التصعيد مازال مستمرًا في الحرب الدائرة بين موسكو والتكتل الغربي الأمريكي، والعالم يترقب بقلق شديد تبعات هذا التصعيد وآثاره العالمية والتي تخطت الحدود الأوروبية إلى أبعد مما توقع الخبراء ويلمس الجميع آثارها الاقتصادية في العديد من الأنشطة وعلى رأسها بلا شك قطاع الطاقة؛ وذلك في ظل تمتع موسكو بمكانة قوية في خارطة الطاقة العالمية وأهمية تدفق الإمدادات من شرايين الطاقة الروسية في ظل نقص الإمدادات في ذراعي الطاقة النفط والغاز الطبيعي.
حزمة جديدة من العقوبات
ما زال الاتحاد الأوروبي يواصل رفع سلاح العقوبات على موسكو عقابًا لها على حربها في أوكرانيا، وتكبيدها -إلى جانب الاستنزاف الميداني- خسائر فادحة في الاقتصاد من خلال إثقالها بمجموعة كبيرة من القيود التي لم يسبق أن فُرضت على دولة في التاريخ الحديث. وفي خطوة جديدة لمحاولة تقييد روسيا، أعلنت المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي وافق على الحزمة الثامنة من العقوبات ضد موسكو، والتي تحظر النقل البحري للنفط الروسي إلى دولة ثالثة فوق أسعار النفط.
وتلك الخطوة تُعد تمهيدًا لوضع وتحديد سقف لسعر برميل النفط الروسي، مع فرض حظر على واردات بضائع روسية بقيمة حوالي 7 مليارات يورو. وبات موضوع تحديد سقف سعر النفط الروسي محور الحديث في أسواق النفط العالمية من حيث معناه وتأثيره على موسكو وتداعياته على أسواق النقط العالمية والرد المتوقع من موسكو فور تفعيله.
الدوافع الأوروبية وراء وضع سقف لسعر النفط الروسي
وضع سقف لسعر النفط الروسي يعني ربط جميع الخدمات المالية والتأمين وشحنات النفط الخام بحد أقصى لسعر النفط الخام الروسي؛ وكمثال توضيحي إذا أرادت شركة تصدير أو شحن الحصول على الخدمات السابقة عليها أولًا ضرورة الالتزام بأن يُباع النفط الخام الروسي بما لا يتجاوز الحد الأقصى للسعر والعقوبات الأوروبية الجديدة ضد موسكو تضع أسس تمهيدية لخطوة تحديد سقف سعر النفط الروسي، ولكن هل تُعد تلك الفكرة واقعيًا قابلة للتنفيذ؟
بصفة عامة هناك بعض النقاط التي يبني عليها القرار الأوروبي في كيفية وضع سقف للسعر الروسي، وأهمها هي أن نحو ٩٠٪ من خدمات تسهيل وتأمين ناقلات النفط عالميًا يتم من خلال شركات في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، ولذلك يرى الاتحاد الأوروبي أن وضع سقف لسعر النفط الخام الروسي سيؤدي إلى بعض النتائج الإيجابية، ومنها:
● إجبار موسكو على بيع النفط الخام بسعر محدد.
● سيؤدي إلى منع موسكو من الاستفادة من حربها في أوكرانيا والتي أدت إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمية مما انعكس على أسعار الطاقة بشكل عام.
● كبح جماح بوتين وشل قطاع النفط الروسي بشكل كبير ومؤثر.
● الحد من تدفق الأموال إلى موسكو وإعاقة تمويل الحرب في أوكرانيا.
● استعادة السيطرة على أسعار الطاقة العالمية.
● تهدئة ردود فعل الدول المستهلكة للنفط والمتعلقة بمعدلات بالتضخم.
تبعات وصعوبة تنفيذ ذلك القرار
فكرة تحديد سقف لسعر النفط الروسي قد لا تنجح لأسباب عدة (اقتصادية وسياسية)؛ فمن أعطى الاتحاد الأوروبي السلطة لكي يحدد سقفًا أو سعرًا لسلع دول منتجة وتجبر المشترين من دول العالم على الالتزام بهذا السقف أو السعر؟ على سبيل المثال ما الذي يعطي ألمانيا السلطة لتحديد سعر للنفط الروسي وتجبر بكين عليه؟
وتتعارض الفكرة مع فكرتين أساسيتين تتبناهما حكومات القارة الأوروبية حاليًا وهما:
● السعي إلى خفض سعر لبرميل النفط وهي الفكرة التي تؤدي إلى زيادة الطلب على النفط، وهذه الزيادة لا تريدها هذه الدول.
● الحد من معدلات الانعاثات الكربونية، ولكن زيادة استهلاك النفط مما يعني زيادة معدلات انبعاثات الكربون والتي تتسبب في التغيرات المناخية.
وبشكل عام تُعد تلك الخطوة على الورق سهلة التطبيق ولكن عمليًا ووفقًا للعديد من العوامل تُعد خطوة في غاية الصعوبة ومنها:
● لم يشر الاتحاد الأوروبي حتى الآن إلى كيفية تحديد سعر النفط الروسي.
● صعوبة إقناع عدد كافٍ من الدول وشركات التأمين الكبرى بالاشتراك في تلك الخطة وبالأخص دول شرق آسيا.
● ضرورة حصول كل ناقلة نفط على شهادة منشأ، بالإضافة إلى إثبات أن عملية الدفع تمت وفقًا للسقف السعري المحدد، وهذه أمور في غاية الصعوبة وتحتاج إلى عمليات مراقبة وتتبع معقدة.
● موسكو قد تقرر خفض أو قطع صادرات النفط الروسي ردًا على ذلك القرار، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية وبكل تأكيد هذه المستويات المرتفعة ليست في صالح الحكومات الأوروبية.
● صعوبة التوفيق بين سعر نفط يقلص من عائدات روسيا وفي الوقت نفسه يُبقي هذا السعر مغريًا لها لكي يحفزها على التصدير.
● قرار وضع حد سعري للنفط الروسي على أرض الواقع لن يكون له التأثيرالبالغ في حجم الصادرات النفطية الروسية؛ لأن العقوبات الأوروبية السابقة استهدفت حظر النفط الروسي بالفعل وبالرغم من ذلك نجحت موسكو من فتح أسواق جديدة مثل الصين والهند من خلال تقديم خصومات وصلت إلى أكثر من 40% على برميل النفط الروسي.
● الاقتناع الكامل بضرورة خفض الأسعار عن طريق ضخ المزيد من الخام وحنها لا بد من الاستمرار في ضخ النفط الروسي ووصوله إلى الأسواق العالمية، ولذلك هناك حالة من التناقض؛ فكيف تريد الدول الغربية استمرار ضخ النفط ولكنها مقتنعة بضرورة توقف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن استيراد النفط الروسي.
● لا يرغب العديد من الدول الأوروبية في الاتفاق على وضع سقف سعري للنفط الروسي والذي من شأنه أن يسمح للشركات الصينية والهندية بشراء المزيد من النفط الخام الروسي المدعوم بتخفيضات كبيرة وبأسعار مخفضة، فيما تبقى شركات تلك الدول الأوروبية محظورة من الشراء بأي سعر، وهذا ظهر بوضوح في رفض بعض دول الاتحاد الأوروبي تحديد سقف لسعر النفط الروسي ومنها ألمانيا (انقسام أوروبي واضح على ذلك الجزء من العقوبات).
● يبقى التحدي الأكبر والذي يقف في طريق تحديد أسعار النفط الروسي هو رفض الرئيس الروسي بوتين نفسه؛ فكيف لك أن تجبر روسيا على بيع الخام الخاص بها بسعر مفروض خارجيًا؟
● كما فعلت موسكو في عامي 2008 و 2014 تفعل الآن؛ فالعقوبات دائمًا ما تكون لها ثغرات وأبواب خلفية يمكن المرور منها، والتأثير لم يكن كبيرًا في ذلك الوقت، وهو ما يحدث الوقت الحالي نتيجة امتلاكها موارد الطاقة الهائلة.
● تهديد موسكو بحظر بيع النفط الخام إلى دولة ستنضم لتلك المنظومة أو المؤيدة لقرار السقف السعري للنفط الروسي.
● تسعي موسكو حاليًا إلى توفير حلول وشركات تأمين بديلة مع خلق منصات تداول مستقلة.
● توقعات السقف السعري للنفط الروسي ستتراوح بين 40-65 دولارًا للبرميل، ووفقًا لتلك التوقعات فإن موسكو ستظل تربح من بيعها للنفط حتى في ظل هذا السقف المتوقع لأن تكلفة برميل النفط الروسي تتراوح ما بين 3 إلى 4 دولارات للبرميل (وفي حال إضافة تكاليف الشحن والتصدير سيصل إلى حوالي 17 دولارًا) مما يعني أن روسيا تجني أرباحًا حتى في ظل تلك العقوبات النفطية، وهذه مسألة مهمة في كيفية تحديد سقف سعري مناسب كما هو موضح بالشكل التالي لتكلفة استخراج برميل النفط في العديد من الدول النفطية.
وبشكل عام، هناك العديد من التداعيات الكبيرة والتي سوف تؤثر على أسواق النفط العالمية في حال الوصول إلى تطبيق القرار بشكل مباشر قبل بداية شهر ديسمبر المقبل كما أعلنت المفوضية الأوروبية، ومنها:
● سوف يؤثر تحديد سقف لسعر النفط الروسي في خريطة الشراء العالمية من النفط الخام؛ إذ يعمل على توسعة نطاق المشترين للخام الروسي، وفي الوقت ذاته سوف يرفع نسب الخصومات والتخفيضات التي كان يتمتع بها لترويج شرائه في الأسواق الخارجية.
● سوف تعمل الأزمة على تفاقم أزمة المشتقات والمنتجات البترولية؛ لأن النفط الخام ليس السبب الرئيس وحده في أزمة الطاقة التي ستعيشها دول الاتحاد الأوروبي بعد حظر الخام الروسي؛ فهناك أزمة أخرى والتي تتمثل في عمليات تكرير النفط الخام، وعلى الرغم من أن مصافي التكرير في العالم لديها بشكل إجمالي قدرة كافية للتعامل مع خامها، ولكن تلك المصافي ليست موزعة بالتساوي جغرافيًا، مما يعني أن هناك نقصًا كبيرًا متزايدًا في طاقة التكرير في الدول الأوروبية، وهناك طاقة فائضة في الصين، وهذا يعني أن تأثير عقوبات الضم سيكون أكثر تعقيدًا وربما بعيد المدى على دول الاتحاد الأوروبي نفسها.
● قد لا يكون هذا السقف السعري مهمًا للاعبين الكبار مثل الصين القادرة على تحمل تكاليف التأمين الذاتي، ولكن قد يمثل ذلك مشكلة للمشترين الصغار والذين يفتقرون إلى تلك القدرة، مثل بعض الدول الأفريقية والتي استوردت في أغسطس الماضي نحو 250 ألف برميل يوميًا.
● تلك السياسات تتنافى بشكل كبير مع مصالح الدول المستهلكة للنفط الخام.
● حدوث اضطرابات كبيرة في سوق النفط ونقص الإمدادات النفطية وذلك لأن النفط الروسي يُمثل حوالي 11% من حجم الإمدادات العالمية النفطية.
● لا يجب التعامل مع النفط الخام الروسي بالنهج ذاته في التعامل مع تدفقات الغاز الطبيعي من موسكو إلى أوروبا، لذلك يجب ضمان استمرار تدفقات النفط الخام من روسيا إلى الأسواق العالمية.
● حدوث حالة من التذبذب الكبير وحالات عدم الاستقرار في الأسعار النفطية، مما سيعمل على زيادات مستقبلية في النفط الخام وبمستويات لن يستطيع أحد التحكم فيها.
● في حال نجاح تطبيق الفكرة ولو نظريًا سيشجع ذلك دول الاتحاد الأوروبي على وضع سقوف أسعار لجميع المنتجات الروسية الأخرى، مما سيعمل على نقص تلك المنتجات في وقت لا تملك فيه القارة الأوروبية رفاهية القرار.
● نجاح محاولة وضع سقف لسعر النفط الروسي يعطي موسكو الغطاء القانوني لوقف ضخ الغاز أو النفط وفقًا للعقود طويلة المدة، وهذا يمكّنها من بيع الغاز الطبيعي أيضًا بأسعار مضاعفة في السوق الفورية، مما سينعكس على وضع أسواق الطاقة العالمية بالسلب.
ولكن إذا نظرنا بشكل عام، فإن التماسك الأوروبي ظل متذبذبًا بشكل كبير حول فرض عقوبات صريحة وسريعة على قطاع الطاقة الروسي، وهو ما تسبب في المساهمة في تحقيق مكاسب روسية من قطاع النفط والغاز الطبيعي، وأدى إلى زيادة الفجوة بين صادرات موسكو ووارداتها بنحو 3 مرات، فبلغت حوالي 338 مليار دولار منذ بداية العام الحالي. هذا بالإضافة إلى نجاح روسيا بالفعل في فتح أسواق جديدة (كما في الشكل التالي)
فقد امتلأت خزائن موسكو وذلك كنتيجة لارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة. وفي المقابل، ما زالت دول الاتحاد الأوروبي تعاني من التداعيات القاسية للحرب الروسية الأوكرانية؛ نتيجة النقص الحاد في الإمدادات الروسية وارتفاع معدلات التضخم والتي وصلت إلى حوالي 10% وزادت من حدته أسعار الطاقة المرتفعة.
سيناريوهات كارثية
تُمثل محاولة الوصول إلى تحييد وتحديد سقف سعري للنفط الروسي أو بمعنى أدق تضييق الخناق على صادرات النفط الخام الروسي محاولة محفوفة بالمخاطر؛ لأنه لا يوجد ما يضمن أن توافق موسكو على تصدير النفط الخام مقابل السقف السعري المتوقع، خاصة إذا اقترب ذلك السقف من تكلفة الإنتاج الفعلية للبرميل؛ وفي هذه الحالة قد يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن إمكانية الاحتفاظ بالنفط الروسي وعدم طرحه في الأسواق العالمية لفترة محددة وقصيرة سوف يلحق أضرارًا ضخمة باقتصادات الدول الأوروبية والولايات المتحدة، بما يتجاوز الأضرار الواقعة على الاقتصاد الروسي.
وفي هذه الحالة ستصل الأسعار إلى مستويات عالية وقد تتخطي حاجز 200 دولار للبرميل إذا ما أوقفت موسكو ضخ أكثر من 5 ملايين برميل من النفط الخام يوميًا إلى الأسواق كرد فعل انتقامي على العقوبات الأوروبية، وهو ما سيمثل المخاطرة الأكثر صعوبة من جانب الكرملين لأنها قد لا تضر بالاقتصاد الروسي وفي نفس الوقت سيضر بقلب الاقتصاد الأوروبي خاصة وأن شرايين النفط الروسي ممتدة في قلب القارة الأوروبية.
مجمل القول؛ بناء على المؤشرات والمعطيات السابقة، يتضح أن محاولة وضع سقف سعري للنفط الروسي لن تجدي نفعًا في ظل عائدات موسكو من صادرات النفط والتي تخطت حوالي 338 مليار دولار خلال العام الحالي وبدعم قوي من صادرات النفط الخام الروسي رخيص الثمن والمدعوم بتخفيضات كبيرة تصل إلى حوالي 40%، واستغلال دول مثل الصين والهند لهذا الوضع. ولذلك فإن قراروضع حد سعري للنفط الروسي في الحقيقة لن يكون له التأثير البالغ في حجم الصادرات الروسية؛ لأن العقوبات الأوروبية السابقة استهدفت بالفعل حظر النفط الروسي، وفي المقابل نجحت روسيا في فتح أسواق جديدة، بالإضافة إلى وجود انقسام أوروبي حول مسألة حظر مصادر الطاقة الروسية والتي أثبتت فشلها في ظل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن شتاء أوروبا القادم سيكون الأصعب في تاريخها. وحتى محاولة وضع حد سعري للنفط الروسي سيؤدي إلى رد روسي حاد مثلما قطعت من قبل الغاز عن العديد من الدول الأوروبية التي رفضت سداد المدفوعات بالروبل مثل هولندا وفنلندا وبولندا وبلغاريا، ولذلك تزداد المخاوف الأوروبية من أن تتسع دائرة الرد الروسي وتشمل دولًا أخرى تُحرم من النفط والغاز الروسيين. وفي الأخير، يُشكل الإصرار الغربي على إبعاد نحو 5 ملايين برميل يوميًا من النفط الخام محاولة انتحارية قد تهدد بشكل كبير أمن الطاقة العالمي.
.
رابط المصدر: