لا تزال موسكو تتلقى الصفعات، فيومًا تلو الآخر، يزداد عدد الشركات التي تعاقب روسيا على غزو أوكرانيا، متحدين على هدف واحد وهو شل قلب الاقتصاد الروسي، وجعله يعاني لوقت زمني غير معلوم. فمنذ اليوم الأول للغزو الروسي شهدنا سيلًا من العقوبات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين من أجل تلقين بوتين درسًا قاسيا، وكان ضمن هذه العقوبات ما يعرف بـ “العقوبات الإلكترونية”.
ضربات متوالية في قلب الاقتصاد الروسي
تخضع روسيا لمجموعة من العقوبات الشديدة واسعة النطاق التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، فتم تقييد وصول البلاد إلى احتياطاتها من العملات الأجنبية، وتم منع العديد من بنوكها من“SWIFT” الشبكة العالمية التي تستخدمها الشركات المالية لإجراء المعاملات.
ونتيجة لذلك، انخفضت قيمة الروبل، واضطرت روسيا إلى رفع أسعار الفائدة بشكل حاد، وأبقت البلاد على سوق الأوراق المالية مغلقًا لمنع المزيد من المعاناة الاقتصادية والمالية، والجديد هو قرار الولايات المتحدة بحظر استيراد النفط الروسي، مع الوقوف على أعتاب كارثة عالمية قادمة تهدد بزيادة أسعار النفط عالميًا.
أصبح من المستحيل على الشركات العالمية القيام بأعمال تجارية داخل أحد أكبر اقتصادات العالم، وأيضًا المصدر الرئيس لإمدادات الطاقة، بالإضافة إلى أن العديد من مديري الشركات يشعرون بالقلق من تضرر صورة شركاتهم على مستوى العالم حال استمرار أعمالهم التجارية في روسيا.
وبدأت القطيعة بشركات الطاقة، تبعتها شركات السيارات والدراجات وشركات الشحن، وصولًا إلى شركات التكنولوجيا، فقد وضع غزو أوكرانيا عمالقة التكنولوجيا في العالم في قلب المعركة بين روسيا والغرب من أجل إدارة المعلومات؛ إذ تتخذ الشركات خطوات لتجنب نشر الأخبار المزيفة والبيانات الحساسة التي يمكن أن تعرض أمن المواطنين الأوكرانيين للخطر، خاصة بعد أن طلب النائب الأول لرئيس الوزراء الأوكراني “ميخايلو فيدوروف” من كبار قادة تلك الشركات التدخل وتقديم الدعم لبلده أوكرانيا.
حرب المعلومات المضللة
أشارت وسائل الإعلام الغربية إلى أن الأساس الذي قام عليه الغزو الروسي لأوكرانيا كان مجهزًا من قبل، وذلك من خلال “حملة تضليل جماعية” لا تزال مستمرة حتى الآن مع تصاعد الصراع، فقد قام نشطاء التضليل المؤيد لروسيا بإغراق الإنترنت بالصور ومقاطع الفيديو التي تصور أوكرانيا على أنها معتدية، وحتى تتخذ روسيا ذلك ذريعةً للغزو.
واستمر هذا التكتيك مع شن روسيا غزوها العسكري الشامل، حيث هاجمت المدن والمواقع العسكرية الأوكرانية جوًا وبرًا وبحرًا، وسط قيام الخبراء ومراقبي الحقائق بتفكيك جهودهم المستمرة، ومع ذلك فإن الحجم الهائل للمعلومات المضللة في التقارير الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي لا يزال موجودًا.
بالرجوع إلى أيام ما قبل الغزو، نجد الكثير من “الأخبار الكاذبة” التي استخدمت كمبرر للعمل العسكري الروسي، فوفقًا لتقرير صادر عن رابطة الخبراء الأوروبيين ومجموعة “ريسك تيك” لمراقبة التكنولوجيا، كانت أبرز هذه المزاعم أن:
- “أوكرانيا تستعد للهجوم على “دونباس””: قامت روسيا بإرسال 12 مراسلًا حربيًا روسيًا إلى دونباس، وبدأوا في إنشاء مقاطع فيديو وصور مزيفة وكل أنواع رسائل التضليل التي تزعم أن أوكرانيا تهاجم دونباس، وهذا غير صحيح تمامًا، وكان رد فعل أوكرانيا أنها أصدرت بيانات عديدة تنفي هذه المزاعم، مؤكدة أن لديها مراقبين دوليين ومجموعة من المراسلين الذي رأوا بأنفسهم أنه لا يوجد مثل هذا النوع من العدوان.
- “أوكرانيا كانت تخطط لمهاجمة الأراضي التي يسيطر عليها الانفصاليون في شرق البلاد باستخدام الأسلحة الكيميائية”: حيث زعم وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” أن “أوكرانيا لديها أسلحة كيميائية زودتها بها بعض الشركات العسكرية الأمريكية الخاصة وأنها تستعد لاستخدام هذه الأسلحة الكيميائية ضد المواطنين في دونباس”، وسرعان ما انتشرت هذه الرسالة في العديد من القنوات، وعلى تطبيق المراسلة “Telegram”، وغالبًا ما تلتقط وسائل الإعلام الحكومية الروسية هذه الادعاءات التي لا أساس لها وتضخمها مما يمنحها مزيدًا من الوصول.
وهناك العديد من الأمثلة الأخرى لمعلومات كاذبة تم نشرها عبر وسائل الإعلام الروسية، فقد قام “إليوت هيجينز”، مدير ومؤسس موقع “Bellingcat”، وهو موقع صحافة استقصائية بهولندا، بنشر مقطع فيديو بتاريخ 18 فبراير يفضح قناة في جمهورية “دونيتسك” الشعبية، حيث أظهر الفيديو جنودًا يتحدثون البولندية وهم يحاولون تخريب الدبابات الروسية، ليؤكد بعد استقصائه أن لقطات هذا الفيديو قديمة، وأنها كانت خلال مناورة عسكرية فنلندية عام 2010.
ويبدو أن حملة التضليل كانت فعالة للغاية، ويرجع السبب إلى حجمها الهائل وليس بسبب جودتها، فعندما يكون هناك الكثير من المعلومات الخاطئة التي يتم طرحها، يصبح من الصعب تدقيقها؛ إذ يستغرق ذلك وقتًا طويلًا، ويبدو أن هذا التكتيك فعال بشكل خاص في روسيا، لأن سكانها لا يمتلكون سوى هذه المعلومات، إذ تقوم روسيا بعسكرة المعلومات باستخدام المنصات الرقمية الغربية، ومن هنا جاءت حملة توقيع العقوبات بحجب هذه المنصات.
” ميتا.. أول المعاقبين إلكترونيًا”
قبل أيام، أزالت “فيس بوك” و”إنستجرام” المملوكتين لشركة ” ميتا”، شبكة معلومات مضللة تستهدف المستخدمين الأوكرانيين، تضم 40 حسابًا وصفحة ومجموعة على منصتي التواصل الاجتماعي، وسط تأكيدات بأن هذه الشبكة كانت تدار من روسيا وأوكرانيا، وأنها أنشأت حسابات مزيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما في ذلك Facebook وInstagram وTwitter وYouTube وTelegram بالإضافة إلى Odnoklassniki وVK في روسيا.
وقامت “ميتا”، و”تويتر” بحظر وصول وسائل الإعلام الروسية “RT”، و”Sputnik” عبر الاتحاد الأوروبي، بعد عدة طلبات من عدد من الحكومات والاتحاد الأوروبي لاتخاذ مزيد من الخطوات فيما يتعلق بوسائل الإعلام الروسية التي تسيطر عليها الدولة.
ونظرًا لتوالي الضغوطات، وتصاعد التوترات في أوكرانيا، ولضمان عدم إساءة مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الروس، قررت الشركتان تقييد وصول روسيا إلى تطبيقاتهما، وخاصة حسابات العديد من المؤسسات الإعلامية المدعومة من الكرملين، بعد غزو موسكو لأوكرانيا، حيث قاموا بوضع تنويه على محتوى هذه المصادر يفيد بأنه لا يمكن الاعتماد عليه.
وأكدت” META” أنها ستمنع وسائل الإعلام الحكومية الروسية من نشر إعلانات أو تحقيق الدخل عبر منصاتها من أي مكان في العالم، ونفذت Facebook أيضًا “خاصية القفل بنقرة واحدة” في أوكرانيا، وهي مصممة لمنع التعرف الروسي على الأفراد في التطبيق، إذ تقوم الأداة بقفل ملف تعريف المستخدم، مما يجعله مرئيًا فقط لجهات الاتصال الموجودة مسبقًا. يأتي ذلك في أعقاب مخاوف من أن روسيا قد تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لمراقبة تحركات الأفراد الأوكرانيين.
ووفقًا لما أعلنه “نيك كليج”، رئيس ميتا للشؤون العالمية، فقد أنشأت الشركة ” مركزًا للعمليات الخاصة”، يعمل به متحدثون أصليون بالروسية والأوكرانية، حتى يتم التعامل مع المحتوى المرتبط بأوكرانيا، والذي قد يحرض على العنف أو استخدام خطابات الكراهية.
ذلك فضلًا عن قيام الشركة بتحديث آخر ما قامت به منذ بداية الأزمة الأوكرانية وحتى الآن على الموقع الرسمي لها، فذكرت أنها خصصت 15 مليون دولار لدعم الجهود الإنسانية في أوكرانيا والدول المجاورة، وهذا يشمل 5 ملايين دولار من التبرعات المباشرة لوكالات الأمم المتحدة وأكثر من اثنتي عشرة منظمة غير ربحية، بما في ذلك الهيئة الطبية الدولية التي ستستخدم هذه الأموال لنشر وحدات طبية متنقلة في أوكرانيا؛ لدعم الصحفيين المعرضين للخطر والمدافعين عن حقوق الإنسان في المنطقة. كما تبرعت لليونيسف لتوسيع نطاق الدعم المنقذ للحياة للأطفال والأسر في أوكرانيا والمنطقة.
وللوصول إلى المعلومات الموثوقة، أطلقت ميتا خدمات الطوارئ الحكومية في أوكرانيا، عن طريق خط مساعدة للمعلومات على WhatsApp. ستعمل الخدمة المجانية على توصيل المستخدمين بالتحديثات الهامة، والمعلومات الموثوقة والجديرة بالثقة، بالإضافة إلى تفاصيل حول إجراءات الاستجابة للطوارئ.
وبعد هذه المجهودات الملحوظة، سوف نستعرض ما قامت به بعض الشركات العملاقة من هجرة جماعية ما بين الخروج من الأسواق الروسية تمامًا، أو تعليق خدماتها إلى حين انتهاء الأزمة، والوصول لحل يقبله الطرف الأوكراني والمجتمع الدولي:
- مايكروسوفت:
علقت جميع مبيعات منتجاتها وخدماتها في روسيا، كما تعهد عملاق البرمجيات بالمساعدة في الدفاع عن أوكرانيا ضد الهجمات الإلكترونية الروسية، وأكدت أنها لن تعرض أي محتوى من وسائل الإعلام الروسية المدعومة من الدولة، وأنها ستزيل ترتيب نتائج البحث على Bing وستوقف جميع الصفقات الإعلانية معهم.
- PayPal:
أغلقت شركة المدفوعات عبر الإنترنت خدماتها في روسيا، بعد أن توقفت عن قبول مستخدمين جدد في روسيا في وقت سابق من الأسبوع.
- Apple:
أوقفت مؤقتًا جميع مبيعات منتجاتها في روسيا، وقيدت وصول روسيا إلى الخدمات الرقمية بما في Apple Pay، وحظرت RT News وSputnik من متجر التطبيقات الخاص بها خارج روسيا. وفي أوكرانيا، عطلت الشركة أيضًا ميزات حركة المرور والحوادث المباشرة في خرائط Apple ” كإجراء وقائي لسلامة للمواطنين الأوكرانيين” وسط مخاوف من أن روسيا قد تستهدف مواقع محددة باستخدام هذه الأدوات.
- Google:
حظرت الشركة المملوكة لشركة Alphabet وسائل الإعلام الحكومية الروسية من عرض الإعلانات على منصاتها، وحظرت تطبيقات الأجهزة المحمولة المتصلة بمنافذ الوسائط RT وSputnik من متجر Play التابع لها، وأزالت الناشرين من أخبارGoogle، وحظرتهم من YouTube في جميع أنحاء أوروبا. وفي أوكرانيا، قامت الشركة بتعطيل بعض ميزات حركة المرور المباشرة والحوادث من خرائط Google.
- Snapchat:
أوقفت الشركة جميع الإعلانات التي يتم عرضها في روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، وقالت إنها لم تعد تقبل عائدات من الكيانات المملوكة للدولة في روسيا، وتعهدت بتقديم 15 مليون دولار كمساعدات إنسانية لأوكرانيا. وأوقفت ميزة “الخرائط الحرارية heatmap” بـ أوكرانيا مؤقتًا، مما يجعل التطبيق لا يعرض عدد اللقطات التي يتم التقاطها في مواقع معينة، وتأتى هذه الخطوة ك “إجراء وقائي للسلامة”.
- Booking and Airbnb:
أوقف كل من وكيل السفر عبر الإنترنت وشركة تأجير المنازل عملياتهما في روسيا، وتستضيفAirbnb الآن 100 ألف من اللاجئين الأوكرانيين في أي مكان في العالم مجانًا.
- Netflix:
أغلقت منصة الترفيه خدماتها في روسيا، وتم إيقاف خدمة البث المباشر، وتم تعليق أربع برامج روسية أصلية إلى أجل غير مسمى، مؤكدة أنه لن تتمكن أي حسابات روسية جديدة من التسجيل، وسيتم إلغاء اشتراكات العملاء الحاليين خلال دورة الفوترة التالية.
- Spotify:
أغلق عملاق البث الصوتي مكتبه في روسيا إلى أجل غير مسمى وأزال كل المحتوى من وسائل الإعلام الروسية المملوكة للدولة RT وSputnik، بشأن ما وصفته بـ “هجوم موسكو غير المبرر على أوكرانيا”.
- Nokia:
قالت شركة تصنيع معدات الشبكات الفنلندية إنها ستوقف عمليات التسليم إلى روسيا امتثالًا للعقوبات المفروضة على البلاد.
- Ericsson:
قررت شركة الاتصالات السويدية العملاقة أيضًا تعليق جميع عمليات التسليم للعملاء في روسيا.
- Oracle:
غردت شركة أوراكل العملاقة لبرامج الأعمال على تويتر بأنها “علقت بالفعل جميع العمليات” في روسيا بعد أن دعا نائب رئيس الوزراء الأوكراني “ميخايلو فيدوروف” الشركة إلى التوقف عن ممارسة الأعمال التجارية في روسيا “حتى يتم حل النزاع”.
” بالرغم من الحياد، TikTok تنضم للمعاقبين”
على الرغم من عدم وضوح موقف “الصين” بشكل رسمي حتى الآن، واكتفائها بالتأييد الشفوي فقط للسيادة الوطنية، وفي الوقت الذي تبرر فيه أن ما تفعله روسيا في أوكرانيا هو حماية لأمنها القومي، ورفضها إدانة هجوم روسيا ووصفه بأنه غزو احترامًا “للمخاوف الأمنية الروسية”، تنضم المنصة الرقمية الصينية “TikTok لحملة حظر المحتوى الروسي.
وقالت الشركة إنها ستمنع البث المباشر تحميل محتوى جديد في روسيا بعد أن جرم الكرملين نشر ما يراه أخبارًا كاذبة حول غزوه لأوكرانيا، وأنها سترفض بث القنوات التلفزيونية الحكومية الروسية، مؤكدة أن سلامة مستخدمي وموظفي منصة الفيديو كانت على رأس أولوياتها، فيبدو أن خوف الشركة الصينية من عقوبات الأخبار الكاذبة، وسوء استخدام التطبيق هو ما جعلها تنضم للقائمة.
التأثير على روسيا بعد أن أوقفت الشركات خدماتها
بعد استجابة كبار الشركات للعقوبات على روسيا، من المرجح أن تتعرض البلاد لضربة قوية في قدرتها على إنتاج التقنيات الحيوية، ولعل أبرز عائق أمام روسيا هو الحصول على أشباه الموصلات التايوانية، فهي الآن عاجزة وذات قدرة محدودة على تصنيع المعدات العسكرية والأجهزة الأساسية مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف الذكية. فضلًا عن أن قيام شركات مثلApple وGoogleبإيقاف بعض الخدمات مؤقتًا سيكون له تأثير أكبر على البنية التحتية لروسيا.
ويبدو أن روسيا على مشارف الانعزال عن العالم، وهو ما يريده الغرب بالفعل، فقد دعت الحكومة الأوكرانية إلى قطع اتصال روسيا بالإنترنت العالمي، وأرسلت بالفعل خطابًا إلى “ايكان”، وهي منظمة دولية غير ربحية مقرها الولايات المتحدة تشرف على النظام العالمي لأسماء نطاقات الإنترنت وعناوين “آي بي”، وهي تعمل إلى حد كبير على أساس الإجماع، ولا يشمل أعضاؤها الحكومات فحسب، بل تشمل أيضًا مجموعات المجتمع المدني والخبراء الفنيين. وفي حال الاستجابة لهذا الطلب الأوكراني وتنفيذه، فسيتم فصل روسيا فعليًا عن الإنترنت، حيث ستتوقف عناوين البريد الإلكتروني عن العمل ولن يتمكن مستخدمو الإنترنت من تسجيل الدخول.
“رد الفعل الروسي.. قاسيًا أم تكمن وراءه مصالح خفية؟”
بالطبع لم تصمت روسيا وتشاهد ما تفعله الشركات الغربية بها، فقد قامت هي الأخرى بتقييد الوصول بشكل مبدئي وجزئي إلى تطبيقات “ميتا” و “تويتر”، وحظر شبكة “BBC”، وصوت أمريكا، وراديو أوروبا الحرة، والإذاعة الألمانية “دويتشه فيله”، وموقع ميدوزا في لاتفيا، من أجل ” حماية الإعلام الروسي”، مطالبة تطبيق التواصل الاجتماعي برفع القيود التي تم فرضها على وكالة الأنباء الحكومية “RIANovosti” وقناة ” Zvezda” التلفزيونية الحكومية، والمواقع الإخبارية الموالية للكرملين.
واتهمت وزارة الخارجية الروسية ومكتب المدعي العام منصات التواصل الاجتماعي بأنها متواطئة في انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية، فضلًا عن حقوق وحريات المواطنين الروس، وأنها تفرض رقابة كبيرة على المحتوى الذي يروج وجهة نظرها، واتجه الروس للاعتماد على تطبيق محلي أشبه بالتطبيقين وهو «فكونتاكي» أحد مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن استخدامها مجانًا، وهو مشابه تمامًا لتطبيق «فيسبوك».
ولكن روسيا تنظر إلى أبعد من ذلك بكثير، فلطالما سعت موسكو إلى فرض سيطرة صارمة على الإنترنت والتكنولوجيا الكبيرة منذ سنوات، والفرصة قد سنحت الآن، فحجب المنصات سيعزل الملايين من الروس العاديين عن المعلومات الموثوقة، وسيحرمهم من التواصل مع أصدقائهم وعائلاتهم، ووضعهم تحت سيطرة ماكينة التضليل الإعلامي، والأهم هو منعهم من التحدث علانية والتعبير عن رأيهم، وهذا هو جزء من حملة القمع ضد المعارضين الصريحين للكرملين، وخاصة بعد موجة من الاحتجاجات التي جابت روسيا منذ بداية الغزو على أوكرانيا.
وجاء هذا الحجب في الوقت الذي أقرت فيه روسيا مشروع قانون يجرم النشر المتعمد لما تعده موسكو تقارير وهمية، أو أخبار كاذبة، وقد تم التصديق عليه سريعًا من قبل مجلسي البرلمان الذي يسيطر عليه الكرملين، وفورًا تم توقيعه من قبل “بوتين”، ويوقع أحكامًا بالسجن قد تصل إلى 15 عامًا لمن نشر معلومات تتعارض مع رواية الحكومة الروسية بشأن “العملية العسكرية الخاصة”، وليس “الحرب”، فقد حظرت الجهة المنظمة لوسائل الإعلام الروسية بالفعل استخدام كلمات “حرب” و”هجوم” و”غزو”.
ولكن بالعودة إلى الوراء، كان لبوتين نظرة ثاقبة في هذا الأمر، فالتهديدات بالحظر لم تكن وليدة الأزمة الأوكرانية، بل كانت قبل ذلك، تحديدًا في يوليو 2021، فقد ألزم التشريع الروسي الذي وقعه “بوتين” شركات وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية التي لديها أكثر من 500 ألف مستخدم يوميًا بفتح مكاتب محلية داخل روسيا، لحفظ وتجميع بيانات المستخدمين بداخلها، أو الخضوع لقيود شديدة مثل الحظر التام، فبوتين وحكومته يسعيان لأن تصبح روسيا كالصين وإيران، فهما يعزلان شعوبهما لسنوات عن العالم الرقمي الخارجي.
ولكن في النهاية، يبدو أن ردود كبرى الشركات لن تضمن أن يتراجع بوتين عن موقفه أبدًا تجاه الحرب في أوكرانيا، وليس من الصعب أن تلتف روسيا حول هذه العقوبات وتحقق الاستفادة القصوى منها، فهي قد تستفيد من الوقت الطويل الذي ستظهر فيه آثار هذه العقوبات عليها، لتبحث عن بدائل روسية مختلفة، مما يوسع الفجوة بينها وبين بقية العالم، وقد نرى روسيا تنشئ عالمها الخاص من الإنترنت قريبًا.
.
رابط المصدر: