لويس دوجيت-جروس, سابينا هينبرج
تضافرت العوائق الأمنية، والتشكيك العام، والأزمات المحلية المستمرة في تونس، للحد من علاقتها مع الصين، مما جعل بكين غير قادرة على إطلاق عجلة مشاريعها واستثماراتها النموذجية الواسعة النطاق.
أدى توسط الصين مؤخراً في التوصل إلى اتفاق مصالحة بين السعودية وإيران إلى تأجيج المخاوف الدولية بشأن وجودها المتزايد في العالم العربي. وعلى الرغم من أن أولوية بكين في المنطقة لا تزال دول الخليج العربي، إلا أنها سعت أيضاً إلى توسيع وجودها في شمال أفريقيا والمشرق العربي. ومع ذلك، لا تزال تواجه تحديات في هذه المجالات، تماماً على غرار الدول الغربية.
وتشكل تونس مثالاً على ذلك، فهي من ناحية تبيّن لماذا لا ينبغي المبالغة في تقدير تأثير الصين الفعلي في المنطقة. ومن ناحية أخرى، تسلط استراتيجية بكين الشاملة الضوء على مخاطر السماح بتدهور الوضع الديمقراطي والاقتصادي في تونس بصورة أكثر. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن نفوذ الولايات المتحدة في تونس يتضاءل بسرعة، تُعتبر دراسة تجربة الصين فيها مفيدة.
تاريخ العلاقات يعود إلى إنهاء الاستعمار
بدأت العلاقات التجارية الرسمية بين البلدين باتفاقية تم عقدها عام 1958، مما جعل تونس من أوائل الدول العربية التي أقامت مثل هذه العلاقات الاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية. ومع ذلك، كانت تونس أيضاً آخر دولة في المغرب العربي تعترف بالجمهورية الشعبية. وأقامت الحكومتان علاقات دبلوماسية رسمية في عام 1964، ولكن الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس بعد الاستقلال، فضل التوجه الموالي للغرب. ولكن العلاقات التجارية استمرت في التطور، خاصة بعد إنشاء “اللجنة الصينية التونسية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي” عام 1983.
وتعمّقت العلاقات في عهد خليفة بورقيبة، زين العابدين بن علي، الذي دعم بشكل لا لبس فيه “سياسة الصين الواحدة” (أي حجة بكين القابلة للجدل بأن تايوان جزءً لا يتجزأ من الصين). وأطاحت الثورة في تونس عام 2011 ببن علي وأدت إلى تباطؤ دبلوماسي مؤقت، لكن في غضون بضع سنوات، بدأت العلاقة تكتسب زخماً مجدداً – على الأقل من حيث الخطابات الطموحة، والتي لم تُتّبع إلا بشكل متقطع بالتنفيذ العملي.
تونس في “مبادرة الحزام والطريق” الصينية
تُعد تونس شريكاً قيماً للصين بفضل موقعها في وسط ساحل شمال أفريقيا، وإمكانية وصولها إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية وقربها من طرق الشحن الحيوية. ودفع هذا الواقع بكين إلى إدراج تونس في “مبادرة الحزام والطريق”، والتي وقّعت الحكومتان مذكرة تفاهم بشأنها عام 2018. وكما هو الحال مع البلدان الأخرى في “مبادرة الحزام والطريق”، تدّعي الصين بناء الشراكة استناداً إلى مبدأين رئيسيين: الأول هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية التونسية والثاني هو الانتهازية المطلقة. ويُقصد من هذين المبدأين أن يتناقضان مع النهج الغربي من خلال تعزيز صنع القرار المباشر والسريع بالإضافة إلى توفير العمالة والتمويل بتكلفة منخفضة. وأبدت بكين أيضاً رغبة قوية في الاستثمار في مشاريع البنية التحتية الواسعة النطاق في تونس، لكن هذه المشاريع لا تزال طموحات إلى حد كبير حتى الآن.
وعلى الرغم من أن تونس تشارك في هيئات متعددة الأطراف مثل “منتدى التعاون الصيني العربي” و “منتدى التعاون الصيني الأفريقي”، إلّا أن بكين لا تزال تتعامل معها في الغالب من خلال إطار ثنائي، كما هو الحال مع دول المغرب العربي الأخرى. وظل تواتر التبادلات الدبلوماسية ثابتاً نسبياً خلال العقد الماضي. ومن بين الاجتماعات الأخرى رفيعة المستوى، عقد الرئيسان قيس سعيّد وشي جين بينغ محادثات في الرياض في كانون الأول/ديسمبر الماضي. ولكن محادثاتهما جرت على هامش قمة متعددة الأطراف، وبالتالي لا تشير بالضرورة إلى تطور العلاقات. كما نشط السفراء الصينيون المتعاقبون في وسائل الإعلام التونسية، حيث سلطوا الضوء على دعم بكين للتنمية الاقتصادية في البلاد، وأشادوا بنمو التعاون الثقافي، وأكدوا على الاحترام المتبادل والمساواة بين البلدين.
تنفيذ محدود
على الرغم من هذه المكاسب الدبلوماسية، اقتصر الوجود العملي لبكين في تونس إلى حد كبير على المشاريع الرمزية حتى الآن. وترسم بعض الإحصائيات صورة رائعة للوهلة الأولى – على سبيل المثال، كانت الصين ثالث أكبر مورّد للسلع الاستهلاكية لتونس اعتباراً من عام 2021، حيث بلغت الواردات السنوية 2.2 مليار دولار في ذلك العام. ومع ذلك، لم تحتل الصين سوى المرتبة الخامسة والثلاثين في قائمة الدول التي تستثمر بنشاط في تونس. ولم تكن سوى حوالي اثني عشرة من شركاتها ناشطة هناك في عام 2020، وبلغت استثماراتها 34 مليون دولار فقط – وهو مبلغ ضئيل مقارنة بفرنسا، التي هي أكبر مستثمر في تونس، حيث بلغت استثماراتها 2.4 مليار دولار في ذلك العام.
وتتشابه بعض العقبات التي تعترض مشاريع الاستثمار والبنية التحتية الصينية مع تلك التي يواجهها المانحون والمستثمرون الغربيون. فالفساد لا يزال يمثل مشكلة بارزة، كما تفتقر تونس إلى إطار قانوني للشراكات بين القطاعين العام والخاص. ويمثل العامل الأخير عقبة مباشرة أمام التنفيذ الكامل لمذكرة “مبادرة الحزام والطريق” بين تونس وبكين، ناهيك عن مشاريع الاستثمار الغربية مثل “البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي”.
لهذا السبب ولأسباب أخرى، لم تتحقق في تونس بعد مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي تشتهر بها الصين في بلدان أخرى، باستثناء عدد متواضع من المبادرات البارزة. وفي نيسان/إبريل 2022، افتتحت تونس أكاديمية دبلوماسية جديدة بقيمة 23 مليون دولار تم تطويرها بتمويل صيني. وفي عام 2016، تولت بكين بناء مستشفى جامعي في صفاقس، واستكملته في عام 2020. كما يشاع أن الصين تضع نصب أعينها تطوير موانئ المياه العميقة في بنزرت والنفيضة وجرجيس، مع تحويل هذه الأخيرة إلى منطقة تجارة حرة على الحدود الليبية. ومن شأن هذه الجهود أن تزيد من يقظة الجهات الفاعلة الغربية بالنظر إلى نمط بكين المتمثل في تمهيد الأرضية للأنشطة العسكرية من خلال الاستثمارات المدنية. ومع ذلك، لم يبدأ أي من هذه المشاريع حتى الآن.
وقد شهد أيضاً قطاع الاستثمار التكنولوجي الذي يطرح مخاوف أمنية، تطورات إيجابية وسلبية. فشركة هواوي الصينية العملاقة للهواتف المحمولة لا تزال تتمتع بوضع جيد في تونس، بحيث تمثل ما يقرب من 15 في المائة من السوق المحلي للهواتف الذكية. ومع ذلك، واجهت طموحات بكين في تكنولوجيا الجيل الخامس معارضة من قبل الولايات المتحدة ومنافسة حادة من أوروبا. فخلال قمة عُقدت في جربة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أجرت شركة “اتصالات تونس” اختباراً رئيسياً لنشر الجيل الخامس بالشراكة مع شركة إريكسون السويدية متعددة الجنسيات، مما منح الشركة الأوروبية على ما يبدو الريادة على هواوي.
وعلى نطاق أوسع، أعاقت الأزمات السياسية والاقتصادية في تونس خلال الأعوام القليلة الماضية التطوير المحتمل للعلاقة الثنائية، الأمر الذي استنزف قدرة الحكومة السياسية والمالية على السعي وراء مبادرات رئيسية. لذلك، تجد بكين نفسها متخلفة في المجالات الاستراتيجية الرئيسية مثل القوة الناعمة والتعاون العسكري والطاقة.
التبادل السياحي والثقافي المتواضع
شهدت تونس تزايداً سريعاً في عدد زوارها الصينيين بعد أن بدأت البلاد في منحهم الدخول بدون تأشيرة في عام 2017، وذلك بنسبة تصل إلى 10 في المائة على أساس سنوي وفقاً لبعض التقارير. ولكن ذلك لم يمثل سوى نسبة منخفضة جداً من إجمالي قطاع السياحة في تونس. ففي عام 2019، على سبيل المثال، لم يدخل سوى 30 ألف سائح صيني إلى البلاد من أصل حوالي 9.4 مليون زائر.
كما توسعت التبادلات الثقافية بشكل مطرد، بما في ذلك من خلال العلاقات الإعلامية والمشاريع الفنية (مثل الأحداث السينمائية) وغيرها من المبادرات. ومع ذلك، في حين تشير بيانات الاستطلاع إلى أن التونسيين لديهم تصورات إيجابية إلى حد كبير عن الصين، إلّا أنهم لا يفضلون بالضرورة بكين كشريك أو يتبنون نموذجها التنموي. ولا يبدو أن أياً من جهود الصين المحلية، من حضورها الإعلامي المتزايد إلى دبلوماسية اللقاحات المكثفة التي اعتمدتها، قد أثر في تلك التصورات.
الخاتمة
لم تحقق تونس بعد كامل إمكانياتها فيما يتعلق بعلاقاتها مع الصين. وعلى الرغم من الوعود بالمرونة وعدم التدخل، لم تُستثنَ بكين من تحديات العمل بنجاح في تونس. فالشراكة الناتجة عن هذا العمل تُعتبر ناقصة حتى بالمقارنة مع جيران تونس، الذين شهدوا مستويات أعلى من الاستثمار والتجارة الصينية. وعلى وجه الخصوص، الجزائر – التي توفر الهيدروكربونات التي تحتاجها الصين وتشارك معها بعض التقارب الأيديولوجي – والتي عززت علاقاتها الثنائية على مر السنين ودخلت في شراكة استراتيجية شاملة مع بكين في عام 2014. كما أطلقت الصين مشاريع استثمارية ضخمة في المغرب، مثل تطوير مدينة طنجة للتكنولوجيا، التي يُتوقع أن تستضيف 200 شركة صينية بحلول عام 2027. أما القطاعات الوحيدة التي تتفوق فيها الجهود الصينية في تونس على تلك التي تشهدها بلدان المغرب العربي الأخرى فهي وسائل التواصل الاجتماعي والدبلوماسية العامة، مما يعكس العقبات الهيكلية الرئيسية في تونس. وحتى الرئيس سعيّد، الذي تبنى خطاباً مناهضاً للغرب بشكل متزايد بعد انتخابه في عام 2019، تجنب جعل الصين جزءاً مهماً من سياسته الخارجية الغامضة.
ومن الناحية النظرية، يمكن أن يتوسع النفوذ الصيني بسرعة إذا تخلفت تونس عن سداد ديونها العامة أو انهارت اقتصادياً. وكما يتضح في بعض البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، استخدمت بكين أحياناً مكانتها كملاذ أخير للإقراض لكسب النفوذ محلياً. ومع ذلك، تُظهر الدراسات أن معظم عمليات الإنقاذ الضخمة هذه قد حدثت في بلدان تُعد فيها الصين مستثمراً كبيراً فعلاً، الأمر الذي لا ينطبق على تونس. بالإضافة إلى ذلك، حثت بكين الحكومة التونسية علناً على العمل مع “صندوق النقد الدولي” لتأمين حزمة قروض كانت معلقة منذ تشرين الأول/أكتوبر، مما يشير إلى أنها تفضل عدم التصرف كمقرض طارئ في هذه الحالة.
ولطالما كانت الولايات المتحدة شريكاً قديماً لتونس، وبالتالي يمكنها المساهمة في تنميتها من خلال مواصلة التركيز على استعادة مسارها الديمقراطي واستقرارها الاقتصادي على المدى الطويل. وكما يُظهر عرض إريكسون المعني بتكنولوجيا الجيل الخامس، تتمثل إحدى أفضل الطرق لتنافس الولايات المتحدة وأوروبا مع الصين بتقديم بدائل في القطاعات التي تطرح فيها اختراقات بكين إشكالية كبيرة. وفي حالات أخرى، يجب أن يحاول أصحاب المصلحة الغربيون استكمال الاستثمارات الصينية والتركيز على القطاعات التي يكونون فيها أكثر تنافسية، مثل قطاع الخدمات.
.
رابط المصدر: