وساطة هوكشتاين… أوجه الشبه والاختلاف عن 1982

السؤال الأبرز المتصل بالمفاوضات بين “حزب الله” وإسرائيل والتي يديرها المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين هو: هل يريد بنيامين نتنياهو وقف الحرب في لبنان الآن؟

مجرد طرح هذا السؤال يؤشر إلى حقيقة موازين القوى في “الميدان” والتي تميل حتى الآن لمصلحة إسرائيل. وإن كان استمرار “حزب الله” بالاشتباك مع الجيش الإسرائيلي المتوغل جنوبا، وإطلاقه الصواريخ باتجاه العمق الإسرائيلي وصولا إلى تل أبيب، يبقيان “الميدان” مفتوحا على احتمالات متفاوتة. مع العلم أن وتيرة إطلاق “الحزب” للصواريخ المضادة للدروع، قصيرة المدى، والتي ظلّ يقصف بها المستوطنات الحدودية منذ بدأ الحرب قد تراجعت. وهذا ما يدفع أصوات إسرائيلية للبدء بدعوة مستوطني “الشمال” للعودة إليها، وهي دعوات لا تعكس الواقع تماما لكنها تشير إلى المتغيرات الأمنية التي طرأت على جانبي الحدود.

أيا يكن من أمر فإنّه لا يمكن قراءة الحرب الإسرائيلية ضد “حزب الله” على أن هدفها وحسب إعادة المستوطنين إلى “الشمال”. بمعنى آخر فإن تحقيق هذا الهدف يستحضر معه حكما أهدافا أخرى للحرب، أو أنه قد لا يتحقق دون تحقيق تلك الأهداف. والسؤال هنا هل تسعى إسرائيل وحسب إلى تغيير الوضع الأمني في جنوب لبنان- أي دفع “حزب الله” للانسحاب إلى شمال الليطاني وتفكيك بنيته العسكرية الحدودية- أم إلى تغيير الوضع السياسي في لبنان، لناحية إسقاط سيطرة “حزب الله” على البلد وبالتالي توجيه ضربة قوية للنفوذ الإيراني في المنطقة؟

هذا السؤال يستحضر حكما الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والذي أخرج “منظمة التحرير” وفرض واقعا سياسيا جديدا بانتخاب قائد “القوات اللبنانية” بشير الجميل رئيسا للجمهورية. لكنه واقع ما لبث أن تبدّل بدءا من اغتيال الجميل بعد 20 يوما على انتخابه ثمّ حرب الجبل بين “القوات” و”الحزب الاشتراكي” بزعامة وليد جنبلاط، وتفجيرات السفارة الأميركية و”المارينز” والقوات الفرنسية في بيروت، وصولا إلى “انتفاضة 6 فبراير/شباط” التي قامت بها الميليشيات المسلحة الموالية لدمشق، وبالأخص حركة “أمل” بزعامة نبيه بري، ضد حكم أمين الجميل والجيش، والتي شكلت بداية تكريس نفوذ القوى الشيعية “الجديدة” في لبنان بدعم من سوريا ولاحقا من إيران.

من سوريا إلى إيران

الأكيد أن أوجه الاختلاف أكثر من أوجه الشبه بين اجتياح 1982 والحرب الحالية، ولاسيما لناحية غياب لاعبين كبار عن المشهد وأبرزهم الاتحاد السوفياتي، وحضور لاعبين جدد أهمهم إيران. بل الأكيد أن طهران حلّت محلّ دمشق في السعي المتواصل للإمساك بمفاصل الوضع اللبناني سياسيا وعسكريا من خلال “حزب الله”. مع فارق أن دمشق القريبة من بيروت، لا بل التي كانت تعتبرها “خاصرتها الرخوة” وجزءا من جغرافيتها السياسية، كانت مسكونة بهاجس عدم تشكيل التغيير السياسي والعسكري فيها خطرا مباشرا عليها. والفارق الجغرافي هنا مهم بالنسبة إلى مقارنة تعامل كل من سوريا، في حرب 1982، وإيران في الحرب الحالية، مع الوضع اللبناني، حتى لو كانت طهران متأثرة جدا بإضعاف “حزب الله”، الذي كان يشكّل خط الدفاع الأوّل عنها خارج حدودها، ولذلك فقد اضطرت للرد بنفسها على اغتيال حسن نصرالله وإسماعيل هنية ليس بهدف الرد وحسب، بل في محاولة منها لترميم منظومة ردعها مع إسرائيل والتي تضررت جراء الضربات التي وجهتها الأخيرة إلى “حزب الله” بدءا من منتصف سبتمبر/أيلول الفائت.

ثمة وجه اختلاف آخر بين سوريا وإيران في ما يخص الحربين هاتين، وهو أنّ التحالف أو “التقاء المصالح” بين “منظمة التحرير” ودمشق لم يكن قويا ومستداما بل كان تحالفا ظرفيا سرعان ما انقلب مجددا إلى عداوة شرسة بعد خروج عرفات من بيروت وعودته إلى طرابلس للاشتباك مع القوات السورية في المدينة. وهو ما جعل موقف سوريا من السعي لإخراج ياسر عرفات ومقاتليه من بيروت موقفا متجاوبا ومرنا، أولا لمنع استطالة الحرب واضطرار دمشق للانخراط أكثر فيها. وثانيا لأنّ وجود عرفات في بيروت لم يكن في الأصل مريحا لدمشق، ولذلك فهي دعمت الميليشيات المسيحية المناوئة له في بدايات “حرب السنتين” (1975-1976) ثم ما لبثت أن انقلبت عليها، لإحداث توازن معين في القوى يجعلها تتحكم في اللعبة. وفي المحصلة فإن خسارة “منظمة التحرير” لم تكن خسارة لسوريا بالمعنى الفعلي، أو أنها خسارة يمكن تعويضها أو تحمل في طياتها ربحا على المدى البعيد، وهو ما أثبتته الأحداث اللاحقة!

 

لا شك أن “حزب الله” وإيران من ورائه ومن قدامه- ما دامت تديره الآن بالكامل بعد اغتيال نصرالله- يريدان وقف الحرب البارحة قبل اليوم، ولكنهما غير قادرين على تقديم تنازلات “أكثر مما ينبغي”

 

 

أما تحالف إيران مع “حزب الله” فهو تحالف راسخ وعضوي، إذ إن إضعاف “حزب الله” أو القضاء عليه عسكريا يشكل خسارة صافية لطهران ويوجه ضربة قاسمة لمشروعها التوسعي في المنطقة والذي كان “حزب الله” يشكّل درة التاج فيه. ولذلك فإنه لا يمكن مقاربة الحرب الحالية على أنها بين إسرائيل و”حزب الله” وحسب، إذ هي أيضا بين إسرائيل وإيران في الصراع على النفوذ في المنطقة، أو في سياق محاولة إسرائيلية لتقليص النفوذ الإيراني في المشرق العربي بغطاء ودعم أميركيين.

هذا يمكن أن يوسع خريطة الأهداف الإسرائيلية في لبنان ما يجعل الهدف الإسرائيلي لإعادة مستوطني الشمال هدفا في سياق أهداف أكبر. أو إن تحقيقه يتطلب أو يؤدي حكما إلى تحقيق الهدف الأكبر لإسرائيل وهو تحجيم النفوذ الإيراني في لبنان ومن خلاله في المنطقة ككل، ولاسيما في سوريا. ولذلك فإنه لا يمكن توقع مستقبل وساطة هوكشتاين إلا بربطها بحدود الأهداف الإسرائيلية من الحرب الحالية، وهي حدود مكتومة وغير واضحة بعد.

وبالتالي فإنّ كل الحديث عن “فرصة حقيقية” لوقف الحرب وعن “تحقيق تقدم إضافي في المفاوضات”، سواء من جانب المبعوث الأميركي أو الرئيس نبيه بري المفاوض اللبناني نيابة عن “حزب الله” بالتكليف وعن الدولة اللبنانية بـ”الفطرة”، يبقى مشوبا بالحذر وعدم اليقين، ما دامت الأهداف الإسرائيلية الحقيقية من الحرب غير معلنة، وطالما أن اليد العليا في الحرب هي راهنا لإسرائيل، خصوصا مع استمرار توغلها في العمق اللبناني وسيطرتها الجوية المطلقة على لبنان من جنوبه إلى شماله.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين ورئيس مجلس النواب نبيه بري، بيروت 20 نوفمبر 

كل ذلك بعد أن سقط “توازن الردع” الذي كان “حزب الله” يطمئن اللبنانيين أنه سيمنع إسرائيل من شن حرب على لبنان. ولا ريب أن الخسارة الفعلية لـ”حزب الله” تكمن في هذه النقطة تحديدا، حتى لو استطاع ضرب العمق الإسرائيلي ومواجهة الجيش الإسرائيلي في الجنوب، إذ إن الهدف الرئيس لترسانته الصاروخية كان منع إسرائيل من شنّ حرب على لبنان وليس محاربة إسرائيل.

ورغم كل الأجواء الإيجابية المواكبة لزيارة هوكشتاين إلى بيروت وجلساته الطويلة مع بري ومعاونيه، يقتضي إبقاء الشك قائما حول نية إسرائيل وقف الحرب الآن، بالنظر إلى أنها تراكم أهدافا ضدّ “حزب الله”. ويمكن لتمديد الحرب لفترة أطول نسبيا أن يتيح لها تحقيق مزيد من الأهداف ضده بغية إضعافه أكثر، وجعله أكثر استعدادا للتنازل في أي عرض تسوية لاحق. علما أن إسرائيل انتزعت من “حزب الله” الفصل بين جبهتي الجنوب وغزة وهو ما كان يرفضه قبل الحرب تحت عنوان “وحدة الساحات” والذي أظهرت الأحداث محدوديته بل وفشله، خصوصا بعد الحرب الشعواء التي شنتها إسرائيل ضد “حزب الله” من دون أن ينصره أحد من حلفائه.

ولا شك أن “حزب الله” وإيران من ورائه ومن قدامه- ما دامت تديره الآن بالكامل بعد اغتيال نصرالله- يريدان وقف الحرب البارحة قبل اليوم، ولكنهما غير قادرين على تقديم تنازلات “أكثر مما ينبغي”، لأنهما يعلمان أن إسرائيل ستقابل أي تنازل بطلب المزيد من التنازلات، وخصوصا أن هناك شكوكا في رغبة نتنياهو بإنجاح المفاوضات الآن، وذلك في استنساخ لتجربة مفاوضاته مع “حماس”، حيث كانت أولويته دائما مواصلة الحرب وليس الهدنة.

 

يبدو الوضع في لبنان بين البينين، بين سيناريو حرب 1982 وسيناريو حرب 2006، من حيث إن “حزب الله” لن يكون بعد هذه الحرب كما كان منذ حرب عام 2006

 

 

وليس قليل الدلالة أن تصدر أصوات في إسرائيل تدعو إلى عدم الاكتفاء بتغيير الواقع الأمني والعسكري في لبنان بل بتغيير الواقع السياسي أيضا، وذلك في استعادة لتجربة 1982. لكن في الواقع فإن ذلك غير قابل للتحقق أقله على نحو جذري، بمعنى أن تقوم سلطة في لبنان مناوئة لـ”حزب الله”، لكن لا شكّ أن إضعاف “حزب الله” عسكريا من شأنه أن يضعف سطوته السياسية على البلد، خصوصا إذا تمكن خصومه من التعامل بـ”ذكاء” مع المرحلة المقبلة. لكن حتى الآن وما دامت الحرب مستمرة فإنه لا يمكن توقع نتائجها السياسية ومن المبكر أصلا التفكير فيها، خصوصا أن قوة “حزب الله” مقابل خصومه في الداخل قد تبقي لديه القدرة على الضغط عليهم كقوة محلية بعد إضعافه كقوة إقليمية. وهذا أيضا يتوقف على حدود الأهداف الإسرائيلية من الحرب وحدود الدعم الأميركي لتغيير الوضع “جذريا” في لبنان، ويتوقف أيضا على تعاطي إيران مع المرحلة الراهنة كمرحلة انتقالية بين عهدين في واشنطن. وهي بدأت تعطي مؤشرات مرونة سواء في الملف النووي أو في خطتها للتعامل مع دونالد ترمب “الثاني”، وهو مسار يتطلب وقتا إضافيا ليتبلور، ولكن من الواضح أن طهران تريد النجاة من هذا “الأتون” ولكن ليس بأي ثمن وإن كان اللبنانيين والفلسطينيين من يدفعون الثمن الأكبر من أرواحهم وعمرانهم.

وفي المقابل، فإن عدم تحول لبنان إلى أولوية إسرائيلية على حساب قطاع غزة والضعة يجعل احتمال التوصل “قريبا” إلى اتفاق في لبنان احتمالا مرجحا، خصوصا في ظل الضغوط البشرية التي يعانيها الجيش الإسرائيلي والتي قد تدفع الحكومة إلى التعجيل باتفاق تسوية مع “حزب الله” لإبقاء التركيز العسكري الأساسي في الأراضي الفلسطينية. كذلك فإن رغبة ترمب بإنهاء الحرب في غزة ولبنان- لكن كيف؟- ستجعل نتنياهو مستعدا، في لحظة معينة، للقبول بتسوية مع لبنان. وكان لافتا أن هوكشتاين قال، بعد لقائه برّي الأربعاء للمرة الثانية خلال 24 ساعة، وقبل توجهه إلى تل أبيب، أنّه سيعمل مع الادارة الأميركية الجديدة بشأن جهود التهدئة في لبنان، كما أشار إلى أنه يعمل بمبدأ “الخطوة تلو الأخرى”، وهذا كله غير مبشّر بتسوية سريعة.

مع العلم أن ثمة من يتحدث في إسرائيل عن أن كل “انجازات” الجيش الإسرائيلي ضدّ “حزب الله” لم تحقق حتى الآن ردعا طويل الأمد كما حصل بعد حرب العام 2006، وهذا يطرح شكوكا إضافية حول قرب التسوية.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

أثار القصف الإسرائيلي على بلدة الحوش القريبة من مدينة صور جنوبي لبنان، 20 نوفمبر 

بيد أن الأكيد أن هدف إسرائيل في منع “حزب الله” من إعادة النهوض كما قال نتنياهو سيكون عنوانا لمعركة طويلة بين “الحزب” وإيران من جهة، وبين إسرائيل وربما أميركا من جهة ثانية. والواضح أن الهدف من بند “حق الدفاع عن النفس” الذي تتضمنه مسودة هوكشتاين، هو بالنسبة إلى إسرائيل تمكنها من ضرب أهداف لـ”حزب الله” في سياق محاولته إعادة بناء نفسه، لكن الأرجح أن هذا الهدف سيتركز في سوريا- مع دور لروسيا ربما- لا في لبنان، وذلك كما كانت عليه الحال قبل الحرب، مع اختلاف جوهري يتعلق بمنطقة جنوب الليطاني حيث يتوقع أن يحصل تغييرا فعليا بالنسبة لمراقبة وجود “حزب الله” هناك.

وفي المحصلة، يبدو الوضع في لبنان بين البينين، بين سيناريو حرب 1982 وسيناريو حرب 2006، من حيث إن “حزب الله” لن يكون بعد هذه الحرب كما كان منذ حرب عام 2006، لكنه لن يواجه تماما مصير “منظمة التحرير” في عام 1982 لناحية خروجها الاضطراري من المشهد اللبناني رغم محاولاتها الفاشلة في العودة إليه لاحقا، أو توريطها فيه كما حصل في حرب المخيمات “نهاية الثمانينات” والتي تولاها نبيه بري بدفع من دمشق… لكن لا شك أن المسار الذي بدأه بري في 6 فبراير 1986 والذي ورثه عنه “حزب الله” وقاده يشهد الآن تحولا كبيرا وقد يكون مفصليا!

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M