وثيقة «العمل معا لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط»، التى تشارك فيها كل من «ناصر القدوة» وزير خارجية السلطة الفلسطينية الأسبق، و«إيهود أولمرت» رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، تكمن جدارتها بالتأكيد من وجهة النظر العربية أنها تنطلق من مبدأ حل الدولتين، الذي يعمل نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بشكل معلن منذ بداية الحرب على غزة فى أكتوبر الماضى على نسف هذا المبدأ، باعتباره مرجعية حتى عندما يحين أوان التسوية المنتظرة. وهذا يضع القضية الفلسطينية في مفترق طرق حقيقي؛ كون التيار الإسرائيلي الذي يقوده نيتانياهو يرسخ طوال الوقت، مقولة إن العملية التي تعرضت لها إسرائيل فى السابع من أكتوبر الماضى هى نتاج لـ«اتفاقية أوسلو» التي باتت مرفوضة من هذا التيار النافذ داخليا، ويتجهز بجدية للانقلاب عليها عبر حشد جمهور المستوطنين حول هذا المفهوم، لترسيخ الأمر فور انتهاء الحرب على غزة. هذا قطعيا يكسب وثيقة القدوة ـ أولمرت مزيدا من الأهمية، فالمنتظر بشكل واضح لا لبس فيه أن هناك حرب مرجعيات سياسية ستفرض نفسها على المشهد، ترتيبا لما بعد الحرب على غزة، وأهم إشارة صدرت من هذا التيار ومازالت قيد الطرح، هو الرفض القاطع من جانب إسرائيل لعودة السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة كبديل لحماس، والرفض واسع بقدر عدم الموافقة على أي من أشكال تلك الإدارة، فهو كما يشمل الإدارة الكلية والعودة بالوضع إلى ما قبل 2007، فهو أيضا امتد لينسف محاولات ترتيب إدارة المعابر والحدود مع دولة إسرائيل، من خلال المقترح الأمريكي بتأهيل عدد من عناصر الأمن التابعين للسلطة كي يعاودوا العمل على الجانب الفلسطيني من «معبر رفح»، وكي يناط بهم الوجود على محور فيلادلفيا وغيره من المناطق الحاكمة لإدارة الأمن داخل مناطق القطاع المختلفة. الرفض الإسرائيلى والتصلب الذى بدا خلال جولات التفاوض حول الهدنة وصفقة التبادل، مبعثه الحقيقى هو تأكيد سحب كامل البساط من تحت أقدام «السلطة الفلسطينية» التى تمثل الرمز الأهم لاتفاقية أوسلو، وهناك رغبة إسرائيلية محمومة من أجل «اختراع» بديل فلسطينى يخدم الانقلاب المنتظر، ليبقى أمر إيجابى واحد أن هذا الاختراع لم يتم التوصل إليه بعد.
وثيقة القدوة ـ أولمرت تستند فيما تقدمه من تصور ومقترحات، على خطة الرئيس بايدن المدعومة دوليا بـ (قرار مجلس الأمن رقم 2735) لوقف إطلاق النار فى غزة، وتبادل الرهائن بين إسرائيل و«حماس»، إضافة إلى إنشاء «مجلس مفوضين» لحكم قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلى. وهذا الجزء الأخير بالخصوص المتعلق بمجلس المفوضين، أتصور أن خلفية كل من أولمرت والقدوة يضعانها لإدراكهما ما يسعى إليه تيار نيتانياهو من تجنيب تسليم قطاع غزة للسلطة ومن ثم إحياء أوسلو مرة أخرى، لهذا فهما ذهبا لطرح فكرتهما عبر هذا المسار الالتفافى كى يبحث فى منطقة وسطى، وكى تظل السلطة بكل ما سيجرى عليها من تطوير مستقبلى تحدث بشأنه كثيرون هى الطرف المقابل للسلطة الإسرائيلية فى ضمان التسويات المقبلة. ولدعم هذه النتيجة المرجوة أعادت الوثيقة إحياء ضرورة إنشاء «ممر» يربط قطاع غزة بالضفة الغربية، باعتبار تلك النقطة من الأسس المحورية، التي تضمن بقاء أي ترتيبات أخرى جديرة بالبحث كونها تحمل شكلا واقعيا لارتباط السكان والجغرافيا بشكل أو آخر، مما يفتح المجال لبحث الأمور الأكثر تعقيدا لاحقا فى ذات الوثيقة نفسها.
الوثيقة فى تعرضها لما يسمى بالقضايا الحساسة، وأبرزها مستقبل مدينة القدس، التي كانت سببا في انهيار مفاوضات كامب ديفيد عام 2000. بموجب التصور الوارد بوثيقة القدوة ـ أولمرت؛ تحصل إسرائيل على كامل القدس الغربية وأي أحياء يهودية بنيت بعد عام 1967، على أن يتم تضمين هذه الأحياء ضمن الـ 4.4% من أراضى الضفة الغربية التي تقترح الوثيقة ضمها إلى إسرائيل. كما جاء في النص: إن «كل الأحياء العربية التي لم تكن جزءا من بلدية القدس الإسرائيلية قبل عام 1967، سوف تكون جزءا من القدس التى ستكون عاصمة لدولة فلسطين. وسوف تدار البلدة القديمة من مجلس وصاية من خمس دول سيكون من ضمنها إسرائيل وفلسطين». الأطراف الإسرائيلية التي قرأت الوثيقة، علقت عليها باعتبارها تشبه إلى حد كبير المقترح الذي قدمه أولمرت في سبتمبر 2008، الذي تضمن حينها رسما لخريطة الدولة الفلسطينية و«التنازل عن السيادة على جبل الهيكل فى القدس»، كما اقترح أنه فى إطار اتفاق السلام، ستتم إدارة المنطقة التى تحتوى على المواقع الدينية في القدس من قبل لجنة خاصة تتألف من ممثلين من خمس دول بينها فلسطين والولايات المتحدة وإسرائيل.
الوثيقة بجانب إقرارها بأهمية الخطة التي قدمها الرئيس بايدن وقرار مجلس الأمن رقم «2735 / عام 2024»، أقرت أيضا بضرورة وضع نهاية بشكل سريع للحرب فى قطاع غزة. وهو ما يعني تحقيق وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين والعدد المتفق عليه من الأسرى في السجون الإسرائيلية، وانسحاب كامل القوات الإسرائيلية من أراضى قطاع غزة، يعقبه إنشاء كيان فلسطينى لإدارة وإعادة بناء قطاع غزة على شكل مجلس مفوضين مكون من «مهنيين تكنوقراط»، وليس من السياسيين. كما يجب أن يرتبط هذا المجلس عضويا بالسلطة الفلسطينية، على أن يقوم إلى جانب مجلس الوزراء بإعداد قطاع غزة والضفة الغربية لانتخابات فلسطينية عامة خلال 24-36 شهرا. كما اتفق كل من القدوة وأولمرت على الحاجة لوجود عربي أمني مؤقت بالتزامن مع انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، لتوفير الاستقرار بالتعاون مع قوة أمن فلسطينية التى سيتم إنشاؤها من قبل مجلس المفوضين. كما أن الوجود العربى الأمنى المؤقت يجب أن يكون مفوضا بمنع الهجمات على إسرائيل من غزة. عبر كل من أولمرت والقدوة، في معرض عرضهما لمقترحهما، عن أملهما أن يكون كل ما سبق مقبولا من الأطراف العربية المعنية، وأن يحظى بدعمهم لضمان نجاح تلك الترتيبات. وأخيرا فقد اتفقا على الحاجة الملحة لمؤتمر مانحين، لإعادة بناء غزة بمشاركة جدية من دول العالم الغنية.