إعداد : محسن الكومي – المركز الديمقراطي العربي
ملخص :
إن الواقع البحثي في عالمنا العربي والإسلامي إذا ما قارناه بالعالم الغربي يحتاج منا إلى وقفة صريحة مع أنفسنا ومناهجنا التعليمية والتربوية سيما وأن لنا تاريخ بحثي راشد قويم قائم على قوة العقل العربي والذي مبعثه حث إسلامي أصيل ، وقد هدينا جميعا إلى الرشد في هذا من خلال آيات القران الكريم والسنة المطهرة وكان هذا الرشد سببا أصيلا في نهضتنا العربية الأصيلة ، ونظرا لأهمية امتلاك المعلومة ودورها في زماننا المتحرك السريع فقد ذهب هذا البحث إلى توضيح عدة نقاط أساسية
- كيف عنى الإسلام بالعقل وأزال عنه كل عقبات التعلم وأولها كان العتق والحرية التامة واننا سبقنا في تعاليمنا ما ذهب عليه فلاسفة اليونان والحضارات السابقة.
- واقعنا البحثي العربي وخاصة في الوقت المعاصر وكيف رصد الغرب للبحث العلمي قدرات هائلة وما مقدار الأوراق البحثية الناتجة عن هذا السبق الغربي لأمتلاك المعلومة مقارنة بما يقدمه علماؤنا الحاليون .
المقدمة
عام دراسي جديد قد افتتحناه وهو الأول في وصفه ، فهو مليء بالتوقعات محفوف بالحذر جراء ما أصاب العالم كله من توقف وجمود بالغين إثر انتشار “كوفيد19” ، ونحن في أول أسابيع هذا العام الحذر أصاب الكثيرين اضطراب بالغ خاصة في الأوساط التعليمية بدءا من صانعي القرار بالوزارت المعنية بالشأن التعليمي حتى أولياء الأمور مرورا بالطلاب ، إضطراب وحيرة مبعثها سؤال دائر في أذهان الجميع :
- كيف سنبدأ العام الدراسي الجديد ؟
- وهي نفس الحيرة التي شغلت الجميع منذ أشهر قلائل وهي كيف سينهى العام الدراسي المنصرم والذي أنهكته كورونا وكشفت ستره ؟
- وكيف ستحسب النتائج وعلي أي منحنى تقييمي ستكون ؟
وهنا كان لكل شيخ طريقته في الاعتماد ، فالبعض اتجه إلى اعتماد النتائج السابقة وأخرون حاولوا التأجيل وذهب الغالب الأعم إلى اعتماد منهجية البحوث كوسيلة تقييم ؛ ومع جمال الفكرة إلا أنها كشفت عوارا شديدا في منهجية التعليم وتشكيل عقل الطلاب ،والذين ربما أول مرة يسمعون عن معنى للكلمة وبدأوا يتسآلون ما معني كلمة “بحث” ؟
فكرة أحيطت بسيل من المسالب حولتها إلى مسار استرزاق للبعض وكل بحث وله تسعيرته وتحول الأمر إلى نكبة مالية على أولياء الأمور، وفرحة عارمة للطلاب لأنهم نفضوا أيديهم من شغل عام دراسي مهلك .ووسط هذ الكم البالغ من المغالطات في التطبيق نجد أننا كعرب قد سبقنا الكافة في شتى العلوم ولما لا ؟ وقد دعينا جميعا إلى مفاهيم علمية رصينة سعيا نحو العلم وتقديرا لدوره كانت أول التوجيهات للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ﴾ [العلق ١] وحول هذه المعاني سيدور بحثنا حول التربية البحثية في القرآن والسنة . لم يكن مشهد التخبط في التعامل مع إشكاليات “كوفيد19” والمنظومة التعليمية ؛هو المشهد الوحيد فيما نواجهه نحن كعرب في المنظومة التعليمية ولكن كثرت مشاهد بيع البحوث والدعاية لها ؛حتى أصبحت مشاهد مستمرة مكملة لما سردناه من مشهد الاضطراب السابق .هذه صور من المشاهد التي تخرج جيلا قد اعتمد سهولة النجاح كسبيل للشهادة فأصبح سطحي التفكير، سريع الإنجاز ولكنه إنجاز وهمي خادع ، فتضيع معه معالم التسابق حول الريادة في امتلاك المعلومة وخاصة في ظل التسارع العلمي المحموم بين الدول وما تبعه من أهمية امتلاك المعلومات .
إن التباين في سعي الجميع وراء ما ينقصه من بيانات ومعلومات يظهر مدى أهميتها ، وأصبح ملزما للعرب ضرورة أن يخوضوا غمار تلك الحروب حيث المعلومات والبيانات ؛كونها أكثر أثرا من حرب السلاح وأن نوعية السلاح الجديد باتت مختلفة عن سابقتها من حيث الأثر والطريقة والمنهجية ،وعلى العرب أن ينتهجوا نهجا مغايرا في الإعداد والتأهيل لاكتساب المعلومة وفق آليات البحث ورصانة المعرفة .
إشكالية البحث:
تتركز إشكالية البحث في الإجابة على الأسئلة الأتية :
- هل سبق العرب غيرهم في مناهج البحث والعلم
- هل عالج القرآن نظريات البحث العلمي
- هل ذكر في القرآن أمثلة للبحث العلمي وطرقه
- هل دعى القرآن أصحابه إلى مسالك العلم والبحث
فروض البحث :
يناقش البحث فروضا عدة سعيا للإجابة عن مشكلة البحث الرئيسة وهي حرص القرآن على مناهج البحث وتقصي العلوم وقد افترض البحث فروضا منها :
- شمولية القرآن الكريم لدلائل التحري والبحث العلمي
- حرص الإسلام على تنمية العقل بالبحث والتحري والإتجاه العلمي القويم .
- تخاذل البحث العلمي العربي عن بحوث الغرب
منهج البحث :
اعتمد البحث في طياته على المنهج الوصفي والإستنباطي من خلال وصف واقعنا البحثي المعاصر والنظر في الآيات القرآنية الحكيمة واستنباط الدعوات القرآنية الراشدة لتنمية العقل والبحث العلمي في مختلف الآيات دعوة إلى العلم والبحث العلمي .
أهداف البحث:
يسعى البحث إلى عدة أهداف منها:
- إظهار السبق الإسلامي في مناهج البحث العملي .
- تبيان شمول القرآن الكريم على مناهج البحث .
- توجيه الأمة إلى أهمية البحث العلمي والتذكير بأسبقية العرب في ذلك .
خطة البحث
تتشكل خطة البحث في مبحثين
المبحث الأول: السبق البحثي في الإسلام ومنهجية التعلم
المبحث الثاني : مناهج البحث العلمي وتطورها وما ورد في القرآن الكريم :
المبحث الثالث : نظرة سريعة لواقعنا البحثي :
أولا المبحث الأول : السبق البحثي في الإسلام ومنهجية التعلم .
إن أول ما يميز العقل البشري هو قدرته الفائقة على التعلم ، وهذا ما ايده التصور الإسلامي في تعريفه لنظرية ونظام المعرفة وحين يفقد الإنسان قدرته على التعلم يتعطل الدور المميز للعقل ولذا نصت آيات كثيرة على هذا التصور درجة أن الله تعالى قد أرشد في الآيات وله المثل الأعلى انه ” معلم ” فقال تعالى﴿ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ﴾ [العلق ٤] والأية التالية ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾ [العلق ٥] ولما دارت هواجس الملائكة من إقدام آدم ونسله على القتل والإفساد مقارنة بأنفسهم وانهم متصفين بالطاعة قالوا ﴿…………..ۤا۟تَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة ٣٠] كان الرد بليغا قويا فيه من الحجة والإستدلال على قوة آدم على التعلم وأن لديه مقدرة عقلية كانت كاشفة لمراد الله تعالى ﴿قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡۖ فَلَمَّاۤ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ غَیۡبَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ﴾ [البقرة ٣٣] لم يعنف الله تعالى الملائكة على تساؤلهم “أتجعل فيها ….. ” حيث أن رد الملائكة ردا يتماشى مع تخوفهم ويقوم بالمقارنة بين حالهم وطبيعتهم وحال المخلوق الجديد حيث ان منهجية الرد من الملائكة تؤكد على فكرة البحث المقارن كونه منهجية تهدف إلى عقد المقارنات ، ولكن كان الرد بالدليل القاطع على أهم ما يميز هذا المخلوق الجديد على الأرض وما وهبه الله تعالى من مزايا وأعظمها العقل .
لقد أمتلك صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم المعرفة التامة بأصول الدين وتعاليمه فهو المتلقي الأول للرسالة والهدي الرباني ولولا قدراته العقلية وانضباطه الكبير وأخلاقه ما أختاره الله لحمل الرسالة فمن الضروري تفوقه في المعارف الدينية على معارف البشر الآخرين [1] وقد أسبغ الله تعالى عليه نعمه بالعلم البالغ إذ يقول تعالى ﴿…………….. وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمࣰا﴾ [النساء ١١٣] وانتقالا من الحالة النبوية إلى البشر عامة حيث اثبتت البحوث عبر عصور التاريخ بطلان فرضية “الإنسان الراشد” والذي يكتفى بما لديه من معارف وبيانات وعلوم وقدرات عقلية تجعله يميز بين الصواب والخطأ ،وفي المنظور الإسلامي أيضا الفرد راشد ورشده ناقص حيث تظهر لديه حاجة إلى تعاليم علوية فوق علم البشر ترسم له طريق طاعته من خلال المنهيات والمستحبات ولهذا ورد الاحتياج لاستكمال الرشد في القرآن الكريم بتلقي التعليمات في لفظ ” يسألونك” تعقيبا قرآني فريد حول أسئلة الصحابة للنبي في أمور الدين وورد اللفظ في ثلاثة عشر موضعا تركز الغالب فيها في سورة البقرة حيث سجل ستة مواضع .
يشهد التاريخ لأمتنا الإسلامية بالسبق في البحث العلمي وأن علماءنا قد سطروا تاريخا مضنيا في سبيل الكشف الإسلامي في العلوم المختلفة والتي سبقت أوروبا ذاتها .ولهذا حرص الاسلام على حماية مكمن التعلم وهو العقل فكان مما دعى الإسلام إلى حمايته في الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال، وقيل: والأعراض ولذا حمى الاسلام نظام الكليات الخمس من أيا من خوارقها ومن أشدها نظام ” الرق ” حتى لا يحجب عقل الفرد نتيجة عبوديته لمخلوق مثله وما يترتب على ذلك من مآلات مدمرة للشخصية .إن المتأمل لموضوع الرق يدرك الفارق بين الاسلام وغيره في الحرص والتشديد على حرية التفكير والعقل الحر. لقد كان الرق حقيقة مقررة ثابتة أقر فلاسفة اليونان نظامه، واعتبروه نظاماً عاماً عادلاً، لا ظلم فيه، ولم تستنكره شريعة من الشرائع قط، وقرر أرسطو في معاني من أقواله :أن الرق نظام الفطرة لأن من الناس ناساً لا يمكن أن يعيشوا إلا أرقاء، وآخرين لا يكونونٍ إلا أحراراً … ! يمثل هذا التفكير حول الرق والعبودية رأي أعظم فلاسفة اليونان “أرسطو” صاحب ثاني فلاسفة الغرب قدرا بعد أفلاطون. ، وهو مؤسس علم المنطق ويعد مرجعا في بحوث العلوم الطبيعية ويستقى رجال الفكر من أفكاره علومهم .
إن للإسلام نظرته الخاصة في الفكر الإجتماعي حول الرق والعبودية حيث جاء النبي الأمي وقال: “لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ -: إلّا بالتَّقوى، النّاسُ من آدمُ، وآدمُ من ترابٍ ” [2] ولم يسجل القرآن الرق في محكم آياته بل سجل العتق، فلم يرد في القرآن نص قط يبيح الرق، بل نصوصه كلها توجب العتق، حتى إنه في حرب الإسلام العادلة لم يذكر القرآن رق الأسرى إحتراما وإجلالا للبشرية رغم حربهم للمسلمين فلم يذكر في الأسرى إلا المن عليهم بإطلاقهم أو فدائهم بالمال [3] ﴿فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّوا۟ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَاۤءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَ ٰلِكَۖ وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَا۟ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲۗ وَٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَلَن یُضِلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ﴾ [محمد ٤] رغم أنهم أسرى حرب إلا أنه أوضح لهم مسلكا غير الرق .لقد فتح القرآن بابا واسعا للعتق والحرية الإنسانية ﴿وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ﴾ [البلد ١٢] ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد ١٣].
إن المتمعن في تاريخنا العلمي الزاخر ليجد أننا سبقنا غيرنا ، حتى أفكار الحقب الزمنية السابقة وإن هي سبقتنا زمنا إلا أننا سبقناها تحضرا ومدنية ،سطرت كتبنا نقدا لهذه الحقب والأفكار أيضا ، فنجد حتى منهج البحث الذي أطلقه أرسطو نفسه قدم له شيخ الإسلام بن تيمية نقدا بالغا إذ أعتبر نقده أول ما قدم لأفكار أرسطو ونقدها ، حيث هاجمه بعنف في كتابه ( نقد المنطق) ودعا إلى الإستقراء الحسي الذي يصلح للبحث في الظواهر الكونية ويوصل إلى معارف جديدة[4]. .ألم ينطلق الحسن بن الهيثم إلى ملامح المنهج التجريبي الإستقرائي الذي اتبعه في ظاهرة الإبصار إذ يقول “… رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مباديه ومقدماته، ونبتدئ باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس… ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى -في سائر ما نميزه وننتقده- طلب الحق لا الميل مع الآراء “[5] عرض راقي يقدمه الحسن بن الهيثم حول ملامح منهج التجريب الاستقرائي فلم يقدم بحثا في الإبصار بذاته بل تحدث في أصول البحث نفسه وآليات العمل به ، ومن هنا ندرك السبق الواضح لعلماء العرب المسلمين والذي يؤكد لنا إتجاه العلماء المسلمين إلى مناهج البحث بخبرة ودراية واستجابتهم لمطالب الحضارة الإسلامية في البحث والتحري وإلى المنهج التجريبي الاستقرائي وأنهم مارسوا ذلك عن خبرة ودراية بأصوله وقواعده، وأحرزوا على أساسه تقدمًا ملموسًا في حركة التطوير العلمي والتقني، فهذا هو الحسن بن الهيثم -على سبيل المثال لا الحصر- يصف ملامح المنهج التجريبي الاستقرائي الذي اتبعه في بحث ظاهرة الإبصار بقوله:… فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصلب التدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وتنحسم بها مواد الشبهات… وما نحن من جميع ذلك براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكننا نجتهد بقدر مالنا من القوة الإنسانية… ومن الله نستمد العون في جميع الأمور”.
في ظل هذا السبق الفريد تأتي حركات الإستعمار لتحرمنا خيره وتحاول طمس هويتنا البحثية عن قصد ورغبة ،حيث قطعت علينا سبيل البحث والوصول إلى المعلومة ، ومن أمثلة ذلك لما استقلت المغرب مثلا عام 1956 م ، لم تترك فرنسا لها سبيل للبحث والتعليم بل تركت المغرب ” بلا أي جامعة بحثية ولا مؤسسة بحثية ولا باحثين أهليين محليين منشئين على مناهج العلوم الإجتماعية ” رغم أن جامعة القرويين بالمغرب، وفقًا لليونسكو وبناءً على تصنيفات كتاب غينيس للأرقام القياسية تعد أقدم مؤسسة تعليم عالٍ وأول جامعة تمنح إجازة في الطب في العالم حيث أنه لم توجد جامعة بمسماها الحديث وقتها في اوروبا كلها [6] و تُعد الجامعة مؤسسةً تعليمية تابعة لجامع القرويين، الذي قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القرشي عام 245 هجرية المُوافق 859 ميلادية .[7] أين كانت أوروبا وقتها يا سادة ؟؟.
الحث القرآني على البحث :
لم ترد كلمة بحث في القرآن الكريم صراحة ولكن ورد الفعل منها في قوله تعالى ﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابࣰا یَبۡحَثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُرِیَهُۥ كَیۡفَ یُوَ ٰرِی سَوۡءَةَ أَخِیهِۚ قَالَ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَـٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَ ٰرِیَ سَوۡءَةَ أَخِیۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِینَ﴾ [المائدة ٣١] وهنا نجد أن أبن أدم ما تعلم الدفن إلا من البحث والتحري الذي قام به الغراب كما وصفت الآيات ولم يكن بحث الغراب عن الكلأ والعشب بل كان بحثا عن طريقة يتوصل بها إلى دفن أخيه فكانت أول الدروس له عن طريق التدقيق والبحث والتحري عن الآليات والكيفية ، وقد أمرنا الله تعالى بالبحث والتحري في كافة ما نشاهده ونلحظه في الكون وقد ورد الأمر الإلهي بذلك في كلمات دالة على البحث والتحري والتدقيق ومن هذه الكلمات :
-
- (نظر) دعانا ربنا تعالى إلى إمعان النظر في الآيات الكونية التي تمر بنا وقد دخلت كلمة “نظر” وما تحمله من مشتقات مثل ( ينظرون – تنظرون – انظروا …………) لتسجل مئة واثنين موضعا كريما في القرآن وفق مشتقات الكلمة وكلها دعوة إلى النظر بجدية إلى ما فتحه الله تعالى أمامنا من كتاب منظور ومن هذه الآيات ﴿أَوَلَمۡ یَنظُرُوا۟ فِی مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَیۡءࣲ وَأَنۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَهُۥ یُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف ١٨٥] . و ﴿قُلۡ سِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ………….﴾ [العنكبوت: 20].
- (سأل) تمثل كلمة سأل دلالة واضحة على التعلم والحرص على اكتساب المعلومة بما يؤكد مقدرة الإنسان على التعلم واكتساب المعلومة وقد وردت مشتقات هذه الكلمة خمس وتسعون مرة تؤكد على البحث والتحري بغية الوصول إلى إجابات على بعض الأسئلة ومنها ﴿۞ یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِیَ مَوَ ٰقِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَیۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُوا۟ ٱلۡبُیُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُوا۟ ٱلۡبُیُوتَ مِنۡ أَبۡوَ ٰبِهَاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [البقرة ١٨٩]
- (عقل) أعطانا ربنا تعالى دلالات واضحة على الحث والبحث العلمي مشيرا إلى مشتقات كلمة عقل في القرآن فقد أدخلت الكلمة بمعاني التعقل والبحث العقلي لعدد تسعة واربعون موضعا تدعو إلى النظر والتعقل فيما حولنا ومنها ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَ ٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ [النحل ١٢]
- (سيروا ) وردت في القرآن اربع عشرة مرة منها ثلاث مرات في النظر في عاقبة المكذبين والمشركين ومرة للبحث كيف بدأ الخلق ومن أمثلتها ﴿قُلۡ سِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ [الأنعام ١١] وأيضا ﴿قُلۡ سِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ یُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾ [العنكبوت ٢٠]كلها دلائل باهرات على حث القران لنا على بذل الجهد بالمسير في الأرض والتفكر أثناءه حول عاقبة الغابرين وأيضا النظر في بدء الخلق .
- (الفكر) وقد وردت هذه مشتقات هذه الكلمة في اكثر من موضع لتسجل تسع عشرة مرة بمختلف الصور للكلمة دعوة للتفكر فيما هو محيط بنا من ومنها ﴿ثُمَّ كُلِی مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ فَٱسۡلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلࣰاۚ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل ٦٩] .
كان هذا نموذجا لبعض ما ورد وحث عليه القرآن ، ومثله الكثير من الآيات البينات التي أعطت لنا أمرا بالتقصي الدقيق لأخذ العبرة والعظة ليكون البحث العلمي موصلا إلى التوحيد الخالص والإيمان الراسخ .
لم يكن القرآن وحده الذي حثنا على البحث والتحري بل اشتملت السنة المطهرة أيضا على ذلك ففي الحديث الشريف والسنة كانت الدعوة للتفكر والنظر العلمي الراقي الموصل إلى معرفة الخالق جل وعلا فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
“……………أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ثم قال ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ..﴾ [آل عمران: 190] [8] ، وفي الحديث تأكيد بالغ على التفكر في ملكوت السماوات والأرض والبحث والتحري وفي حديث جابر بن عبدالله «مرَّ رجلٌ مِمَّن كانَ قبلَكُم بِجُمجُمةٍ فوقفَ علَيها وجعلَ يفَكِّرُ فقالَ: يا ربِّ أنتَ أنتَ وأَنا أَنا أنتَ العوّادُ بالمغفِرةِ وأَنا العوّادُ بالذُّنوبِ فَقيلَ لَهُ: ارفع رأسَكَ فأنتَ العوّادُ بالذُّنوبِ وأَنا العوّادُ بالمغفرَةِ، قالَ: فغفرَ لَهُ »([9]) هذا فاصل من تفاصيل عدة زخر بها تراثنا الإسلامي ضمن دلائل وآيات وأحاديث جعلت البحث والتقصي جزءا أصيلا من تكويننا العلمي وفق أصالة ديننا الإسلامي الراقي .
المبحث الثاني مناهج البحث العلمي وتطورها وما ورد في القرآن الكريم :
ظلت أليات التفكير هي المرشد الطبيعي للإنسان للوصول إلى المعرفة والتي بدورها تقود الفرد إلى اتخاذ قراراته الصائبة أو الخاطئة او التصرف حيال مشاكله اليوميه ،وقد اتخذ الإنسان أساليب عدة للوصول إلى المعارف والعلوم المختلفة ، شكلت هذه الأساليب بالنسبة له منهجية عمل متسارعة التقدم مسايرة الحداثة أدت إلى تطور مناهج البحث وقسمت أساليب الانسان في البحث للحصول على المعارف إلى :
- اعتبار حكم أهل القوة وغلبة العرف السائد
- استدعاء الخبرات السابقة
- القياس المنطقي والاستدلال
- الأسلوب الاستقرائي التجريبي
أولا :
- اعتبار حكم أهل القوة وغلبة العرف السائد :
ويتمثل هذا الأسلوب في اتباع رأي شيخ القبيلة مع السَّير على خُطى العُرْف السائد، حيث توصف هذه الطريقة أنها اقدم أنواع الطرق في كسب المعلومة ، حيث كانت الظواهر ونواتجها تؤخذ من أهل القوة والسطوة مثل شيخ القبيلة فلديهم العلم وعندهم التفسير “هكذا رأي الأفراد” ، وهنا يكون البحث والتحري لشيخ القبيلة وفقط أما بقية الأفراد فهم اتباع عاجزون ، وقد ذكر هذا النموذج في القرآن الكريم ، وأصدق حالاته كانت لفرعون مع قومه ﴿یَـٰقَوۡمِ لَكُمُ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡیَوۡمَ ظَـٰهِرِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَمَن یَنصُرُنَا مِنۢ بَأۡسِ ٱللَّهِ إِن جَاۤءَنَاۚ قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَاۤ أُرِیكُمۡ إِلَّا مَاۤ أَرَىٰ وَمَاۤ أَهۡدِیكُمۡ إِلَّا سَبِیلَ ٱلرَّشَادِ﴾ [غافر ٢٩] حيث حاول مؤمن آل فرعون أن يدلهم على منهجية جديدة في التعرف على الله تعالى وعبادته وأن ملكهم اليوم هو مؤقت حتى لو كانوا ظاهرين في الأرض ولكن يخبرهم من ينصرنا من غضب الله وينجينا منه؟ ، ولكن فرعون أرجع المنهجية الممقوتة إليه مرة أخرى فقال ما أريكم إلا ما أرى ” أي أن رؤيته للأشياء سابقة ” وأن رؤاهم تابعة ونابعة من رؤيته .
وأما نموذج اتباع العرف فقد عاب القرآن على نموذج مشابه لإتباع العرف السائد والسير على منهجية الأسلاف ، فيقول تعالى ﴿قَالُوۤا۟ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِیَاۤءُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِینَ﴾ [يونس ٧٨] فقد استنكر القوم على نبيهم منهجية أخرى غير التي يتبعوها وفق ضلال الآباء .
ثانيا:
- استدعاء الخبرات السابقة :
حيث يعزو الإنسان في مواجهة مشاكله إلى خبراته التي اكتسبها سواء بنفسه أو عن طريق استدعاء خبرة الآخرين لتتشكل لديه منهجية في تفسير ما يواجهه من ظواهر حسبما هو مكنون لديه من خبرات وتجارب يستدعيها وقت مواجهته لأزماته ، وقد ذكر هذا المنهج في القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [المائدة ٢٠]ففي هذه الأية الكريمة يذكر موسى قومه بما عرفوه من قبل من نعم الله تعالى وما مروا به من خبرة سابقة حيث كانت نعم الله تعالى عليهم واضحة بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وأعطاهم ما لم يعطى أحدا من العالمين .وفي انتقال آخر للتذكير بنعم الله تعالى في أشد المواقف حلاكا في المعارك يقول تعالى ﴿وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [الأنفال ٢٦] حيث يذكر الله تعالى الفئة المؤمنة بما مر عليهم من خبرات سابقة في مأوى الله تعالى لهم وتأييده إياهم بنصره وسعة أرزاقهم بالطيبات من الرزق.وعلى نفس النسق وردت أية سورة الأحزاب حيث يقول تعالى ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَاۤءَتۡكُمۡ جُنُودࣱ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِیحࣰا وَجُنُودࣰا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرًا﴾ [الأحزاب ٩] فأراد الله تعالى في هذه الأية أن يذكروه حيث يأمرهم لإستدعاء خبراتهم التي عاشوها في غزوة الأحزاب حين تكالب الأعداء فأرسل الله تعالى على عدوهم الريح وأذهب شأنهم .
ثالثا:
- القياس المنطقي والاستدلال :
يعتمد هذا الأسلوب على القياس المنطقي أو الكشف عن الظروف والقوانين التي تحكم الظواهر والأحداث وهو تدرج من الأمور العامة إلى الجوانب الخاصة ،أو من المباديء الأساسية إلى النتائج ([10]) وقد ذكر هذا النموذج والقياس في القرآن الكريم حيث البحث والكشف والوصول إلى النتائج والأحكام وفي ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم ﴿فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ ٧٧ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ ٧٨﴾[الأنعام ٧٧-٧٨] يقول الطبري في جامع البيان : قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله” فلما رأى الشمس بازغة”، فلما رأى إبراهيم الشمس طالعةً، قال: هذا الطالعُ ربّي =”هذا أكبر”، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر = فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه = “فلما أفلت”، يقول: فلما غابت ، قال إبراهيم لقومه =”يا قوم إنّي بريء مما تشركون”، أي: من عبادة الآلهة والأصنام([11]) ، وقد وجههم إلى عبادة الله تعالى وأراد أن يوصلهم إلى النتائج والمبادئ الأساسية التي يجب أن يصلوا إليها بعد أفول القمر والشمس فكان التوجيه للنتيجة الراسخة وهي توحيد الله تعالى فقال لهم عليه السلام : ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام 79].
رابعا :
- الأسلوب الاستقرائي التجريبي :
هو منهجية تتبع الجزئيات للوصول إلى أحكام عامة ، وأيضا هو ملاحظة الأحكام الجزئية لوضع أحكام كلية وقد نشأ في عصر الصناعة وكانت نظرية دارون بداية الاسلوب التجريبي ‘ وقد سبق القرآن الكريم كافة من تحدثوا حول مناهج وأساليب البحث العلمي وخاصة الاستقرائي التجريبي منها ،حيث استخدم اداة الاستنتاج (إذاً) كما في نظريات الرياضيات ” بما أن …. إذا ” وقد استخدم القران الكريم هذا الاسلوب قبل كل البشر في أدلة البحث العلمي فكان الأسلوب الاستقرائي بارزا في ذكر الله تعالى حيث لفظ (إذا) والتي تؤكد على نتائج وأحكام تابعة لما قبلها في السياق وقد ورد اللفظ سبع وعشرون مرة في القرآن الكريم ومن النماذج التي ذكر فيها هذا الأسلوب في البحث العملي ﴿أَمۡ لَهُمۡ نَصِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذࣰا لَّا یُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِیرًا﴾ [النساء ٥٣]وفي هذا يذكر تعالى أنه لو لغيره نصيب من الملك كانت النتيجة الطبيعية أنهم لن يؤتوا الناس نقيرا وفي ملمح قرآني آخر يذكر تعالى ﴿قُلۡ إِنِّی نُهِیتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ قُل لَّاۤ أَتَّبِعُ أَهۡوَاۤءَكُمۡ قَدۡ ضَلَلۡتُ إِذࣰا وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِینَ﴾ [الأنعام ٥٦] أنه نهي عن عبادة أحد من دون الله ،لأن هذا يمثل اتباع لأهواهم وأنه إن فعل هذا فالنتيجة أنه في ضلال وليس مهتديا .
تلك تمثل الأنواع الأربعة التي شكلت طريقة إكتساب الإنسان للمعارف والمعلومات ومدى التطور الطبيعي في الفكر لدى الإنسان في الحصول على المعلومات واتباع مناهج البحث وقد ذكر القرآن الكريم كافة هذه الأساليب في البحث ودلل عليها في آياته المبهرات .
المبحث الثالث : واقعنا البحثي المعاصر :
سار العرب نحو البحث العلمي متخذين وسائل حديثة ومناهج عمل سبقت ما كان بعصرهم وقد اشتغلوا بأساليب عدة للبحث العلمي ومنها أساليب الاستقراء والملاحظة والتجربة وأدوات القياس والأوزان للوصول إلى نتائج علمية رصينة وقد تفرد كل من جابر بن حيان وبن الهيثم والرازي في السبق والتميز ، مما جعل عدد غير قليل من علماء الغرب يعترفون بالسبق العربي في البحث العلمي وذكر بعضهم أن العرب كان لديهم أعظم العلماء فقد مهد ظهور ابن الهيثم وابن حيان لظهور جاليليو ونيوتن .
ولكن السؤال الهام هنا ما هو واقعنا البحثي المعاصر مقارنة بما كنا عليه ؟
إن واقعنا البحثي العربي الأن يحتاج منا إلى إعادة التفكير في التربية البحثية لأبنائنا الطلاب وحثهم نحو البحث والسعي وراء المعلومة تماشيا مع الإتجاه العام للعالم في ثورة المعلومات وغزارة البيانات ومما بثير اهتمامنا بالموضوع هو قلة بحوث علماءنا العرب واختفاء منهجية البحث العلمي عن واقعنا التعليمي وخاصة مرحلة ما قبل التعليم الجامعي
إن تنافس دول العالم في الإنفاق على البحث العلمي وتخصيص ميزانية مفردة له يضعنا في مقارنة غير عادلة بين حالنا وحال من سبقونا ؛ حيث تبين لنا من إنفاقهم أنهم يقدروا معنى البحث العلمي إذ أنه يمثل قاطرة التطوير والتنمية والتي لايتم الرقي إلا بها وما نشر مثلا في عام 1997 من حرث البحث العملي في خمس دول تركز على هذا الاتجاه
جدول(1) حجم الإنفاق العالمي على البحث العلمي ([12])
الدولة | عدد العلماء | حجم الانفاق |
الصين | 1427000 | 3425 مليار دولار |
روسيا | 1061000 | 3977 مليار دولار |
الولايات المتحدة الامريكية | 949000 | 179126 مليار دولار |
اليابان | 945000 | 133021 مليار دولار |
المانيا | 475000 | 55003 مليار دولار |
وبالمقارنة نجد أن الولايات المتحدة تتصدر دول العالم من حيث الإنفاق تليها اليابان أما ما تنفقه الدول مقارنة بالناتج القومي فإن السويد تتصدر دول العالم في هذا .
وهذا يظهر مدى تقدم الغرب في مجالهم البحثي وحجم الإنفاق .
لم يتغير واقعنا العربي رغم ما لدينا من بيانات تؤكد حجم الإنفاق الغربي على البحث العلمي ، فعلى مستوى المقارنات البحثية العالمية ففي فترة من (2008 الى 2018 ) كانت النتائج المقارنة بين بحوث العرب وغبرهم كالاتي
بلغ حجم الإنتاج العلمي العربي المنشور في (ISI)[13] ما يقارب (410,549) بحثاً وورقة علمية، حصلت السعودية على المرتبة الأولى عربياً وبنسبة (25%)، تليها مصر في المرتبة الثانية وبنسبة (24%)، ثم تونس في المرتبة الثالثة وبنسبة (11%)، فالجزائر رابعاً وبنسبة (8%)، ثم المغرب خامساً وبنسبة (6%) .[14]
وقد احتل مجال الهندسة الكهربائية والإلكترونية المركز الأول في الإهتمام البحثي ووفق هذه الدراسة وبالتعمق في عدد الأبحاث العلمية المقدمة والتي رصدتها الدراسة وعلى سبيل المثال مصر في نفس الفترة ومن خلال كل جامعاتها مجتمعة قدم علماؤها 106891 بحث علمي في حين أن جامعة هارفارد بمفردها قدمت 320000 بحث علمي أي أن جامعة واحدة في امريكا قدمت ثلاثة أضعاف ما قدمته الجامعات المصرية مجتمعة ، وأما جامعة طوكيو فقد قدمت 250000 بحث وهي جامعة واحدة أي ضعف جامعات مصر مجتمعة مرتين ونصف تقريبا .
وفي دراسة نشرتها منظمة اليونسكو عام 2006 أوضحت ان نسبة عدد الباحثين العلميين في العالم العربي مثلا 136 باحث لكل مليون شخص في حين أن الإتحاد الأوروبي يمثل (2439) باحث لكل مليون شخص ، و أما الواقع الأمريكي فيكون (4374) باحث لكل مليون شخص [15]
تعطي هذه الأرقام والنسب دلالة واضحة مخيفة على إن المجتمعات العربية ما زالت غير متوافقة مع التسارع الحادث في إنتاج المعرفة على الوجه الكافي واللازم ؛ رغم إمتلاك المادة والقوة البشرية ذات العقل الباحث .
النتائج :
بعد هذ االعرض لسير البحث العلمي في القران الكريم وما تبعه من حث السنة أيضا على ذلك ومقدار ما توصل إليه العرب من سبق في نواحي البحث العلمي نتوصل إلى النتائج الآتية :
- حث القرآن والسنة على البحث والعملي بالأساليب العملية الحديثة
- السبق العربي في البحث العلمي ودور العرب في منهجية البحث الحديثة
- شمولية القرآن الكريم على مراحل تاريخ الانسان مع البحث العلمي
- حث القرآن الكريم والسنة على العلم واحترام العقل وتنقية العقل من شوائب التفكير وأعلاها موانعة والمتمثلة في الرق
- حرص الإسلام على تنمية العقل بالبحث والتحري والإتجاه العلمي القويم .
- ضعف البحث العلمي العربي ، وان منتوجنا البحثي مقارنة بما قدمه الغرب ضئيل جدا .
التوصيات :
تبرز التوصيات لهذه البحث في عدة نقاط :
- فتح مسار البحث العلمي بالمدارس على أن يكون مادة تعليمية ثابتة
- عمل اختبارات للقدرات البحثية لطلاب المرحلة الإبتدائية لقياس مدى القدرة على التفكير والبحث والاستنباط .
- توجيه الإنتاج الإعلامي لعمل برامج تعليمية بحثية تشابه انتاج ألعاب الفيديو جيم
- تدريس تاريخنا البحثي الزاخر لطلاب المدارس
- التكاتف والعمل العربي المشترك في مجال البحث العلمي
- ضروة تفرغ علماء بحثيين في مجال علوم القرآن وعلم الحديث .
- التفرغ التام للبحث العلمي والصرف على علماءه وتنمية منتوجهم .
خاتمة :
هيا ندرك ما فاتنا ، بعد هذا العرض السريع لحالنا العربي في البحث العلمي وما وصل إليه غيرنا مرورا بالحث القرآني والنبوي ،وحتى ندرك ما فاتنا ونحن أمة “إقرأ” يجب النظر إلى مفهوم ” التربية البحثية ” وربما يكون المدلول جديد على المسامع ولكنها دعوة إلى تبني فكرتها والعمل على تأصيلها وتنميتها في مدارسنا وجامعاتنا ومناهج تربيتنا لأولادنا داخل البيوت ، حتى تتحول شيئا فشيئا إلى أسلوب حياة ومرتكز تنمية .
نحن يا سادة نحتاج إلى إعادة توظيف التربية لتخدم مجالات البحث العلمي حتى يخرج مجتمع تربى على البحث والتحري والإستنباط والإستدلال .
ياسادة دعوة التربية البحثية هي ليست على سبيل الترف العلمي الزائد بل هي ضرورة بالغة وأمر إلهي مباشر ودعوة نبوية موجهة ، فقد ترك لنا علماؤنا الباحثين السابقين كنوزاً لو علمنا قيمتها، وبدانا نبيني عليها قواعدنا الراسخة مع مواكبة ما وصل إليه العلم الحديث لتغير حالنا وتبدل موقعنا
[1] نظام المعرفة ومنهج البحث في القرآن الكريم، حامد العطية ، ص31،الزاهر،بغداد،2004
[2] شرح العقيدة الطحاوية ،صدر الدين محمد بن علاء الدين الدمشقي ،تحقيق: أحمد شاكر ،ص 349، وزارة الشؤون الإسلامية،الرياض، ط1/ 1418 هـ
[3] شريعة القرآن من دلائل إعجازه ،محمد بن أحمد المعروف بأبي زهرة ،ص15، دار العروبة ، القاهرة ،1961 م
[4] منهجية البحث العلمي عند علماء المسلمين ،موقع تاريخ الاسلام ، 4/3/2013
[5] المنهج العلمي عند بعض مفكري الإسلام، عبد الرزاق بسرور،6/437 ، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية،1431
[6] whc.unesco.org/en/list/170/
/[7]ar.wikipedia.org/wiki/ C ITEREFUNESCO_World_Heritage_Centre2016
[8] الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ،محمد بن حبان ، تحقيق شعيب الأرنؤوط،باب التوية ، ج2/378 ، مؤسسة الرسالة، بيروت ، ط1/1408 [ صحيح]
([9])الفوائد ،أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد البجلي الرازي،تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ،ج1/269 رقم الحديث (654) مكتبة الرشد – الرياض [حسن] ط1/1412
([10])البحث العلمي واستخدام مصادر المعلومات التقليدية والإلكترونية،ص34،عامر قنديلجي ،اليازوري ، بيروت ،2008
([11])جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،أبو جعفرمحمد بن جرير الطبري ،ج11/486، دار التربية والتراث ، مكة المكرمة ،1431
[12] البحث العلمي واستخدام مصادر المعلومات التقليدية والإلكترونية ، مرجع سابق ،ص 6
[13] قاعدة بيانات البحوث العلمية المنشورة في المجلات العالمية للعلوم والعلوم الإنسانية ” والتابع لمؤسسة تومسون رويترز
[14] واقع البحث العلمي في الوطن العربي، خليل محمد الخطيب ، دراسة وصفية تحليلية ، جامعة صنعاء تاريخ النشر 28/7/2020
[15] المرجع السابق