انتهت الحرب العالمية الثانية بنتيجة عسكرية وسياسية تمثلت في تدمير دول المحور، وانتصار الحلفاء، وبنتيجة اقتصادية أنهكت بموجبها كافة الأطراف المتحاربة باستثناء الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب كقوة اقتصادية كبرى. ولم تكد تضع حرب النار والحديد أوزارها، حتى بدأت حرب باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لترخي بثقلها على كل من عاش في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي كانت أبرز نتائجها “حركة عدم الانحياز”، والتي تأسست من 29 دولة عام 1955.
الابتعاد عن سياسات الحرب الباردة
كان الهدف الرئيس من حركة عدم الانحياز هو الابتعاد عن حالة الصراع والتوتر والتي كانت تعرف بـ “الحرب الباردة”، والتي كانت بين القطبين اللذين يشكلان قوة عظمى، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهم، في الفترة من منتصف الأربعينات حتى أوائل التسعينات.
خلال هذه الفترة، ظهرت الندية والتحدي بين قوتي المعسكر الغربي الليبرالي والشرقي الشيوعي من خلال التحالفات العسكرية والدعاية وتطوير الأسلحة والتقدم الصناعي والتكنولوجي والتسابق الفضائي، في ظل غياب حرب حقيقية معلنة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ولكنها في الباطن تشتعل شيئًا فشيئًا بسبب الاختلافات في كيفية إدارة ما بعد الحرب العالمية الثانية وإعادة بناء العالم.
فقد سعت أمريكا إلى تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسلة من القواعد العسكرية من خلال سياسة الاحتواء، بينما سعى الاتحاد السوفيتي إلى المواجهة عبر عقد المعاهدات الثنائية والجماعية، وتطوير القدرات النووية، دون اكتراث من هاتين القوتين بمصالح شعوب العالم الثالث التي عم في دولها المستعمرة وعي عارم تجاه التحرر ورفض الاستعمار.
وتزامنًا مع انهيار النظام الاستعماري، ونضال شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق في العالم التي قاومت من أجل استقلالها، ورفض الدول المستقلة الانضمام إلى أي من المعسكرين، تأسست حركة “عدم الانحياز”، بفكرة من مزيج رؤى الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”، ورئيس الوزراء الهندي “جواهر لال نهرو”، والرئيس اليوغوسلافي “جوزيف بروز تيتو”، ومن غانا الرئيس ” كوامي نكروما”، و”أحمد سوكارنو” من إندونيسيا.
وكانت الانطلاقة من مؤتمر “باندونج” الأفرو-آسيوي، خلال الفترة من 18 إلى 24 أبريل عام 1955، بتجمع 29 دولة، لتؤسس الحركة نفسها عام 1961 في العاصمة اليوغسلافية بلجراد، وشهدت تجمع ممثلي 25 رئيس دولة ينتمون إلى الجيل الأول من قيادات ما بعد حقبة الاستعمارات من إفريقيا وآسيا.
وكانت لهذه الحركة جهود كبيرة، ورآها الكثيرون عاملًا أساسيًا في تصفية الاستعمار، وألهمت كثيرًا من الدول والشعوب في كيفية الحصول على حريتهم واستقلالهم، بالإضافة إلى دورها الأساسي في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وتعد الحركة ثاني أكبر تجمع دولي بعد الأمم المتحدة، حيث تتشكل من 60% من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، وبالتالي تشكل كتلة تصويتية كبيرة، وتمثل أكثر من نصف سكان العالم.
مبادئ باندونج العشرة.. تحكم العلاقات بين كبار الدول وصغيراتها
تم الإعلان في ذلك المؤتمر عن عشرة مبادئ من شأنها أن تحكم في العلاقات بين الدول، وهي المبادئ التي عرفت باسم “مبادئ باندونج العشرة”، والتي تم اتخاذها فيما بعد كمقاصد رئيسة لسياسة عدم الانحياز. ويمثل المعيار الأساسي للحصول على عضوية الحركة هو تطبيق تلك المبادئ؛ إذ إن الحركة تنبع من الرغبة في عدم التصنيف ضمن هيكل جيوسياسي أو عسكري، وتنص المبادئ العشرة على:
وتوضح معايير العضوية أن الفكرة من وراء الحركة ليس من أجل القيام بدور سلبي فيما يخص السياسة الدولية، وإنما تقوم بصياغة مواقفها بطريقة مستقلة بطريقة تعكس مواقف الدول الأعضاء بها. وكان مؤسسو حركة عدم الانحياز قد فضلوا إعلانها كحركة وليس كمنظمة، تفاديًا لما تنطوي عليه الأخيرة من آثار بيروقراطية، ولتجنب الآثار السلبية للفوارق الأيديولوجية والسياسية والمصلحية، فتميزت بعدم جمود الإطار التنظيمي والهيكلية الإدارية، وبعدم وضع دستور أو مبادئ أو سكرتارية دائمة.
وعلى هذا، ركزت الأهداف الأساسية لدول حركة عدم الانحياز، على تأييد حق تقرير المصير، والاستقلال الوطني، والسيادة، والسلامة الإقليمية للدول، ومعارضة الفصل العنصري، وعدم الانتماء للأحلاف العسكرية متعددة الأطراف، وابتعاد دول حركة عدم الانحياز عن التكتلات والصراعات بين الدول الكبرى، والكفاح ضد الاستعمار بكافة أشكاله وصوره، والكفاح ضد الاحتلال والاستعمار الجديد والعنصرية والسيطرة الأجنبية، ونزع السلاح، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتعايش بين جميع الدول، ورفض استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، وتدعيم الأمم المتحدة، وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي، فضلًا عن التعاون الدولي على قدم المساواة.
وقامت حركة عدم الانحياز على دعامتين إحداهما سياسية تسعى إلى خلق تناغم بين دول العالم الثالث في مسائل السياسة الخارجية، والأخرى اقتصادية تسعى إلى الخروج من هيمنة القوى العظمى واعتماد اقتصادات وطنية قادرة على الصمود في عالم الكبار، وخلق تصنيف جديد أكثر عدالة في قسمة خيرات العالم، بين دول “شمال وجنوب” بعد أن كانت بين “شرق وغرب”.
كان أول انعقاد للحركة في بلجراد سنة1961، وأخذت تتطوّر الحركة حتى وصل عدد الدول الأعضاء المشاركين فيها إلى مئة وثماني عشرة دولة سنة 2011م من كلّ أرجاء العالم، والآن تضم الحركة 120 دولة، أما فريق الرقابة فهو مكوّن من ثماني عشرة دولة، وعشر منظّمات.
مصر وحركة عدم الانحياز
ترى مصر أن حركة عدم الانحياز تمثل الإطار الأهم والأوسع نطاقًا لتنسيق مواقف الدول النامية من مختلف القضايا المختلفة المطروحة على أجندة الأمم المتحدة، وتبدي مصر اهتمامًا كبيرًا للحركة ولضرورة الحفاظ عليها واستمراها؛ لما تتمتع به من ثقل إقليمي ودولي كبيرين، فهي تمثل كتلة تصويتية لا يستهان بها، ويتعبن العمل على توطيد العلاقات بين أعضائها للدفاع عن مصالحها ومصالح شعوبها.
وقد لعبت مصر دورًا محوريًا ليس فقط في تأسيس الحركة، وإنما يعود هذا الدور إلى ما قبل مرحلة الميلاد الرسمي للحركة حينما لعبت مصر دورًا بارزًا في بلورة فكرة إنشائها، ثم تحويل هذه الفكرة إلى كيان ملموس على أرض الواقع، وهو ما تحقق بالفعل على النحو الذي أثار إعجاب وتقدير ساسة وقادة دول العالم في ذلك الوقت.
ورجوعًا إلى تاريخ مسيرة هذه الحركة، نجد أن مصر لعبت دورًا تاريخيًا في تطوير الحركة، وبث دماء جديدة في شرايينها، والسعي طوال الوقت من أجل دعم مسيرة الحركة عبر تكثيف جهودها المشتركة مع العديد من الدول الساعية لدعم الحركة من أجل تطوير أهدافها وآلياتها، لاسيما بعد التغيرات الكبيرة التي تشهدها الساحة العالمية سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا.
ووصولاُ إلى قمم الحركة المنعقدة، نجد أن مصر أثبتت مشاركتها الفعالة، ليس فقط في نطاق إقليمها، وإنما أيضًا للعمل على المستوى العالمي، وقدرتها على الدفع بقضايا الدول النامية حتى تحصل على نصيبها العادل سياسيًا وتنمويًا، اقتناعًا منها بأهمية تعزيز العمل الجماعي متعدد الأطراف.
وأكدت الوثائق التي صدرت عن قمة شرم الشيخ عام 2009 أهمية التعاون بين الجنوب والجنوب من ناحية، وبينه ودول الشمال الصناعية المتقدمة من ناحية أخرى، والتحذير من اتخاذ بعض الدول الصناعية قرارات أحادية في الأوضاع الاقتصادية والمالية والتجارية يكون لها تأثير سلبي للغاية على الدول النامية.
ما بين الحياد.. وعدم الانحياز
هناك اختلاف بين الحياد التقليدي والحياد الإيجابي، من حيث الامتناع عن الاشتراك في الصراعات المسلحة، فالأول يتمثل في أنه ليس له دور في التعامل مع الأطراف المتصارعة، بهدف إيجاد الحلول واحتواء الصراع، بينما الثاني، يقوم أساسًا بالتعاون مع أطراف الصراع لاحتوائه، مع إعلان الرغبة في الابتعاد عن هذا الصراع مهما كانت دوافعه وطبيعته.
وتوجد اختلافات واضحة بين سياستي الحياد وعدم الانحياز، تتمثل أبرزها في:
- إن أساس الحياد ينبع من أساس قانوني، فهو عبارة عن اتفاقات دولية أو قوانين داخلية، في حين أن عدم الانحياز يقوم على اعتبارات سياسية.
- الشاغل الأساسي للدول المحايدة هو الحرب، والبعد عنها حالة اندلاعها واتباع سياسة تهيئ لهذا الموقف في حالة السلام، أما عدم الانحياز فهو سياسة شاغلها الرئيسي هو وقت السلم، وفي حالة نشوب صراع ملح فإن للدولة حرية في اتخاذ قرارها.
- سياسة الحياد كما ظهرت في أوروبا هي سياسة سلبية في المقام الأول، أما سياسة عدم الانحياز فهي سياسة إيجابية في المقام الأول، حيث اضطلعت بعدة مبادرات لتعزيز السلام وتخفيف حدة التوتر الدولي، وتغيير هيكل النظام السياسي والاقتصادي، فيمكن هدفها في بناء عالم جديد.
وهناك بعض المميزات على الناحية الاقتصادية لسياسة عدم الانحياز، فهي تضمن العديد من المزايا للدول المنضمة، وأبرزها:
- ضمان الحرية السياسة والاستقلال، وتعزيز المكانة الوطنية.
- الابتعاد عن التورط في الصراعات الكبرى.
- يمكن تقبل أو طلب العون الاقتصادي من طرفي الصراع.
الموقف الحالي من الأزمة الروسية الأوكرانية
وسط تصاعد الأزمة، وتوتر الأحداث، وبدء روسيا الحرب فعليًا؛ تحافظ حركة عدم الانحياز على موقفها بشكل معلن للجميع، وهو رفضها التام للحرب قلبًا وقالبًا، وأنها تنحاز للسلام والأمن والاستقرار أيًا كان. وتدعو الحركة وسط ما يحدث إلى التعايش السلمي، ومحاولة تبني سياسة جديدة تخفف من حدة التوتر العالمي؛ بهدف الوصول إلى حل لمشكلة نزع السلاح، وإقامة جسور من التعاون والتفاهم بين الدول المتصارعة.
وبعد تهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام أسلحة نووية أثناء حربه على أوكرانيا، تعتبر الحركة أن قضية التهديد النووي خطر ينبغي إزالته، فهي قضية مركزية في توجهات الحركة، لما تراه من أن انتشار الأسلحة النووية واختزانها يهدد السلم العالمي.
وقد تم طرح فكرة إنشاء منطقة خالية من السلاح النووي للمرة الأولى عام 1956، وفي عام 1967، تم توقيع معاهدة حظر استعمال الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية، حيث انضم إليها حتى الآن 25 دولة، وكانت القارة الإفريقية قد أعلنت عام 1964 نفسها منطقة خالية من الأسلحة النووية، وعام 1974، طرحت حركة عدم الانحياز فكرة أن تعلن منطقة الشرق الأوسط بأنها منطقة مجردة من الأسلحة النووية.
وبالفعل تم تحقيق أهداف الحركة خلال الأزمة الحالية، فقد امتنعت الإمارات –وهي دولة منضمة للحركة- عن التصويت لإدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وذلك من خلال جلسة مجلس الأمن التي خصصت لمناقشة الحرب، وفضلت الإمارات التمسك بطريق الدبلوماسية وعدم الانحياز، وإبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع الجميع، وسلكت نفس المنهج كل من الهند والصين.
وتحرص دول حركة عدم الانحياز على نزع فتيل الحرب الروسية الأوكرانية، والمحافظة على العلاقات بين البلدين، وذلك عبر 4 محاور: الدبلوماسي؛ إذ تدعم الحلول الدبلوماسية في الأزمة الروسية الأوكرانية، وتغليب الحوار في تسوية النزاعات. وهناك أيضًا المحور الإنساني؛ الذي يرتكز على توفير الحماية القصوى للمدنيين في مناطق النزاع، وعدم التأخر في توفير وإيصال المساعدات الإنسانية، وضرورة مراعاة مصلحة وأمن المدنيين في الجانبين الروسي والأوكراني. والثالث هو المحور الميداني؛ فترى دول الحركة خطورة النزاع الروسي الأوكراني في تقويض الأمن والسلم الدوليين، وضرورة خفض التصعيد بشكل فوري. وأخيرا المحور القانوني؛ الذي يؤكد ضرورة احترام كل الأطراف وتطبيق القوانين الدولية، فضلًا عن حق كل دولة بالأمم المتحدة في الأمن والسيادة والاستقلال.
وختامًا، وفي ظل الصراع القائم، والأحداث المتتالية والمتواترة، والمليئة بالتطورات التي تحبس الأنفاس على مدار الساعة، والتي كان آخرها تهديد الرئيس الروسي ” فلاديمير بوتين” بوضع قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهب، والتوعد لكل من يتدخل بشكل مباشر في حربه على أوكرانيا، هل سيظل موقف الدول المنضمة لحركة عدم الانحياز قائمًا؟ وهل سنشهد توسعًا أكبر للحركة في محاولة تهدئة الصراع بين الأطراف المتصارعة؟
.
رابط المصدر: