في 24 سبتمبر 2023 أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سحب سفيره في نيامي وإنهاء مهمة القوات العسكرية الفرنسية في النيجر، بما يُكرِّس القطيعة الكاملة بين النيجر وفرنسا إثر انقلاب 26 يوليو، في سياق تراجع النفوذ الفرنسي في كل منطقة الساحل.
خلفيات انسحاب القوات الفرنسية من النيجر وأبعاده
بعد إعلان نهاية عملية “برخان” في مالي ( أغسطس 2022)، حوَّلت فرنسا مركز عملياتها في منطقة الساحل إلى النيجر التي لم تكن في السابق أكثر من محطة إمداد ودعم للقاعدة العسكرية الفرنسية في مالي التي يصل عدد أفرادها إلى 5500 جندي.
وعلى عكس استراتيجية التموقع العسكري الثابت في مالي إلى حد تعويض الجيش المالي في المناطق التي لا يوجد فيها (في الشمال أساساً)، قام التعاون العسكري بين فرنسا والنيجر على الدعم الاستخباراتي واللوجستي والتكوين والاستطلاع، ووصل عدد القوات الفرنسية 1500 فرد يتركزون في مدينتي والام وآيورو بإقليم تيبري في غرب النيجر على قرب من الحدود المالية (400 جندي فرنسي) وفي القاعدة العسكرية الجوية في نيامي على مقربة من مطار هماني ديوري.
ومنذ انقلاب 26 يوليو 2023 تزايدت المظاهرات الشعبية ضد الحضور العسكري في النيجر واستهدفت على الأخص القاعدة الجوية في نيامي.
وبعد أن أعلنت الحكومة الفرنسية في 19 يوليو 2023 إنهاء تعاونها العسكري مع النيجر بعد الانقلاب على الرئيس المدني محمد بازوم الذي كان مقرباً منها، قرَّر المجلس العسكري الحاكم في 3 أغسطس إنهاء اتفاقية الدفاع المشترك مع فرنسا وطالب بسحب قواتها من البلاد.
وفي 27 أغسطس قرر الانقلابيون طرد سفير فرنسا في نيامي ومنحوه 48 ساعة لمغادرة البلاد، ورفضت الحكومة الفرنسية الامتثال لهذا القرار بذريعة عدم اعترافها بشرعية السلطات القائمة، لكن المجلس العسكري ألغى اعتماده وانتزع منه الحصانة الدبلوماسية والإقامة القانونية، بما أفضى في نهاية المطاف إلى احتجازه في مقر السفارة قبل عودته إلى باريس مؤخراً.
وأفادت معلومات نشرتها صحيفة “جون أفريك” أن فرنسا قرَّرت في الأيام الأولى للانقلاب التدخل من خلال وحدة متخصصة من جيشها الموجود في النيجر والاعتماد على بعض عناصر الحرس النيجري الذي لم يكن متحمساً للعملية الانقلابية بغية إفشال الانقلاب وإعادة الرئيس بازوم إلى الحكم، إلا أن تدخُّل الرئيس الأسبق محمدو أسوفو أفشل التدخل العسكري، إثر إقناعه الرئيس بازوم بترك الفرصة للحل السلمي الذي يضمن له العودة إلى السلطة دون الحاجة إلى إراقة دماء نيجرية.
كما أن فرنسا حسب المعلومات ذاتها التي ذكرتها صحيفة “جون أفريك” نسَّقت مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) للقيام بضربة عسكرية ضد المجلس الحاكم في النيجر، ولهذا الغرض وفّرت الوسائل الضرورية لنقل وحدات القوات السنغالية والعاجية المجهزة للتدخل العسكري عبر جمهورية بنين المجاورة، إلا أن نيجيريا تخلت في آخر لحظة عن العملية العسكرية بحجة تكاليفها البشرية والمادية الباهظة. وبعد أن أدركت فرنسا مصاعب الحل العسكري، قرَّرت الخروج من النيجر، برغم المصاعب الجمة التي تعترض هذا الانسحاب الذي من المقرر أن يكتمل قبل نهاية السنة.
ويبدو أن مسلك بنين هو الأمثل لخروج القوات الفرنسية، إلا أن الحكومة العسكرية في نيامي ترفض هذا الخط المسدود عملياً منذ انقلاب يوليو 2023. أما المسلك التشادي فيبدو معقداً، ولذلك فإن خيار ميناء دوالا بالكاميرون يبدو الأفضل وإن كان يطرح إشكالات أمنية عصية نتيجة طول الخط الذي يزيد على 2000 كيلومتر وتنشط فيه العديد من الجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام والدولة الإسلامية في غرب الصحراء (داعش).
وشكَّك وزير الداخلية النيجري الجنرال محمد تومبا في لقاء مع هيئات المجتمع المدني والنقابات في 3 أكتوبر 2023 في نية القوات الفرنسية الانسحاب الفعلي من النيجر، معتبراً أن عدد القوات الفرنسية يزيد على 3000 عنصر (وربما 3500). ويبدو من تصريحات الوزير النيجري أن المجلس العسكري يرى أن فرنسا تقوم بمناورة غامضة تسمح لها بتأمين حضورها المستمر في النيجر بطريقة أو أخرى، في الوقت الذي تحرص حكومة نيامي على وضع حد نهائي للتعاون العسكري مع باريس.
التداعيات الأمنية للانسحاب الفرنسي
سجَّلت النيجر في السنتين الأخيرتين نتائج جيدة في جهود محاربة الجماعات الإرهابية. في سنة 2021 كانت النيجر الدولة الأولى في العالم وفق مؤشرات عدد القتلى عن طريق الإرهاب، في حين أنها أصبحت الدولة العاشرة وفق هذا المؤشر في سنة 2022 في منطقة (إقليم الساحل) تمثل 43% من نسبة الموتى عن طريق الإرهاب في العالم (أي أكثر من جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا معاً).
ويمكن إرجاع أسباب نجاح النيجر في خطة مواجهة الإرهاب الى العوامل الآتية:
1) بناء جيش قوي ومدرب يتجاوز عدد أفراده 30000، وكان من المتوقع أن يصل 50000 عام 2025، على أن يصل عام 2030 إلى ما لا يقل عن 100 ألف جندي.
2) اعتماد مسلك الحوار والتفاعل مع المجموعات المحلية لقطع الطريق أمام الحركات المتطرفة التي استفادت في الدول الساحلية الأخرى من التناقضات العرقية والقبلية.
3) تبني مسلك التنمية القاعدية المحلية في المناطق التي تنشط فيها الحركات الإرهابية بما يعزز حضور الدولة المركزية ويوطد شرعيتها السياسية.
وهكذا كان الحضور العسكري الفرنسي مساعداً للدولة في مواجهة الإرهاب، وبدأت تظهر الآثار السلبية لتوقيف التعاون مع القوات الفرنسية منذ الأسابيع الأولى التي تلت الانقلاب العسكري في النيجر. ففي 15 أغسطس تعرَّضت كتيبة نيجرية لهجوم عنيف على الطريق التي تربط بين بلدتي بوني وتورودي قرب الحدود مع بوركينا فاسو، وقُتِل في الهجوم 17 جندياً وأُصيب 20 بجروح. كما قُتِل في الفترة ذاتها 6 عناصر من الحرس الوطني في منطقة تيلابري على الحدود المشتركة مع مالي وبوركينا فاسو.
وتزايدت العمليات الإرهابية في الآونة الأخيرة في الغرب وجنوب الغرب، حيث نشاط حركات بوكو حرام والقاعدة وداعش. ففي 2 أكتوبر 2023 تعرضت حامية نيجرية لهجوم مباغت من الجماعات الإرهابية، أوقَع حسب هيئة الإذاعة البريطانية 60 جندياً على الأقل قتلى، في ما تعد أخطر عملية واجهها الجيش منذ الانقلاب العسكري الأخير.
وبعد إعلان الدول الساحلية الثلاث (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) قيام حلف دفاعي مشترك بتاريخ 16 سبتمبر 2023، قامت وحدات مشتركة من البلدان المذكورة بثلاث عمليات ضد الجماعات الإرهابية في منطقة الحدود الثلاثية لكنها لم تحقق نتائج نوعية . ولذا فإن النيجر على غرار مالي بدأت الاتصال بروسيا من أجل سد الفراغ الذي خلفه الانسحاب العسكري الفرنسي. وذكرت صحيفة “لوموند أفريك” عدة مؤشرات على الدور الروسي الجديد في النيجر من آخرها استقبال رئيس المجلس العسكري الجنرال عبدالرحمن تياني في 3 أكتوبر 2023 السفير الروسي المعتمد في بلاده بحضور وزير الدفاع ساليفو مودي. وتحدثت الصحيفة عن تشكل محور موسكو-باماكو-نيامي الذي تقتضيه الحرب ضد الإرهاب بعد الانسحاب الفرنسي.
آفاق المعادلة الأمنية في النيجر
إثر انسحاب القوات العسكرية الفرنسية وتصاعد العمليات الإرهابية في النيجر، وفي ضوء تطور العملية السياسية والحصار الإقليمي والدولي المضروب على السلطات الانقلابية الحاكمة في نيامي، يمكن الحديث عن الاحتمالات الآتية:
1) تصاعُد أعمال العنف ورجوع البلاد إلى الوضع الأمني المتردي السابق على سنة 2022، بما تدفع له عدة مؤشرات ظاهرة مثل انهيار الحالة الاقتصادية والاجتماعية للدولة التي قلصت ميزانيتها في السنة الجارية بنسبة 40%، في الوقت الذي لا يتوقع أن يسد الحلف الساحلي الثلاثي المدعوم روسياً الفراغ الفرنسي. ولأن المجلس العسكري عجز عن تقديم صيغة انتقالية مقبولة إقليمياً ودولياً، فإن الحصار المضروب على النيجر سيستمر في المدى المنظور وينعكس سلباً على الوضع الأمني.
2) الخروج من الأزمة من خلال التوافق مع الأطراف الإقليمية والدولية حول صيغة مقبولة للانتقال السياسي برعاية أمريكية، باعتبار أن الولايات المتحدة أظهرت حرصاً واضحاً على استمرار حضورها العسكري والاستراتيجي في النيجر للحيلولة دون الاختراق الروسي وللحفاظ على مكاسبها الاستراتيجية في الساحة النيجرية ولو على حساب المصالح الفرنسية. وفق هذا السيناريو المتفائل، ستنجح الحكومة العسكرية الانتقالية في استعادة زمام المبادرة في الحرب على الإرهاب في إطار مسار توافقي سياسي واسع بمظلة إقليمية ودولية تفرض على فرنسا التعامل الواقعي مع الوضع الجديد في النيجر.
3) تجذُّر الحلف الساحلي-الروسي وانضمام النيجر له، بما ينجم عنه استمرار حالة العنف والصراع الداخلي المسلح في النيجر على غرار الوضع السائد في مالي، دون انبثاق حل سياسي وأمني حقيقي للمعضلة النيجرية.
ويبدو أن الاحتمال الأول هو الراجح، في حين لا يبدو أن حظوظ الثاني مرتفعة في الوقت الحاضر، أما الثالث فيظل وارداً في حال عدم انفجار الوضع السياسي في مالي وبوركينا فاسو أو عدم انسحاب روسيا المحتمل من الساحة الساحلية.
خلاصة
تفاقَم التوتر الأمني في النيجر بعد انقلاب 26 يوليو 2023 الذي نتجت عنه أزمة سياسية داخلية حادة وقطيعة دبلوماسية متسارعة مع فرنسا، التي قررت أن تسحب قواتها من البلاد قبل نهاية السنة الجارية. وفي ضوء ذلك عادت النيجر إلى مشهد استفحال التهديد الإرهابي، في وقت لم تبرز مؤشرات حقيقية على إمكانية حل سياسي داخلي يعيد البلاد إلى محيطها الإقليمي، وإلى دورها الاستراتيجي الدولي. ومن هنا فإن السيناريو الأرجح هو تزايد تردي الوضع الأمني وعودة مسار الإرهاب إلى مستواه الأصلي، دون أن تتمكن السلطات الانقلابية من الاستفادة من نزوعها إلى الانضمام إلى الحلف الروسي الساحلي الجديد.
.
رابط المصدر: