضعيف أن يُبعد عنه ذاك العدو الخفي الذي يسير فيه مجرى الدم في العروق، فيُسوِّل له المعصية، ويُزين له الدنيا، ويُسوفه بالطاعة ويُؤجلها، حتى يتركها فيُنسيه إياها، وتلك هي قصَّة الأديان والرسالات.
فالشيطان مسلَّط على بني آدم إلا المُخلَصين، أي الذين استخلصهم الله لنفسه وعصمهم من الشيطان والنفس، وهم الأنبياء والرسل والأوصياء (ع) الذين اختصَّهم الله برسالاته ليكونوا هم الذين يقودون البشر في معركتهم ضد الانحراف، والفساد، والإفساد في هذه الحياة، ولكن الطغاة والجبارين الذين يتخذهم الشيطان مطية لتحقيق مآربه في البشر يُسلِّطهم على أولئك المصلحين لتستقيم لهم السلطة والتحكم بالناس، وكان من أقوى أسلحتهم؛ التكذيب، والتهديد بالسجن، ثم بالقتل، وغذا أعيتهم الحيل كلها فإن سلاح التهجير مسلط على رقاب المصلحين في كل حين.
وهذا ما تعرَّض له أعظم مصله في هذه الحياة، نبي الله الخاتم، ورسوله العظم محمد بن عبد الله (ص) الذي بعثه الله ليختم به رسالات السماء، وانزل عليه القرآن الحكيم ليجمع فيه كل الكتب، وكان بلسان عربي مبين، واستمر في دعوته المباركة مخفية وخاصة ثم علنية لثلاثة عشر عاماً قضى ثلاثة ونصف منها في حصارهم له ولأهله في شِعب عمه أبي طالب (ع)، ولم يؤمن به إلا قليل، والمؤمنون به تهجَّروا قسرياً تحت ضغوط القرشيين وسطوته وتعذيبهم إلى الحبشة في عدد من الهجرات لأنه كان (عندهم ملك لا يُظلم عنده أحد)، كما في الحديث الشريف.
وما أن خرج بنو هاشم الأكارم من حصار الشعب حتى توفي الحامي والحاني، عمَّه أبو طالب وزوجته الحانية الطاهرة أمنا خديجة، فسمى ذلك العالم ب(عام الحزن)، وليست هنا المشكلة بل إن طغاة قريش استفردت بالنبي (ص) واستضعفته ومَنْ معه وراحوا يعدُّون العدة للتخلص منهن ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟
تهجير النبي (ص)
نأخذها رواية جميلة وطويلة من سماحة الإمام الراحل السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) حيث يقول: “اجتمع المشركون في دار الندوة، ليتآمروا على رسول الله (ص) وذلك بعد بيعة العقبة، وكان لا يدخل دار الندوة إلاّ مَنْ قد أتى عليه أربعون سنة، فدخل أربعون رجلاً من مشايخ قريش، وجاء إبليس (لعنه الله) في صورة شيخ كبير، فقال له البواب: مَنْ أنتَ؟
فقال: أنا شيخ من أهل نجد، لا يعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لأشير عليكم.. فقال الرجل: ادخل؛ فدخل إبليس. (وكل الأبالسة والشياطين خرجت من نجد قرن الشيطان حتى آخر الزمان وما نراه ونعيشه اليوم أكبر برهان).
فلما أخذوا مجلسهم، قال أبو جهل: “يا معشر قريش، إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل الله تغدو إلينا العرب في السنة مرتين ويُكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نُسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادَّعى أنه رسول الله (ص) وأن أخبار السماء تأتيه، فسفَّه أحلامنا، وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا، وزعم أنه مَنْ مات من أسلافنا ففي النار، فلم يَرِدْ علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً”.. قالوا: وما رأيتَ؟
قال: رأيتُ أن ندسَّ إليه رجلاً منَّا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.
فقال الخبيث (الشيطان): هذا رأي خبيث.. قالوا: وكيف ذلك؟
قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة، فمَنْ ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؛ فإنه إذا قُتل محمد تغضب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وأن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فيقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا.
فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر.. قال: وما هو؟
قال: نثبته (نحبسه) في بيت ونلقي إليه قوتَه (طعامه) حتى يأتي عليه ريب المنون، فيموت كما مات زهير والنابغة وإمرؤ القيس.
فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر.. قال: وكيف ذلك؟
قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه.
قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا (نهجِّره) ونتفرَّغ نحن لعبادة آلهتنا.
قال إبليس: هذا أخبث من الرأيين المتقدمين.. قالوا: وكيف ذاك؟
قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً، وأنطق الناس لساناً، وأفصحهم لهجة فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلاّ وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً.
فبقوا حائرين، ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟
قال: ما فيه إلاّ رأي واحد.. قالوا: وما هو؟
قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفاً فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربةً واحدةً حتى يتفرَّق دمه في قريش كلها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدِّية فأعطوهم ثلاث ديات.. فقالوا: نعم وعشر ديات.. ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي.
فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي (ص)، ونزل جبرئيل (ع) على رسول الله (ص) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (الأنفال: 30)
واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفقون ويطوفون بالبيت، فأنزل الله: (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (الأنفال: 35)، فالمكاء التصفير، والتصدية صفق اليدين.
فلما أمسى رسول الله (ص) جاءت قريش ليدخلوا عليه، فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل؛ فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول الله (ص).
وأمر رسول الله (ص) أن يفرش لـه، ففرش لـه، فقال لعلي بن أبي طالب (ع): (أفدِني بنفسك).
قال: (نعم يا رسول الله)، قال: (نَم على فراشي، والتَحف ببردتي).
فنام علي (ع) على فراش رسول الله (ص) والتحف ببردته، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله (ص) فأخرجه على قريش وهم نيام، وهو يقرأ عليهم: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (يس: 9)، وقال لـه جبرئيل: (خذ على طريق ثور)، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان.
فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب علي (ع) في وجوههم، فقال: (ما شأنكم؟)، قالوا له: أين محمد؟
قال: (أجعلتموني عليه رقيباً، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم). (من حياة النبي محمد (ص) السيد محمد الشيرازي: ص50 بتصرف)
تهجير تحت السلاح
فإذا كانت الهجرة أمر طوعي يخرج فيه الإنسان من نفسه، وبمحض عقله وإرادته من دياره وبيته ومرابع أهله إلى المكان الذي يقصده لعمل أو رسالة أو حتى سياحة وتفريج هم، فهذا ما يتعارف عليه الناس في هجراتهم سواء الرسالية التبليغية، أو التجارية المالية، أو غيرها من أنواع الهجرة.
وأما التهجير فهو الذي يكون تحت ضغط القوة، وتهديد السلاح، فإما القتل أو الخروج والهجرة فيختار الإنسان التهجير على المنية لأن له حياة ورسالة يريد أن يؤديها لا سيما الأنبياء (ع) والرسل فجميعهم قد هُجِّروا قسرياً من ديارهم وعاشوا الغربة وقساوتها، والهجرة ومرارتها، ولذا روي عن هجرة رسول الله (ص)؛ عبدالله بن عدي بن الحمراء: رأيتُ رسولَ اللَّهِ (صلَّى اللَّهُ عليهِ وآله) واقفًا على الحزوَرةِ فقالَ: (واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ). (الترمذي: 3925، الاستذكار لابن عبد البر: 2/451 والحديث صحيح)
وفي رواية أخرى أنه (ص) عندما خرج من مكة التفت إليها ودمعت عيناه الشريفتان وقال مهموماً حزيناً: (اللّه يعلم إنني أحبك ولولا أن أهلك أخرجوني عنك، لما آثرت عليك بلداً ولا ابتغيت عليك بدلاً وإني لمغتمٌّ على مفارقتك)، فأوحى اللّه إليه: يا محمد؛ العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول: سنُردك إلى هذا البلد ظافراً، غانماً، سالماً، قادراً، قاهراً، وذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص: 85)، يعني إلى مكة).
فرسول الله (ص) الذي جاء بالهدى والنور، وبشَّر بفتح العالم له، وإخراج كنوز الأرض لرجاله، وأن دولته ستبلغ مبلغ الخف والحافر من هذه المسكونة، ولكن طغاة قريش ومشركي العرب لم يقبلوا أن تكون الرسالة في يتيم عبد المطلب، وربيب أبي طالب (ع)، وكانوا يُريدونها لطغاتهم وجباريهم كما حكى القرآن الحكيم عنهم بقوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31)
هذه مقاييسهم الدنيوية، المال، والجاه، والقوة، والأولاد، ولا يعلمون أن ذلك كله من الفتن الذي يُبتلى بها البشر والمحن التي يُختبرون فيها في هذه الحياة، وأما مقاييس الله سبحانه فهو الاصطفاء والاجتباء والاختيار منه لخير خلقه وأشرف بريته وأطهر عباده، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 34)
ورسول الله (ص) خيرة الخيرة، وصفوة الصفوة، اختاره الله على علم على العالمين وأرسله بالحق والنور المبين ليُخرجهم من الظلمات والجهل والجاهلية، إلى النور والعلم والحضارة الإنسانية، ولكنَّهم أخرجوه قسراً، وهجَّروه كرهاً من بلده أحب بلاد الله إليه، ما كان ليخرج منها لولا أنهم أجبروه على الخروج منها، والعجيب أنهم لحقوه بكل شرهم، وتجبرهم وطغيانهم إلى المدينة وجيَّشوا الجيوش لحربه وقتاله وهو ينصحهم بالرجوع والتخلي بينه وبين العرب فلم يفعلوا.
فالهجرة النبوية الشريفة التي نعيش ذكراها العطرة هذه الأيام لأنها كانت في ربيع الأول، فقد أضاعها وقتاً ومكانة وعظمة رجال السلطة القرشية لأنها كانت بداية الفتح العظيم للإسلام لينتشر في أصقاع المعمورة، وما أهملوها إلا لأنه كانت بمثابة أول انتصار لرسول الله (ص) عليهم حين خرج من بينهم ووضع التراب على رؤوسهم، كما أنهم أخفوها لما فيها من فضيلة وفداء لفتى الإسلام الأول أمير المؤمنين الإمام علي (ع) الذي نام على فراشه ليفديه بنفسه، فأنكروها عليه حسداً حقداً عليه لأنه فوَّت الفرصة عليهم بالنيل من ابن عمه رسول الله (ص) بحسب ظنهم الباطل، وفعلهم الفاحش بقتله.