تنشر “المجلة” ثماني حلقات تسلط الضوء على حرب حصلت قبل أربعة عقود بناء على وثائق وشهادات ومحاضر رسمية سورية سرية، مع رصد لبعض الخيوط بين الحرب تلك والحرب الحالية، والدروس التي يمكن إسقاطها عليها:
1- الحلقة الأولى: “أبو نضال” يوفر “ذريعة” الاجتياح… وإيران تؤسس “حزب الله” بمظلة سورية
2- الحلقة الثانية: رسالة من بيغن إلى الأسد: لا نريد قتالكم في لبنان… ويجب إبعاد الفلسطينيين
3- الحلقة الثالثة: إسرائيل تحاصر بيروت… وعرفات “جن جنونه” قبل أن يستسلم
4- الحلقة الرابعة: أميركا تطلق “الخفاش الأزرق” في لبنان… وتطالب الأسد بطرد “مجانين إيران”
5- الحلقة الخامسة: شولتز يخيّر الأسد بين “اتفاق 17 مايو” و”احتلال إسرائيلي دائم”… ودمشق تلوّح بقصف مطار بيروت
لندن – الغزو البري الأول للبنان في سنة 1978 الذي سمي “عملية الليطاني”، جاء بعد سنتين من تدخل الجيش السوري، ونحو ثلاث سنوات على الحرب الأهلية التي مزقت الجيش، وفتحت الجنوب للمقاتلين الفلسطينيين الذين انتقلوا إليه من الأردن عقب “أيلول الأسود” في 1970.
وفي يوليو/تموز سنة 2006، حصل التدخل البري الثالث، بعد ست سنوات من انسحاب إسرائيل من الجنوب، وسنة من خروج الجيش السوري، عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005 وصدور القرار 1559 الذي يدعو إلى “نزع سلاح الميليشيات”.
وبين الحرب الأولى والثالثة، واجتياح عام 1982 واحتلال بيروت، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية وتفتت الجيش وانقسامات سياسية هائلة. كان هدف الحرب الذي وضعه وقتذاك، رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن ووزير الدفاع آرئيل شارون طرد رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية” ياسر عرفات ومقاتليه. كان عرفات كثير الأعداء، وقليل الحلفاء الذين من بينهم الرئيس العراقي صدام حسين، الذي كان يخوض حربا ضد إيران بدأها بعد سنة من انتصار “الثورة الخمينية” في 1979.
غيتي
مناحيم بيغن، 30 يونيو 1982
لم يكن هذا هو التعقيد الوحيد في المشهد الإقليمي، فالأسد يخوض صراعا ضد “الإخوان المسلمين” وسط بوادر لطموح من شقيقه الأصغر رفعت في السلطة، خصوصا بعد مرضه (حافظ الأسد). انحاز الرئيس السوري إلى “المرشد” الإيراني في الحرب ضد صدام. والتنسيق بين الأسد والخميني، تم التعبير عنه بتمهيد الأرضية لقيام “الحرس الثوري” بتأسيس الخلايا الأولية لـ”حزب الله” في سهل البقاع في يونيو/حزيران 1982.
شهدت بداية الثمانينات انقسامات عربية–عربية على خلفية اتفاق “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل عام 1978، والحرب العراقية-الإيرانية بدءا من 1980. لكن كان هناك حد من التعاون العربي في لبنان تمثل في إرسال “قوات الردع” في 1976 وبدء تنسيق عربي مع دمشق وصولا إلى “اتفاق الطائف” في 1989 برعاية سعودية–سورية.
قبل 1982 كانت الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي لا تزال قائمة. وبالفعل ظهرت ملامحها في الأزمات الكبرى في الإقليم، بما في ذلك حرب لبنان، حيث برز دور واشنطن وموسكو فيها من خلال دعم كل منهما طرفا في الحرب الأهلية. وعندما قررت أميركا البقاء عسكريا في لبنان، بعد خروج عرفات في أغسطس/آب 1982، بررت ذلك في اتصالاتها السرية بأنها تريد “مواجهة المد الشيوعي” و”النفوذ الإيراني” قبل أن تصطدم بالهجوم على “المارينز” في 1983.
ورغم التحالف الكبير بين أميركا وإسرائيل، لم يتوان الرئيس رونالد ريغان في مواجهة بيغن والضغط عليه سياسيا وعسكريا وعبر الأمم المتحدة، سواء بالنسبة لقصف بيروت أو شروط إخراج أبو عمار أو اتفاق 17 مايو/أيار للسلام بين بيروت وتل أبيب، ودعم الرئيس أمين الجميل، ونقل الرسائل بين بيغن والأسد وإنجاز بعض الترتيبات العسكرية لنزع فتيل مواجهة مباشرة، كانت إحداها أزمة الصواريخ في 1981.
استفرد “حزب الله” بلبنان وعزز علاقته مع الرئيس بشار الأسد، وساهم مع إيران في “إنقاذ النظام” السوري بعد 2011، وهو الآن يخضع لحرب غير مسبوقة من قبل إسرائيل
خرج عرفات وانسحبت أميركا وحصلت اغتيالات وتغييرات في الموازين اللبنانية، ورعت سوريا والسعودية “اتفاق الطائف” في 1989، وزاد النفوذ السوري في لبنان. أما إسرائيل، فانكفأت إلى الجنوب لحين خروجها قبل شهر من وفاة الأسد في يونيو 2000، بعد فشل مفاوضات السلام السورية–الإسرائيلية.
وبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005، خرج الجيش السوري من لبنان في شهر أبريل/نيسان من العام نفسه. وبعد سنة من ذلك حصل الهجوم الإسرائيلي الثالث. إنه التدخل البري الثالث في أعقاب حرب يوليو سنة 2006، بعد خروج الجيش السوري في أبريل 2005 عقب اغتيال الحريري في 14 فبراير السابق وصدور القرار 1559 الذي يدعو إلى “نزع سلاح الميليشيات”.
حرب يوليو، التي حصلت قبل 18 سنة، بين “حزب الله” وتل أبيب، انتهت بصدور القرار 1701 الذي تضمن تأكيدا على القرار 1559، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب وعودة مقاتلي “الحزب” إلى ما وراء نهر الليطاني.
لكن لا شيء من بنود 1701 طُبق. وجاءت الحرب الإسرائيلية الرابعة في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2024، بعد اختراقات أمنية لـ”حزب الله” واغتيال قادته بمن فيهم الأمين العام حسن نصرالله، والهدف المعلن تطبيق 1701، أي إبعاد قوات النخبة في “الحزب” إلى ما وراء الليطاني.
وبالتزامن مع الحرب الإسرائيلية الرابعة في لبنان، تنشر “المجلة” وثائق ومحاضر ورسائل سرية سورية تسلط الضوء على جوانب جديدة من الحرب الثانية، أي اجتياح عام 1982، منذ بدايته حتى إخراج عرفات ومرورا بتأسيس “حزب الله” بقرار إيراني، وتسهيل سوري وتفجير مقر “المارينز” وانسحاب القوات الأميركية بعد تبادل “رسائل الغرام والتهديد” بين الرئيس رولاند ريغان والأسد.
غيتي
جنود إسرائيليون في مركبة مدرعة في شوارع مدينة صيدا الساحلية اللبنانية أثناء الاجتياح الجيش الإسرائيلي المسمى “عملية سلام للجليل”، في يونيو 1982
بعد ذلك استفرد “حزب الله” بلبنان وعزز علاقته مع الرئيس بشار الأسد، وساهم “الحزب” مع إيران في “إنقاذ النظام” السوري بعد 2011، وهو الآن يخضع لحرب غير مسبوقة من قبل إسرائيل. تل أبيب تقول إن الهدف هو تطبيق القرار 1701 الذي صدر بعد حرب 2006 وتضمن انسحاب “حزب الله” إلى ما وراء الليطاني وانتشار الجيش اللبناني بدلا منها. وهناك من يعتقد أن الهدف هو تطبيق القرار 1559 الذي تضمن، إضافة إلى انسحاب الجيش السوري، “نزع سلاح الميليشيات”، أي “حزب الله”.
تسلط هذه الحلقات، الضوء على حرب حصلت قبل أربعة عقود بناء على وثائق وشهادات ومحاضر رسمية سرية
هناك تقاطعات بين اجتياح 1982 وهجوم 2024، وهناك فروق كثيرة في لبنان والإقليم والمشهد العالمي. وبين الأمور الدالة إلى التشابكات القائمة بين الحربين اللتين تفصل بينهما أربعة عقود، إن فؤاد شكر وإبراهيم عقيل، القياديين في “حزب الله”، واللذين اغتالتهما إسرائيل في الأسابيع الأخيرة، كانا مشاركين في الهجوم على “المارينز” في 1983. وقتذاك لم يكن “حزب الله” قد تشكل رسميا، كانت تنظيمات وخلايا بينها “الجهاد الإسلامي” تنمو بانتظار الإعلان الرسمي عن “الحزب”.
أ.ف.ب
الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يظهر بين أنصاره في بيروت خلال الأيام الأولى للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982
وإذ نبدأ بنشر حلقات عن حرب 1982، لا بد من الإشارة إلى نقطتين:
الأولى، سبق أن تناولنا بعض الجوانب المتعلقة بحصار إسرائيل لبيروت، ونشرنا وثائق خروج عرفات من بيروت في أغسطس 1982. لكن هذه المرة ننشر جوانب تقدم رواية من وثائق ومحاضر رسمية سورية، لنحو سنتين من الحرب التي أسفرت في فبراير 1984 عن انسحاب مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، حيث بدأ التراجع الأميركي، تزامنا مع انسحاب القوات الإسرائيلية بداية إلى نهر الأولي ثم إلى “المنطقة الآمنة” في الجنوب، لتبقى القوات السورية وحدها في الميدان سنوات طويلة إلى حين انسحابها في 2005.
ثانيا، تسلط هذه الحلقات، الضوء على حرب حصلت قبل أربعة عقود بناء على وثائق وشهادات ومحاضر رسمية سرية، نقلها نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم خدام معه من دمشق إلى باريس في 2005، مع رصد لبعض الخيوط بين الحربين، والدروس التي يمكن إسقاطها على الحرب الرابعة. هذه الحلقات لا تمثل وثيقة تاريخية لاجتياح 1982، بل هي رواية تستند إلى وثائق ومحاضر ورسائل تخص بعض جوانب الحرب وليس جميعها التي يملك سياسيون في لبنان والمنطقة والعالم جوانب وروايات ووثائق أخرى عنها.
غدا الحلقة الأولى:
“أبو نضال” يوفر “ذريعة” الاجتياح… وإيران تؤسس “حزب الله” بمظلة سورية