علي شندب
يبدو أن انفجار مرفأ بيروت لم يصب المرفأ وامتداداته في الجميزة، مار مخايل والكرنتينا وغيرهم من أحياء الأشرفية بالدمار الذي حصده، وبمئات الضحايا الذين سقطوا مع آلاف الجرحى، وحسب. لكنه أصاب نسق وصميم العلاقات والمصالح الآنية والمستقبلية، لمنظومة المال والسلطة والسلاح.
انفجار المرفأ أصاب أيضا الدولة وبناها التحتية والفوقية، حيث تنتصب هياكلها على المحاصصات الزبائنية والحزبية والطائفية والمذهبية التي تناتشت مؤسّسات ومرافق الدولة وعصرتها لما بعد النزع الأخير، لمصلحة الفساد الذي بات هو الدولة برموزها وسلطاتها وكلها وكلكلها.
الفساد الذي كان دويلة داخل الدولة، وبات دولة تتضمن الدولة. وما عزّز هذه المقولة الحرائق المتوالية التي طالت مرفأ بيروت بعد انفجاره. الحرائق الهادفة بحسب وجدان جمعي لبناني، إلى إعدام الأدلة التي ينقب عليها المحققون لتحديد سبب الانفجار والمسؤولين عنه.
ما يعني أنه بات في لبنان كيانان يحظيان بامتياز كونهما دويلة أصبحت الدولة.. الكيان الأول: حزب الله. الكيان الثاني: الفساد. فحزب الله والفساد، هما التوأم المنفصل المتصل، المستولد من مخارج عدة، والمتكامل في السلوك والأهداف المانعة لقيام الدولة وبنائها.
وسط هذه المشهدية ومع تسليم غالبية منظومة الأمونيوم والفساد بعجزها المدقع عن وقف الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والمالي، مرفوقا بصرخات وزير خارجية فرنسا “لبنان مهدد بالزوال”. أطل الرئيس الفرنسي بعد زيارتيه لبيروت بخارطة طريق نالت موافقة وإجماع القوى السياسية المرصوفة حول طاولة ماكرون في السفارة الفرنسية. وترتكز الخطة الماكرونية على تشكيل حكومة مهمة جديدة تنفذ الإصلاحات المطلوبة التي تسمح بتدفق المساعدات المالية لإيقاف الانهيار ومحاولة النهوض.
لكن خطة ماكرون اتّسمت بنوع من الارتجال وقلة الخبرة، لاسيّما أن ماكرون زفّها بطريقة فوقية استعلائية طمأنت ضعف بعض الأطراف، فاستقووا بها من جهة. واستفزت بعض الأطراف القوية فأشهروا سيوف رفضها والانقلاب عليها من جهة ثانية. ما جعل استيلاد حكومة مصطفى أديب خاضعا بالضرورة لموافقة الثنائي الشيعي ورأس حربته السياسية نبيه بري الذي يجيد الانحناء أمام العاصفة، بنفس الدرجة التي يجيد فيها، قلع عين العاصفة بعد انقشاع غبارها، وليبلغ بري ساكن الإليزيه “إذا بتقدروا تشكلوا حكومة من دوننا، شكلوها”.
عند هذه النقطة، تعرّى الاستعصاء أمام تشكيل حكومة مصطفى أديب الماكرونية. وباتت الحكومة رهن المشاورات التي يستمزج فيها ميشال عون الكتل السياسية رأيها الرافض سلفا لطريقة تكوين واستيلاد الحكومة الماكرونية اللبنانية.
الاستقواء بالخارج هو العلّة المستحكمة بالواقع اللبناني. الاستقواء الذي مارسه حزب الله، ورفضته قوى وتيارات سياسية وشرائح شعبية وازنة. هو الاستقواء الذي يحاول رؤساء الحكومة السابقون، والماكرونيون اللبنانيون ممارسته اليوم، وترفضه قوى وتيارات سياسية وشعبية وازنة في طليعتها ثنائي نبيه بري وحزب الله.
عند هذا الحد من الاستقواء المتبادل والمختل التوازن لصالح الثنائي الشيعي، رغم العقوبات الأميركية المسلطة، تجد المبادرة الماكرونية نفسها تعيش مأزق عدم قدرتها على التجديف في المستنقع اللبناني، رغم معرفتها العميقة بمكوناته، وصلاتها المتينة بغالبية طحالبه.
مما لا شك فيه أن لبنان مهدّد بما هو أبعد من الانهيار الشامل. كما أنه وبحسب ناظر الخارجية الفرنسية مهدّد بالزوال. لكن معالجة التهديد بالانهيار والزوال والتصدي لهما، يحتاجان لما هو أعمق من الخطة الماكرونية التي تبين الوقائع أنها لا تحظى بقبول حقيقي من كافة الأطراف، سيّما وأنها تستعيد في طياتها الاستعلائية نفسا استعماريا ينقسم حوله اللبنانيون.
وكما أن تذليل العقبات أمام حكومة أديب استدعى مشاورات جديدة من قبل ميشال عون مع الكتل الرافضة لهذه الحكومة، فإن تذليل العقبات أمام الخلطة الماكرونية، ربما يحتاج لمشاورات مع دول إقليمية وعربية مؤثرة، من شأنها طمأنة كافة الأطراف والقوى اللبنانية. سيّما وأن هذه الخطة تستهدف جوهريا هدم منظومة الفساد أولا ومعالجة سلاح حزب الله ثانيا.
بدون شك أن لمطلب مكافحة الفساد ومعالجة سلاح حزب الله ووضعه تحت وصاية وسلطة الدولة، شرعية شعبية واسعة. وهي الشرعية الشعبية التي عبرت عنها انتفاضة اللبنانيين منذ 17 تشرين وحتى اليوم. لكن شرعية هذين المطلبين شيء وأسلوب وآليات معالجتهما شيء آخر.
وإن المقتل الحقيقي لمعالجة سلاح حزب الله ومكافحة الفساد، هو الاستقواء بالخارج الذي لديه مع حزب الله حسابات يريد تصفيتها. ومن الحكمة ألا يكون لبنان واللبنانيون وقودا لتصفية حسابات الخارج مع حزب الله، سيّما وأن اندفاعة إيران وأذرعها في لبنان والمنطقة تمت بالتكافل والتضامن مع هذا الخارج الذي لا يؤتمن له، منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003 وحتى مقتل قاسم سليماني وما بعده.
واذا كانت مشكلة اللبنانيين مع الفساد، مشكلة داخلية تتعلق ببناء دولة تتمتع بمناعة حقيقية، فإن مشكلة شرائح لبنانية كبيرة مع حزب الله هي مشكلة داخلية بأبعاد خارجية، تماما كما هي مشكلة خارجية بانعكاسات داخلية.
إن استراتيجية الولايات المتحدة وشرطها ما قبل الأول لدعم ومساعدة الحكومة اللبنانية كما صرح بومبييو مرارا تكمن في “الابتعاد عن حزب الله”، يتلاقى مع الشرط ما قبل الأول لدعم فرنسا والمجتمع الدولي، وهو تشكيل حكومة لبنانية جديدة تتولّى مكافحة الفساد، وتنفذ الإصلاحات العميقة كما أعلن ماكرون ونافقته القوى السياسية.
وفي سياق خطة واشنطن في الابتعاد عن حزب الله، فرضت الخزانة الأميركية عقوباتها على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وهي العقوبات التي سيكون لها ما بعدها، كما تشي التسريبات والتصريحات الأميركية التي تتحدث عن دفعة جديدة من العقوبات التي ستستهدف شخصيات دسمة من ضفتي 14 و8 اذار.
إنها العقوبات التي دفعت بسفور لافت جبران باسيل “غير المختلف أيديولوجيا مع إسرائيل”، إلى الانحناءة أمام سيفها المسلط على رأسه، والتي قد تصنفه كأحد رموز الفساد. كما دفعته لإعلان تأييده لموقف البطريرك الماروني في “حياد لبنان”، وإلى عودة حزب الله من سوريا، وتأييد المداورة في الحقائب الوزارية، ورفضه “المثالثة” عبر حصول الشيعة على التوقيع الدستوري الثالث من خلال تمسكهم بحقيبة وزارة المالية.
والحقيقة أن رفض باسيل للمثالثة وكلامه المتكرر حيال إسرائيل “التي من حقها أن تعيش بأمان كما شعوب المنطقة”، وأيضا حيال عودة حزب الله من سوريا (الذي لم تطلبه القيادة السورية ولم يعلنه الحزب ولا يوجد دليل عليه)، يهدم كل ما بناه حزب الله والتيار العوني على هيكل “تفاهم مار مخايل”، الذي أوصل ميشال عون إلى قصر بعبدا، وتغول في ظلاله حزب الله والفساد.
وتبدو انعطافة باسيل الأخيرة، معطوفة على “الإشكال الناري” الذي حدث بين محازبيه ومحازبي عدوه اللدود سمير جعجع في “ميرنا الشالوحي” حيث المقر العام للتيار العوني، بمثابة تمهيد لإلغاء وتمزيق “تفاهم مار مخايل” بوصفه الإسقاط الأميركي على جبران باسيل في “الابتعاد عن حزب الله”، الذي وحده ما يحمي رأس باسيل من سيف العقوبات الأميركية، التي في حال فرضت عليه ستقضي على كل آماله في الوصول إلى رئاسة الجمهورية.
إنها الرئاسة التي لأجل وصول رئيس التيار الوصولي اليها، قام جبران باسيل بالاستدارة المطلوبة لتقديم ملف أوراق اعتماده للأميركيين، والممهدة باستعداده لتنفيذ ما هو أبعد بكثير من تمزيق وإلغاء تفاهم مار مخايل وجعله أثرا بعد عين.
رابط المصدر: