متابعة السياسة وديناميكيات «التجربة والخطأ» يجب أن تعلّم المحلل السياسي قلة الثقة عندما يسمع ساسة يحاضرون بالأخلاق. إذ ليس هناك أخطر من سياسي يبرّر مصالحه بالأخلاق، وليس هناك ما يقلق أكثر من فرض قوةٍ ما معاييرها الأخلاقية على الآخرين. والمسألة هنا تتجاوز هدف الإدانة إلى التذكير بالتعريف العملي الأميركي للسياسة، كما درسناها في الجامعات، أي «فن الممكن».
هذا «الممكن» ليس أخلاقياً على الدوام، وما هو أخلاقي، كثيراً ما يكون خياراً عالي التكلفة… لدرجة يغدو معها مرفوضاً انتخابياً.
لا أدل على صدق ما أزعمه، سوى مراجعة مسيرة السياسة الأميركية خاصة، سواءً داخل الولايات المتحدة إبّان مرحلة التوسع غرباً، أو في تعاملها خارجياً أيام «الحرب الباردة». ولعل متابعة بعض ما تبثه قناة «سميثسونيان تشانل» الأميركية عن بدايات أميركا وتنامي حجمها، تعطي فكرة واضحة عن «واقعية» السياسة من دون «عمليات تجميل».
الكيان الأميركي قام أصلاً على قهر قبائل الأميركيين الأصليين واقتلاعهم من مواطنهم لأسباب اقتصادية (بعد توقيع مواثيق ومعاهدات معهم)، واستيراد العبيد من أفريقيا والحروب الحدودية مع المكسيك وغيرها، أو شراء الأراضي كحال «صفقة لويزيانا» الضخمة مع فرنسا وشراء آلاسكا من روسيا. وبالتالي، فإن معايير «الأخلاق» لا تنتظم أبداً مع «المصلحة» ببناء قوة عظمى هي اليوم الأقوى والأغنى في العالم. وبصراحة، أقول إن الولايات المتحدة ليست استثناءً. فهذه بالضبط طبيعة الإمبراطوريات وآلية بنائها.
ألم تكن الإمبراطوريات العالمية – بما فيها ممالك أوروبا القديمة ودولة الخلافة الإسلامية – كيانات متعددة الأقوام والأمم، صنعتها جماعة غالبة فرضت ثقافتها ومصالحها على جماعات مغلوبة؟
إن ثقل صدمتنا أمام أقبح الصفقات والتدخلات والاحتلالات التي تعتمدها القوى الكبرى، وآخرها الانسحاب الأميركي من أفغانستان، قد يكون مبرّراً على الصعيدين الفردي والنفسي، لكنه لا علاقة له بـ«فن الممكن». والسبب أن هذه القوى ليست «مبرّات» خيرية، والصراعات في ما بينها تجيز لغات متناقضة، ومصطلحات تبدو فاقعة في كذبها.
ومن ثم، لولا تناقض المصالح بين مستخدمي الألقاب ومروّجي «البروباغاندا»، ما هو الفارق بين «الإرهابي» و«المقاتل من أجل الحرية»؟ وما هو الفارق بين «العدوان» و«حق الدفاع المشروع عن النفس»؟؟… بل بين «أرض محرّرة» و«أرض محتلة»؟؟؟
المسألة، إذاً مسألة مصالح. وما كان معيباً بالأمس غدا مقبولاً اليوم، تماماً كما تغيّرت حسابات «الحرب الباردة» مع دخولنا «الحرب على الإرهاب»، وصار مصدر خجل «تكليف» جلاوزة الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية وشرق آسيا، وكيانات جنوب الصحراء الأفريقية «بمنع» حركات التحرير الشعبية الرافعة راياتها الحمراء من اقتحام عواصم الحكم برشاشات «الكلاشنيكوف».
عند هذه النقطة، لنركز قليلاً على الفرضيات المتصلة بقرار واشنطن سحب عسكرييها نهائياً من أفغانستان بحلول آخر أغسطس (آب) المقبل.
أساساً التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان، يعود إلى استراتيجية زجّ الاتحاد السوفياتي في مستنقع أفغاني استنزافي ضد ميليشيات الإسلام السني السياسي… أي قوات «المجاهدين». وفي حينه لعبت الولايات المتحدة وبريطانيا وباكستان وعدة دول إسلامية وعربية دوراً كبيراً ليس فقط في دعم «المجاهدين» وتدريبهم وإسنادهم، بل في تبجيل حركاتهم وتأليف كتب عن قادتهم وبطولاتهم. ولكن بمجرّد تحقيق الانسحاب السوفياتي وتسارع الترهل والانهيار في موسكو، تغيّرت أولويات واشنطن والقوى الغربية، بصورة استفزت غلاة مناصري «الجهاد» المقتنعين بتصديره من أفغانستان إلى العالم بأسره. وكانت الثمرة الأخطر عالمياً لنقمة هؤلاء شن تنظيم «القاعدة» هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، التي أعادت رسم أولويات تعاطي الغرب مع العالمين الإسلامي والعربي.
وكما نتذكّر، استُغل الأمر لاحتلال أفغانستان وضرب «طالبان» المتعاطفة مع «القاعدة»، ثم العراق عام 2003 و«إنهاء الهيمنة السنّية» عليه – وفق كلام «الحاكم الأميركي الاحتلالي» بول بريمر. وكانت النتيجة الحتمية في العراق تسليمه إلى ملالي إيران، مع أن علاقاتهم بـ«القاعدة» معروفة بعكس نظام بغداد السابق باعتراف بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأميركي. أما في أفغانستان، فقد اندلعت حرب أهلية مدمّرة، سهّلت «شيطنة» الإسلام السنّي السياسي. وهو ما أفاد قادة إيران في اندفاعتهم التوسعية داخل لبنان، ثم سوريا واليمن.
في وجه هذه الاندفاعة، التي تخللها «ربيع عربي» جرى التحكم في مجرياته وحرفه عن أهدافه، كان موقف واشنطن في عهد باراك أوباما ملتبساً. أكثر من هذا، كشفت مقاربة أوباما للوضع السوري، ثم الملف النووي الإيراني، أن لا قلق أميركياً من «تعايُش» أو«تشارُك» مع طهران على حساب حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة. ومع أن الرئيس الجمهوري دونالد ترمب عطّل لمدة أربع سنوات مسيرة الهيمنة الإيرانية فإنه لم يكسرها، بل أعطاها جرعة من «الصدقية» بتبنيه الكامل سياسات اليمين الإسرائيلي المتشدد. كذلك أكد ترمب مراراً أن وجود القوات الأميركية في سوريا مخصص حصراً لمواجهة «داعش»، وأنه عازم على سحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان. واليوم، مع استعادة «فريق أوباما» بقيادة جو بايدن الحكم في أميركا، عادت واشنطن إلى التفاوض مع طهران، والتعاون مع روسيا حول سوريا، وتسريع الانسحاب من أفغانستان.
طبعاً، قرار واشنطن يخصها وحدها، بتركها أفغانستان تحت رحمة «طالبان»، وأيضاً في ترتيب علاقاتها بطهران. لكن المحللين على حق عندما يتساءلون عما إذا كانت هناك غاية استراتيجية حقيقية عند إدارة بايدن في الشرق الأوسط.
مسألة إسقاط النظام الإيراني غير واردة، ولكن هل «تغيير سلوكه… احتمال جدّي؟»…
ثم، إذا كان التعايش مع الإسلام السنّي المتشدد في أفغانستان ممكناً، لماذا تتشدّد واشنطن ضده في مناطق الهيمنة الإيرانية (أي العراق وسوريا ولبنان)؟
وإذا كانت واشنطن متقبلة التعايش مع إيران قوية، فهل يعني ترك مناطق شرقها – حيث تعيش أقلية بلوشية سنّية كبيرة – ساحة مناوشات ابتزازية… تذكّر فيها إدارة بايدن بوجود «سقف» للطموح الإيراني الإقليمي لن ترضى واشنطن لطهران بتجاوزه؟
النظام الإيراني، رغم كل خطب العداء الكاذبة، حاجة جيو – استراتيجية لواشنطن داخل العالم الإسلامي. وضمن الحسابات الجيو – استراتيجية في غرب آسيا، تلعب إيران و«جارتها» أفغانستان دوراً محورياً في مستقبل إدارة واشنطن التعامل مع التحديين الصيني والروسي في المنطقة.
ختاماً، إيران تكبر وتصغر وفق شروط واشنطن… وكل مصطلحات «الإرهاب» و«التطرف» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان»، كما كانت دائماً، مصطلحات استهلاكية مؤقتة.
.
رابط المصدر: