رحمة حسن
في أقل من عامين يتكرر سيناريو باماكو عاصمة مالي، في واجادوجو العاصمة البوركينية، بعد الانقلاب الثاني الذي قاده إبراهيم تراوري في نهاية سبتمبر الماضي، وتمت تسميته على إثره رئيسًا للبلاد وانسحاب قائد الانقلاب الأول بول هنري سانداوجو داميبا، وما لبث الانقلاب يخطو خطواته الأولى حتى علت الأعلام الروسية في الأفق، وتمت مهاجمة السفارة الفرنسية في رفض صريح للوجود الفرنسي، الذي حاول تعزيز وجوده في النيجر وبوركينا فاسو عقب الانسحاب من مالي على خلفية التعاون المالي الروسي بعد الانقلاب، وتولي أسيمي جويتا وعقد شراكات روسية عسكرية متمثلة في جماعة فاجنر الروسية، فهل سيستمر التقدم الروسي مقابل الانسحاب الغربي من دول الساحل والغرب الأفريقي؟
الانقلاب في بوركينا فاسو وبداية الظهور الروسي
في الثلاثين من سبتمبر الماضي، وقع الانقلاب الثاني في بوركينا فاسو في أقل من عام، على خلفية عجز السلطة الانقلابية السابقة في تحقيق الأمن في البلاد، فتولى إبراهيم تراوري، القائد الشاب في العقد الثالث من عمره، قيادة البلاد بعد تسميته من قبل 300 شخص واستقالة داميبا، لتدخل واجادوجو العاصمة البوركينية مرحلة انتقالية جديدة تنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية في يوليو 2024، على ألا يترشح الرئيس الحالي مرة أخرى.
شهدت البلاد التي تقع في منطقة مليئة بالانقلابات العسكرية مؤخرًا وصراع التنافس الدولي في غرب أفريقيا، مظاهر للعنف تخللها رفع أعلام مناهضة للوجود الفرنسي بوصفه مستعمرًا سابقًا للمنطقة، والدعوة للتواجد الروسي الذي حظي بتواجد في مالي وأفريقيا الوسطى بشكل متعمق عبر جماعة فاجنر العسكرية.
نجاح الاستراتيجية الروسية في أفريقيا
دعم الانقلابات: تم اتهام روسيا بالعمل على دعم الانقلاب الجديد في بوركينا فاسو والقضاء على الحليف الفرنسي داميبا بحجة القضاء على الإرهاب، بإعلان استراتيجية الدعم المباشر لتغيير أنظمة الحكم بدلًا من تقديم نفسها كمستفيد من تغير الأنظمة، وهو ما ظهر في الدعم الروسي المعلن للرئيس الجديد من قبل مستشار الكرملين السابق سيرجي ماركوف، بتقديم المساعدة للرئيس الجديد لبوركينا فاسو، وتهنئة مؤسس المجموعة شبه العسكرية فاجنر يفجيني بريجوزين لقائد الانقلاب ووصفه بالابن الحقيقي لوطنه، مع التأكيد على أن فرنسا الداعمة لداميبا فشلت كقوة استعمارية في الحفاظ على أمن البلاد.
وهو ما ظهر في رفع عسكريين ومتظاهرين الأعلام الروسية على خلفية الانقلاب بجانب مهاجمة المناطق الحيوية الفرنسية وظهور حركة “بوركينا – روسيا” المكونة من مثقفين وسياسيين وحقوقيين وصحافيين، تنشط من أجل دعم وجود شراكة جيواستراتيجية مع موسكو، وهو الأمر الذي ظهر في العديد من الدول الأفريقية خلال الفترة السابقة، فبعد مالي انتقل الأمر إلى بوركينا فاسو الورقة الجديدة التي سقطت من الحقيبة الفرنسية، وتمددت إلى النيجر وتشاد الحليفان الحاليان لفرنسا حتى الآن، بوصف القوات الفرنسية بالاستعمارية ومحاولتها الحفاظ على مصالحها الاقتصادية دون الاهتمام بأمن واستقرار بلادهم.
الوجود العسكري: قامت فرنسا بتعزيز وجودها في النيجر وبوركينا فاسو عقب انتهاء الانسحاب من مالي، بزيادة تعاون الرئيس المالي أسيمي جويتا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتواجد العسكري في البلاد من خلال جماعة “فاجنر”، إلا أن الوضع الحالي قد يهدد الوجود الغربي في بوركينا فاسو، متمثلًا في قوة مينوسما، للحد الذي تعيد فيه ألمانيا دراسة أهمية وجود قوات “بوندسفير” ضمن بعثة الأمم المتحدة في مالي، واتخاذ البرلمان قرارًا بالانسحاب المشروط في مالي إذا لم تتوافر الضمانات الكاملة لحماية الجنود، مقابل التخوف من الانسحاب الغربي الذي يخدم التواجد الروسي المسيطر بالفعل الآن على الأنظمة الحاكمة في دول النفوذ الغربي كبوركينا فاسو، ويسهم الوجود الروسي في فك التكتل الغربي في الغرب الأفريقي، من خلال الخروج الألماني من الوصاية الفرنسية بتعزيز التواجد في دول نفوذها لعدم الانجرار نحو ربطها بتلك القوى الاستعمارية وهو ما يصب في الصالح الروسي.
تنوع الشراكات: نجحت روسيا في تقديم نفسها على أنها تدخل في شراكات متنوعة مع الدول الأفريقية، ولم تظهر بالمظهر الندي الذي يقوده الاتجاه الغربي من خلال رفض وجود أي قوى دولية بديلة عنها، وعلى النقيض صورت روسيا نفسها بأنها شريك متضامن يقدم الخدمات العسكرية لتحقيق الأمن والاستقرار، ولعل لقاء الرئيس المستقيل داميبا مع وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، خير دليل على محاولة عودة الاتفاقيات المجمدة مع روسيا عقب الغضب الشعبي ضد الوجود الفرنسي وتقديم روسيا نفسها كشريك جديد لمواجهة الإرهاب، في ظل وجود نداءات داخل الجيش البوركيني بتفعيل اتفاقات “الدعم الفني الروسي” وإطلاق برنامج تشرف عليه روسيا للتكوين العسكري والاستخباراتي، وإمكانية إمداد البلاد بالأسلحة الروسية وهي اتفاقيات تم توقيعها عام 2018، إلا أن داميبا كان غير مؤيد لهذا التحول السريع، فسيسهم الوضع الحالي للإسراع من تفعيل هذه الاتفاقيات بشكل أكثر صراحةً.
الأثر الأمني لروسيا على واجادوجو
المثلث الحدودي: لم يساعد الوجود العسكري الروسي في مالي على تحقيق الأمن في المنطقة، بل أدى هذا الصراع الدولي إلى تعاظم العمليات الإرهابية في الشمال، وزيادة نشاطها بعد انسحاب قوات “البرخان” الفرنسية من مالي أغسطس 2022، في ظل اتهام المجلس العسكري المالي للقوات الفرنسية بدعم الإرهاب في البلاد، مع محاولة القوى الغربية كشف ضعف القوى شبه العسكرية الروسية (فاجنر)، وهو ما ساهم أيضًا في تصعيد الوضع في تنفيذ اتفاق السلام بين حركة زواد وجماعة الطوارق والحكومة المالية، وبالتالي فإن التنافس الدولي في المنطقة لا يسهم إلا في مزيد من إحداث التواترات القبلية والهجمات الإرهابية مستغلة الفراغ الأمني، وخاصةً في منطقة المثلث الحدودي بين “بوركينا فاسو ومالي والنيجر”.
ضعف القوى الإقليمية: إضعاف “مجموعة الساحل والصحراء G5” والتي تحظى بتمويل من الاتحاد الأوروبي عقب انسحاب مالي منها على خلفية عدم توليها رئاسة المجموعة، أفقد المجموعة الكثير من قواها، وهو الأمر الذي ساهم في زيادة حدة الضربات الإرهابية في منطقة الساحل التي ينشط فيها داعش والقاعدة، ويُعد هذا الانقلاب بمثابة ورقة جديدة لإضعاف المجموعة في حال التعاون مع روسيا، في ظل رفض باماكو العودة، بالتزامن مع إعلان القوى الأربعة الآخرين عن استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب في المنطقة دون تحديد تفاصيلها.
الدعم الفني: تعتمد الأنظمة الدولية في استراتيجيتها للتدخل في الدول الأفريقية، على فرض فكرة الحماية والدعم الأمني فيما تتناسى جهود التنمية، فتظهر الحاجة للدول الأفريقية في بناء استراتيجية دفاعية وجيش مدرب قوي وإمداده بالمعدات اللازمة والمعلومات التي تساعده على مواجهة تلك الجماعات، فيما كان الوجود الفرنسي والروسي متمثلًا في العمليات العسكرية، وكذلك تدخل مجموعة G5 كردود أفعال وليس مجابهة الفعل نفسه المتمثل في التطرف، هذا إلى جانب انتشار الفقر وضعف التنمية والبنية التحتية التي تعاني منها الأنظمة الحاكمة، مما يجعلها ساحة للتنافس الدولي والتمدد الإرهابي والتطرف الداخلي، وبالتالي فإن استراتيجية الخيار العسكري المتبعة من القوى الكبرى، لن تسهم سوى في مزيد من عدم استقرار تلك البلاد لضمان خضوعها لسيطرتها.
النزوح القسري والهجرة غير الشرعية: أدى الضعف الأمني في دول الساحل الأفريقي إلى تنامي ظاهرة النزوح القسري الناتج من العنف والذي وصل إلى أكثر من 2.8 مليون شخص في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتستضيف بوركينا فاسو وحدها أكثر من 1.8 مليون نازح داخليًا؛ هذا بجانب النزوح إلى الدول المجاورة، فاستقبلت كوت ديفوار ما يقرب من 7000 لاجئ من بوركينا فاسو منذ منتصف عام 2021، وفقًا لتقرير الباحثة منى قشطة بالمرصد المصري، وبالتالي فإن استمرار العنف في المنطقة وعدم تحقيق التنمية قد يؤدي لمزيد من الأزمات الإنسانية، والبحث عن سبل العيش إما بالانضمام إلى الجماعات الإرهابية أو الهجرة غير الشرعية، وبالتالي فإن الأزمة الأمنية قد تمثل ورقة ضغط جديدة لروسيا على الاتحاد الأوروبي بفتح الحدود للهجرة غير الشرعية عبر دول النزاع الأفريقي في ظل الأهمية الجيوسياسية للمنطقة.
وهو ما يمثل خطورة التنافس الدولي الذي يصب في مصلحة القوى الكبرى، واستمرار الوضع الأمني المتردي الذي قامت بسببه الانقلابات المستمرة، ويؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى مزيد من تحقيق الأجندات الدولية، في ظل الحرب الباردة التي يقودها الجانب الشيوعي من ناحية والناتو والغرب من ناحية أخرى في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يتطلب تكاتفًا إقليميًا وتنسيقًا أمنيًا وتنمويًا بين دول الساحل وغرب أفريقيا، لاستعادة السيطرة وتحقيق التنمية والاستقرار بعيدًا عن أجندة الجانبين.
.
رابط المصدر: