هارولد جيمس
برينستون ــ ربما يتحول تفشي فيروس كورونا المستجد COVID-19، الذي بدأ في ووهان في الصين، إلى وباء عالمي. فقد أكدت نحو 50 دولة حالات الإصابة بالفيروس، في حين لا تزال الطبيعة الدقيقة لآلية انتقال العدوى غير واضحة.
إن الأوبئة ليست مجرد مآسي عابرة من المرض والموت. فوجود مثل هذه التهديدات الواسعة النطاق في كل مكان تقريبا، وما يرافقها من غموض وخوف، يؤدي إلى نشوء سلوكيات ومعتقدات جديدة. فيصبح الناس أكثر تشككا واستعدادا لتصديق أي شيء. الأمر الأكثر أهمية هو أنهم يصبحون أقل استعدادا للتعامل مع أي شيء يبدو أجنبيا أو غريبا.
لا أحد يعلم إلى متى قد يستمر وباء COVID-19. وإذا لم يصبح أقل عدوى مع قدوم الطقس الربيعي في نصف الكرة الشمالي، فربما يضطر السكان المتوترون في مختلف أنحاء العالم إلى انتظار تطوير لقاح وطرحه للاستخدام العام. ويتمثل متغير رئيسي آخر في مدى فعالية سلطات الصحة العامة، والتي هي أقل كفاءة بشكل واضح في العديد من البلدان مقارنة بحالها في الصين.
على أية حال، بدأ إغلاق المصانع وإيقاف الإنتاج يعطلان بالفعل سلاسل الإمداد العالمية. ويتخذ المنتجون الآن التدابير الكفيلة بتقليل تعرضهم لنقاط الضعف المرتبطة بالمسافات البعيدة. حتى الآن، على الأقل، كان المعلقون الماليون يركزون على حسابات التكلفة لقطاعات بعينها: فشركات صناعة السيارات تشعر بالقلق بشأن نقص قطع الغيار؛ وشركات صناعة المنسوجات محرومة من الأقمشة؛ ويفتقر تجارة التجزئة في مجال السلع الفاخرة إلى العملاء؛ أما قطاع السياحة، وخاصة سفن الرحلات البحرية، فقد تحول إلى مرتع للعدوى.
لكن التأمل في ما قد يحمله هذا المناخ الجديد من عدم اليقين للاقتصاد العالمي في عموم الأمر كان ضئيلا نسبيا. ففي التفكير في العواقب البعيدة الأمد المترتبة على أزمة فيروس كورونا المستجد، سيحاول الأفراد، والشركات، وربما حتى الحكومات، عزل أنفسهم عبر عقود طوارئ معقدة. من السهل أن نتخيل ابتكار منتجات مالية جديدة لتعويض منتجي السيارات في حالة وصول الفيروس إلى مستوى معين من الفتك. بل وربما يتسبب الطلب على عقود جديدة في تغذية فقاعات جديدة، مع تكاثر إمكانات جَـني المال.
يقدم لنا التاريخ سوابق مثيرة لما قد يأتي لاحقا. لنتأمل هنا الأزمة المالية الشهيرة التي أعقبت “هوس الزنبق” في هولندا في الفترة من 1635 إلى 1637. الواقع أن هذه الواقعة معروفة بشكل خاص لأن الدروس المستفادة منها اكتسبت شعبية خاصة بعد أن أوردها الصحافي الأسكتلندي تشارلز ماكاي في كتابه الصادر في عام 1841 بعنوان “ذكريات حول الأوهام الشعبية غير العادية وجنون الحشود”. يرى ماكاي أن أزمة الزنبق (زهرة التيوليب) كانت صورة مسبقة لاندفاع رؤوس أموال المضاربة إلى السكك الحديدية وغيرها من التطورات الصناعية في أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية خلال حياته. في مختلف أجزاء كتابه يستخرج من تلك الواقعة كل ما يحيط بها من فكاهة وطرافة، فيروي قصصا عن بحارة جهلة يبتلعون حرفيا ثروة ضخمة عندما يخلطون بالخطأ بين بصيلات الزنبق والبصل.
ولكن كما تذكرنا المؤرخة الثقافية آن جولدجار، أهمل ماكاي ذِكر حقيقة مفادها أن هوس الزنبق تزامن مع ارتفاع الوفيات إلى حد استثنائي بالطاعون، الذي نشرته الجيوش التي كانت تخوض حرب الثلاثين عاما. ضرب الطاعون هولندا في عام 1635، وبلغ ذروته في مدينة هارلم في الفترة من أغسطس/آب إلى نوفمر/تشرين الثاني من عام 1636، وهذه هي على وجه التحديد الفترة التي انتشر فيها هوس الزنبق.
كان اندفاع رؤوس أموال المضاربة إلى بصيلات الزنبق مدفوعا بموجة من الثروات النقدية غير المتوقعة التي آلت إلى ورثة ضحايا الطاعون. عمل الزنبق عمل سوق العقود الآجلة، لأن تداول البصيلات كان يجري خلال فصل الشتاء عندما لم يكن بوسع أحد أن يفحص طبيعة الزهرة. كما أصبحت موضوعا لعقود تتسم بالتعقيد، كتلك التي نصت على دفع ثمن معين إذا ظل أبناء المالِك على قيد الحياة حتى فصل الربيع (وإلا فإن البصيلات كانت تُــنْـقَل دون مقابل).
كانت المضاربة المالية في هذه البيئة الوحشية المروعة وليدة عدم اليقين. ولكن كان يُـعاد تفسيرها غالبا على أنها دليل على المادية الرعديدة، حيث يمثل الانهيار لائحة اتهام من أشكال الترف الشيطاني والعجائب الأجنبية. فالزنبق زهرة قادمة في الأصل من ثقافة أجنبية غريبة ناشئة في تركيا العثمانية.
كما هي الحال اليوم، أنتجت أوبئة الطاعون في العصر الحديث المبكر في أوروبا نظريات المؤامرة على نطاق واسع. وكلما كان أصل المرض أقل وضوحا، كلما ارتفع احتمال عزوه إلى تأثير خبيث ما. وجرى تداول القصص حول أشخاص أشرار مُـقَـنَّعين ينتقلون من باب إلى باب و”يمسحون” الأسطح بمواد معدية. وكانت أصابع الاتهام موجهة إلى الغرباء ــ التجار والجنود الأجانب ــ فضلا عن الفقراء المهمشين، باعتبارهم الجناة.
مرة أخرى، يقدم لنا مصدر من القرن التاسع عشر دروسا قوية ليومنا هذا. في رواية للكاتب أليساندرو مانزوني التي نشرت في عام 1827 بعنوان “المخطوبون”، تبلغ الحبكة ذروتها أثناء تفشي الطاعون في ميولانو في ثلاثينيات القرن السابع عشر، والذي اعتُـبِر آفة جلبها الأجانب، وخاصة أسرة هابسبورج الإسبانية الأجنبية التي حكمت ميلانو. وأصبحت الرواية تشكل حافزا قويا للنزعة القومية الإيطالية خلال النهضة الإيطالية.
ليس من المستغرب أن يصب وباء COVID-19 بالفعل في مصلحة السرد القومي اليوم. فيرى بعض الأميركيين أن الأصول الصينية للمرض ستؤكد ببساطة على الاعتقاد بأن الصين تشكل خطرا على العالَم، ومن غير الممكن أن نثق في تصرفها على نحو مسؤول. في الوقت ذاته، من المحتمل أن يرى العديد من الصينيين أن بعض التدابير الأميركية لمكافحة الفيروس لها دوافع عنصرية وتستهدف منع صعود الصين. وبالفعل، بدأت تنتشر نظريات المؤامرة حول تخليق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للفيروس. وفي عالَم تغمره معلومات كاذبة مضللة، فإن الفيروس COVID-19 يَـعِد بجلب المزيد منها.
كما أوضح المؤرخ الهولندي يوهان هوزينجا، فإن الفترة التي تلت الموت الأسود في أوروبا تبين أنها كانت نذيرا “باضمحلال القرون الوسطى”. وهو يرى أن القصة الحقيقية لم تكن في الآثار الاقتصادية التالية المترتبة على الوباء وحسب، بل وأيضا في الباطنية الروحانية، واللاعقلانية، وكراهية الأجانب التي جلبت في آخر الأمر نهاية الثقافة العالمية. على نحو مماثل، من المحتمل تماما أن يعجل فيروس كورونا المستجد COVID-19 “باضمحلال العولمة”.
رابط المصدر: