يعيش الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حالة من الاختناق الأمني بعد أن سلطت مذكرة تفتيش حكومية صادرة من مكتب التحقيقات الفيدرالية الضوء على وثائق سرية أخفاها بمنزله الذي أطلق عليه “البيت الأبيض الشتوي”، والتي يواجه بسببها اتهامات تتعلق بالتجسس وانتهاك قوانين الأمن القومي الأمريكي؛ إذ يُزعم أنه أساء التعامل مع معلومات دفاعية أمريكية حساسة بشكل غير قانوني.
تفتيش منزل رئيس سابق لأول مرة في التاريخ الأمريكي
احتفظ الرئيس السابق بالوثائق في منزله بـ “مار إيه لاجو” في بالم بيتش بولاية فلوريدا، بعد أن نقلها من البيت الأبيض، معرضًا المخابرات الأمريكية للخطر بشكل خاص بالرغم من الجهود المبذولة حينها لتأمين المنزل ماديًا، لكن كان من الصعب أن يتم فحص ضيوف الرئيس وأعضاء المنزل بشكل دوري لضمان سلامة تخزين هذه المستندات.
وبعد الهجوم المثار، قلل ترامب من شأن الأشياء التي تمت مصادرتها، وأعلن في بيان على منصته للتواصل الاجتماعي “Truth Social” أن هذه السجلات رُفعت عنها السرية بواسطة الصلاحيات الواسعة الممنوحة له حينها، والتي تمكنه من إزالة صفة السرية عنها، ومؤكدًا أنه تم الاحتفاظ بها في مخزن آمن، وهو أول أمر سيستخدمه دفاع ترامب في هذه القضية.
بالرجوع إلى عام 2021، وبعد محاولات من الأرشيف الوطني، إلى جانب وزارة العدل، بإقناع ترامب بتسليم ما يملك من الوثائق الحكومية، قاموا باستعادة 15 صندوقًا فقط تحتوي على خرائط وتذكارات وهدايا وسجلات سرية، بالإضافة إلى بعض مراسلات ترامب مع زعيم كوريا الشمالية ورؤساء دول أخرى، وخريطة إعصار دوريان، وتم تمييز بعض المستندات المعادة على أنها “معلومات سرية للأمن القومي”، ما أثار الشكوك بأن هناك المزيد.
وتصاعدت الدعوات لإصدار مذكرة بحث لضمان الحصول على كافة الوثائق المفقودة، وتطلب الحصول على مذكرة لتفتيش منزل الرئيس السابق، إقناع المدعي العام “ميريك ب. جارلاند”، والقاضي “بروس راينهارت” بأن ترامب قد يكون اخترق القوانين، وأنه لم يسلم كافة الوثائق التي تحتوي على معلومات حساسة، وسط مخاوف شديدة أخرى تتعلق بمكان حفظها الذي يرتاده زوار أجانب وغيرهم ممن لهم صلات بحكومات أجنبية ووكلاء أجانب، والتشديد على أنه لا يوجد شخص فوق القانون، حتى لو كان رئيسًا سابقًا للولايات المتحدة.
وبالفعل صدرت المذكرة في الخامس من أغسطس الجاري، وتم التنفيذ يوم 8 أغسطس، ووجد عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي 11 مجموعة من الوثائق السرية، مصنفة ما بين معلومات “مجزأة”، و”حساسة” و”سرية للغاية”، فضلًا عن ملفات متعلقة بالعفو الصادر عن “روجر جيه ستون جونيور”، الشريك القديم لترامب، الذي أدين عام 2019 بالكذب على الكونجرس أثناء تحققه من التدخل الروسي في انتخابات 2016 (أصدر ترامب عفوًا عن ستون قبل مغادرة منصبه، ووقع على قرار بحمايته من عقوبة السجن لمدة 3 سنوات)، وملفات تتعلق بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وانتشر خبر عن صحيفة “واشنطن بوست” قالت فيه إن عناصر مكتب التحقيقات كانوا يبحثون بالأساس عن وثائق مرتبطة بالأسلحة النووية بمنزل ترامب، ولكنه نفى هذا الأمر معتبرًا أن قضية الأسلحة النووية خدعة، وأن شأنها شأن الجدل المثار عن روسيا وتدخلها في انتخابات 2016. ويعد هذا التفتيش تصعيدًا كبيرًا للتحقيق في وثائق سرية مفقودة، وتعد المرة الأولى في التاريخ الأمريكي التي يتم فيها تفتيش منزل رئيس سابق كجزء من تحقيق جنائي.
ما التهم التي يواجهها ترامب؟
ما يجعل للأمر قيمة مضاعفة هو أن ترامب في هذه اللحظة الحرجة ليس مجرد رئيس سابق، إنما مرشح محتمل لانتخابات الرئاسة القادمة، وهو الآن يخضع لتحقيق فيدرالي لانتهاكات محتملة لقانون التجسس الأحادي الذي يحظر حيازة أو نقل معلومات دفاعية أمريكية، وهي سابقة تعد الأولى من نوعها؛ فلم يتم توجيه اتهام مثل هذا ضد رئيس سابق من قبل، وقد يصل الأمر إلى اتهام ترامب بالتجسس لصالح دولة أخرى.
جاء الأمر بعد إعلان ترامب نفسه أن منزله يخضع للتفتيش (كان الأمر سريًا في البداية وفقًا لبروتوكول العدالة)، ومطالبة الجمهوريين بظهور رسمي للمذكرة الصادرة من قبل وزارة العدل والتي أثارت المخاوف بشأن الأمن القومي، والمتهمة لترامب بإعاقة سير العدالة والتحقيقات، والتعامل الجنائي مع السجلات الحكومية، وتعمد إخفائها وإتلافها. ووفقًا لما تم مصادرته (والذي سمح ترامب بعرضه أمام المحكمة)، فإن هناك أدلة تثبت أن ترامب انتهك ثلاثة قوانين تختص بسوء التعامل المتعمّد مع الوثائق الرئاسية بغض النظر عما إذا كانت الوثائق مصنفة أم لا.
القانون الأول، القسم 793 من الباب 18 من قانون الولايات المتحدة، والمعروف باسم “قانون التجسس”، ويمنع الحيازة غير المصرح بها لمعلومات الدفاع الوطني والتي يمكن أن تضر بالولايات المتحدة أو تساعد خصمًا أجنبيا سواء كانت هذه المعلومات سرية أم لا، وهي عقوبة تصل إلى 10 سنوات من السجن. وعلى الرغم من اسمه، فإن قانون التجسس لا يقتصر على حالات التجسس لصالح قوة أجنبية فقط، بل إنه صيغ بطريقة تغطي على نطاق أوسع إساءة التعامل مع الأسرار المتعلقة بالأمن، وكثيرًا ما استخدمته الحكومة لمقاضاة المسؤولين الذين سربوا معلومات إلى وسائل الإعلام.
أما القانونان الآخران، فهما يندرجان تحت الباب 18 من قانون الولايات المتحدة، القسم 2071، و1519، ويحظران إخفاء أو إتلاف أي وثائق رسمية أمريكية بقصد عرقلة أو إعاقة أو التأثير على التحقيقات، وعقوبتهما تبدأ من السجن ثلاث سنوات، وتصل إلى 20 سنة، ولا يشترط أن تكون المعلومات المعنية سرية، ويتبع هذا القانون عقوبة أخرى، وهي: “منع المدعى عليه من تولي منصب فيدرالي بسبب عدم الأهلية لتولي منصب عام”.
والمفارقة في الأمر أنه في عام 2018 وقع ترامب بنفسه على تغيير في القانون من شأنه زيادة عقوبة السجن القصوى للأفراد المدانين بسوء التعامل مع المعلومات السرية من سنة إلى خمس سنوات، أي تحويلها من جنحة إلى جناية، وقد قام بهذا من أجل توجيه ضربة إلى هيلاري كلينتون، خصمته في انتخابات 2016، والتي أراد ترامب حبسها بسبب تعاملها الغير مبالي مع المعلومات السرية عندما كانت وزيرة خارجية للرئيس الأسبق أوباما.
وحتى الآن، لا أحد يعرف لماذا حصل ترامب على هذه الوثائق. هل أراد منعها من المراجعة؟ هل كان يخطط لاستخدامها لأغراضه الخاصة؟ هل تثبت إدانته بتهمة تقويض بلاده والتستر عليها؟ كل هذه تساؤلات تدور في الأذهان منذ لحظة التفتيش وحتى هذه اللحظة، خاصة وأن مذكرة وسرد المواد المستلمة لم تذكره بالاسم، ولم توجه أي اتهامات لأي شخص حتى الآن، ولهذا، فمن المتصور أن الجرائم المدرجة ستشمل مشتبهًا بهم آخرين.
ولكن وفقًا لخبراء بالقانون حول الوضع الحالي، فإن موافقة وزارة العدل والموافقة القضائية على أمر التفتيش لا تعني بالضرورة أن ترامب نفسه مشتبه به بارتكاب جريمة، وأنه من غير المرجح أن يمنع ترامب من الترشح للرئاسة مرة أخرى إذا أدين بالفعل بانتهاك القوانين المذكورة أعلاه، لأن حينها سيكون الدستور له أسبقية على القانون.
أما عن زعم ترامب بأنه ألغى السرية عن المستندات، فيؤكد خبراء أن السلطات الدستورية التي تسمح لرئيس بإلغاء السرية عن الوثائق لا تنطبق على السجلات المصنفة على أنها سرية للغاية أو أعلى، لأن المعلومات الواردة فيها عادة ما تكون محمية بموجب قوانين اتحادية أخرى مصممة للتأكد من عدم وقوعها في الأيدي الخطأ، هذا يتضمن معلومات عن تكنولوجيا الأسلحة النووية والعمليات السرية والتجسس والمصادر والأساليب العسكرية وأسرار حكومية أخرى، وقد تكون المعلومات المصادرة فعلًا لا أهمية خطرة لها كما أكد ترامب.
ويرى الخبراء أن السلطات الفيدرالية لا تحتاج إلى مقاضاة ترامب إذا استعادت كل ما تبحث عنه، إذ إن لديها حجة أقوى بكثير عندما يتعلق الأمر بأحداث الشغب المؤيدة لترامب في “الكابيتول هيل” في 6 يناير 2021، وهي القضية التي تندرج تحت بند الخيانة أو الانقلاب وإشعال الفتن، وهي بالطبع أكثر خطورة، وبثبوتها قد تكتب نهاية حياته المهنية في مجال الأعمال والسياسة.
تاريخ ترامب في “تسريب” المعلومات
كرئيس، تبادل ترامب خلال فترة ولايته المعلومات أحيانًا بغض النظر عن حساسيتها، ففي وقت مبكر من رئاسته مثلًا، كشف بشكل عفوي عن معلومات في غاية السرية لوزير الخارجية الروسي حول عملية مخططة لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حدث ذلك عام 2017.
وفي العام نفسه، اجتمع ترامب مع رئيس الوزراء الياباني آنذاك شينزو آبي على مائدة عشاء في الهواء الطلق بينما كان الضيوف يتحركون في القرب ويسمعون ويلتقطون الصور، ليتخلل العشاء تجربة صاروخية لكوريا الشمالية، وكان الضيوف يسمعون بينما كان ترامب وآبي يفكران فيما سيقولان ردًا على ذلك.
وفي شهر أبريل من نفس العام، ومن منزل ترامب بفلوريدا، قرر الرئيس السابق شن غارات جوية على سوريا ردًا على استخدام النظام أسلحة كيماوية، واتُخذ هذا القرار بينما كان يستعد لتناول العشاء مع الرئيس الصيني الزائر شي جين بينج، وقد أبلغه ترامب بالضربات الجوية.
وعُرف عن ترامب كذلك أنه كان يعقد اجتماعات حساسة ويتبادل معلومات استخباراتية بشأن حروب محتملة بشكل يتساهل مع الأمن في أماكن غير مخصصة لذلك، لدرجة أنه كان محتملًا أن يتم التجسس عليه أو تصويره دون أن يعلم؛ ففي عام 2019، تفاخر ترامب أمام أحد المراسلين بالمعلومات النووية التي بحوزته، واصفًا نظامًا سريًا للأسلحة النووية كان يَنسِب إليه الفضل في إنشائه، مؤكدًا أن بوتين نفسه لا يستطيع أن يصل بخياله إلى نظام الأسلحة الجديد الذي تمتلكها الولايات المتحدة.
الحزب الجمهوري بين احترام القانون والاضطهاد السياسي
بعد تفتيش منزل ترامب، تباينت ردود الأفعال وانقسمت بشكل حاد في وقت يُقيَّم فيه ترامب إمكانية خوضه السباق الرئاسي المقبل، فقد كافح الجمهوريون للالتقاء حول كيفية الرد على مذكرة تفتيش مكتب التحقيقات الفيدرالي، وانقسموا حول ما إذا كانوا سيقومون بمهاجمة جهات إنفاذ القانون الكبرى في البلاد ودعم ترامب، أو الهدوء ومراقبة مرور هذه العاصفة بسلام.
البعض منهم قام بإطلاق تصريحات مفادها أن الرئيس السابق هو هدف سياسي مضطهد، وأن التفتيش ينم عن “انحياز حزبي” من جانب وزارة العدل، وأنه يتم تشويه صورته من أجل إعاقة ترشحه المقبل لعام 2024 والتشويش على شعبيته، وسط دعوات لقطع التمويل عن مكتب التحقيق الفيدرالي، واتهامه بالفساد وإساءة استخدام السلطة ومهاجمته. بينما صمت البعض الآخر مراقبًا ما ستؤول إليه التحقيقات، مطلقين تحذيرات بالهدوء والتقليل من التصريحات قدر الإمكان، والتقليل من حدة الهجوم على وزارة العدل، مؤكدين دعمهم لإنفاذ القانون.
ووفقًا لاستطلاع رأي أجرته “Politico”، انقسمت الآراء بين الأحزاب السياسية حول السبب الحقيقي للتفتيش، بين حقيقة وجود ما يثبت أن ترامب بحوزته مستندات حساسة، وأنه أساء التعامل معها، وبين أنها بهدف الإضرار بسمعته السياسية، رافضةً تصرف مكتب التحقيق الفيدرالي.
ولكن نظرية المؤامرة لا تغيب عن المشهد، فيرجح بعض الجمهوريين أن الرئيس بايدن هو الذي أصدر أمرًا بالتفتيش، وأن مكتب التحقيقات الفيدرالي هو من زرع الأدلة؛ لتوريط ترامب وإثارة الرأي العام مع اقتراب الانتخابات، خاصة بعد طلب عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي “FBI” من الجميع مغادرة المبنى. وعدم السماح لأحد بمراقبة عملية التفتيش، وعقب انتهاء البحث، أطلق ترامب ووسائل الإعلام المحافظة لأول مرة دفاعًا جديدًا تحت عنوان “ماذا عن أوباما؟”.
يستشهد حلفاء ترامب بما فعله أوباما عقب انتهاء ولايته؛ إذ قام الرئيس السابق بشحن 30 مليون سجل إلى مكتبته الرئاسية بشيكاغو، ومن المؤكد أنها تحتوي على مواد حساسة. والجدير بالذكر أن الأرشيف الوطني لم يطالب باستعادة ورقة واحدة منه، ما يؤكد –حسب رؤيتهم- أن هناك معايير مزدوجة في التعامل بين الرئيسين السابقين.
أين يقف الأمريكيون الديمقراطيون من المشهد؟
على الرغم من أن ترامب أكثر شخصية تثير الانقسام، إلا أنه لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة في الحزب الجمهوري مع إصراره بأنه الفائز في انتخابات عام 2020، ولكن ما تداعيات الأحداث الأخيرة على خصومه الديمقراطيين وصولًا إلى إدارة بايدن؟
مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي، يريد الديمقراطيون حدوث أي شيء يعيق الخصم الجمهوري ويبعده عن المشهد، فنجد حرصهم مثلًا على تسريع الخطوات في التحقيق المصاحب لانتفاضة 6 يناير، بالإضافة إلى الضغوطات المكثفة على المدعي العام للتحرك بسرعة ضد ترامب، ووضعه في مآزق قانونية. ولكن تفتيش منزل الرئيس السباق دفع مؤيديه للتزايد إلى مستوى أعلى من المعتاد، فبعد أن كان نصفهم يحاول الابتعاد عنه، وصل تأييده لمعدل 58%، وهو نذير خطر للديمقراطيين الذين جاهدوا الفترة السابقة من أجل السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب وإبعاد ترامب وأنصاره عن صدارة المشهد السياسي، لتنقلب الآية ويصبح ترامب وأنصاره هم المستفيدين الوحيدين مما يحدث.
وعن الرئيس بايدن، يبدو أن الأضواء قد سحبت منه، فبعد الاحتفال بأعظم إنجازاته بعد عدة أزمات، وتمرير عديد من التشريعات الرئيسة ومقتل زعيم تنظيم القاعدة ” أيمن الظواهري”، ووجود دلالات على استقرار التضخم، أعطت عملية التفتيش حياة جديدة لمنافسه ترامب، وأعادت بروزه إلى المشهد مجددًا في وقت حرج تتراجع فيه نسبة شعبية الرئيس الحالي إلى أقل من 40%، ما يشكل خسارة معنوية كبيرة في الوقت الذي يعتزم فيه البدء بعدة جولات من أجل تعزيز الخطط المدرجة بأجندته، وهي أمور أهم تريد إدارة بايدن التركيز عليها، بدلًا من الاهتمام بصراع ترامب مع القضاء، الذي يبدو أنه سيظل في قلب المشهد السياسي والإعلامي الأميركي لفترة طويلة.
.
رابط المصدر: