عبد الامير المجر
على خلفية الفظائع التي ارتكبت اثناء حرب التحرير الجزائرية، ضد الفرنسيين، كتب الفيلسوف جان بول ساتر، كتابه الشهير (عارنا في الجزائر)، ضمّنه نقدا لاذعا لممارسات سلطات بلاده ضد الشعب الجزائري .. معلوم ان فرنسا احتلت الجزائر بذريعة واهية، بعد ان اقدم حاكم الجزائر (الداي احمد) على ضرب القنصل الفرنسي بمنشة الذباب! من دون ان نعرف تفاصيل الواقعة ودوافعها، التي منحت فرنسا حق احتلال الجزائر، ومن ثم ضمها لنحو 130 عاما! انتهت مطلع ستينيات القرن الماضي.
بعد كفاح طويل سارتر نفسه، كان قد وقف مع شعبه ضد الاحتلال النازي في العام 1941 كبقية المثقفين الفرنسيين، على الرغم من مشاربهم الفكرية المختلفة، والمتناشزة احيانا، لانهم جميعا باتوا امام استحقاق وطني واخلاقي كبير، ولامجال للاختباء وراء اية فكرة، طالما ان الوطن بات مهددا بوجوده، وكرامة الانسان تسحق في العام 1968 بعد انتفاضة الطلبة الشهيرة، اواخر عهد الرئيس ديغول، اصطف سارتر مع المنتفضين ضد السلطة، وقد طلب بعض المسؤولين اعتقاله، لكن ديغول ردّ عليهم بالقول؛ هل تريدون مني ان اعتقل فرنسا! مشيرا الى مكانة سارتر، بوصفه فيلسوفا شغل الراي العام الفرنسي والعالمي على حد سواء، وبات ايقونة فرنسية، يصعب التعرض لها والتعريض بها.
السؤال الذي تطرحه هذه الوقائع المجتزأة من سيرة سارتر، كيف تصنف وطنية هذا المثقف، اذا ما اردنا تصنيفها؟ .. لاشك ان الوطنية قدر وليس خيارا يقرره الانسان في مرحلة معينة من حياته، فهو يولد في ارض معينة ويجد نفسه بين اناس يتكلمون لغة مشتركة، ويفكرون بشكل متشابه ويجمعهم هم ّ واحد، يتمثل بتحقيق حياة كريمة وسعيدة، وهذه لاينفرد بها شعب دون اخر، بل انها تمثل المشترك الانساني، الذي يجمع البشر، مثلما يفرقهم ويتسبب في منازعاتهم وحروبهم ايضا!
المثقف بحكم وعيه المتقدم وقدرته على التأمل بعمق، وصل الى حقيقة تؤكدها اعماقه، هي ان الارض باكملها ملك الانسان وملعبه الذي وزعت اشكاله الطبيعة، وتوزع هو بينها لااكثر، من دون ان يكون له يد في ذلك، وان وجوده المكاني في بقعة محددة، لايعدم حقه في العيش باية بقعة اخرى، ولايقف هذا التوزع او التباعد حائلا دون تواصله مع ابناء جنسه في بقع اخرى، ولعل سبب النزاعات والحروب بين الدول والجماعات، هو ان الانسان لم يصل بعد الى النضج، الذي يجعله قادرا على توزيع ثرواته بشكل يجنبه الحروب والصراعات التي خاضها ضد صنوه الانسان، منذ آلاف السنين واكثر، وربما، وهو الاقرب للموضوعية، لم تكن لديه الادوات الفاعلة التي تسعفه في تحقيق هذا الحلم اليوتوبي!.
مهمة المثقف ان يجعل القيم الانسانية العليا هي الاساس، ومنها ينطلق في معالجاته للمواقف التي يتعرض لها، او تفرض نفسها عليه، ولابد له من ان يختار المكان الصح، بعيدا عن الاهواء العابرة، ان يقف المثقف ضد النظام في بلده، لانه اساء التصرف بامر ما، يجب ان يوازيه موقف مماثل من النظام نفسه، عندما يسيء التصرف ضد شعب اخر او جماعة في اية بقعة من الأرض.
وان الوقوف مع النظام في لحظة يكون فيها الوطن مهددا، لايعني بالضرورة ان المثقف بات جزءا من السلطة، لان هذه القراءة الدوغمائية، مدعاة للتضليل وخلط للارواق، وطنية المثقف لايختزلها مكان او وطن معين، لان قضية بناء الحياة مسؤولية مشتركة، يقف المثقفون في طليعة المتصدين لها، بعيدا عن التعصب الاعمى، والتهويمات العقائدية والقراءات الطوباوية معا!.
رابط المصدر: