أحمد نظيف
دخلت المفاوضات بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي من أجل التوصل إلى اتفاق الحصول على قرض بقيمة حوالي 4 مليارات دولار لسد عجز الموازنة العامة، مرحلتها الأخيرة، حيث تُراهِن حكومة الرئيس قيس سعيّد على هذا القرض للخروج من الأزمتين المالية والاقتصادية اللتين تعيشهما البلاد، فيما يسعى الصندوق إلى فرض تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي.
تستكشف هذه الورقة آفاق مسار التفاوض بين الطرفين ومساراته المحتملة، من خلال تحليل مضمون حزمة الإصلاحات المطلوبة من الحكومة التونسية، والتحديات التي تعترض برنامج الإصلاح محلياً ودولياً.
أرضية التفاوض ومساراته المحتملة
في بداية شهر يوليو الماضي انطلقت المفاوضات رسمياً بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي، والتي كان أساسها برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي قدَّمته حكومة نجلاء بودن في شهر يونيو 2022. وتدور المفاوضات حول مدى ملائمة برنامج الإصلاح التونسي للشروط التي طرحها الصندوق منذ نهاية العام 2021، وتدور أساساً حول خفْض الإنفاق العام (التقشف)، ويشمل ذلك: تخفيض فاتورة رواتب الخدمة المدنية (16% من الناتج المحلي الإجمالي، 650 ألف موظف مدني)، ورفْع الدعم عن السلع الأساسية والزيادات المنتظمة في أسعار المحروقات بهدف مواءمة الأسعار المحلية مع الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي، إلى جانب خصخصة عدد من مؤسسات القطاع العام، وتعزيز العدالة الضريبية من خلال إعادة الاقتصاد غير الرسمي إلى النظام الضريبي، وضمان مساهمات أكبر من المهن الحرة. كما يشترط موافقة أبرز الفاعلين الاجتماعيين والنقابيين على البرنامج، وتحديداً: الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة.
يقوم برنامج الإصلاح الحكومي على هذه الركائز، حيث يضع جدولاً زمنياً متدرجاً لرفع الدعم عن المواد الأساسية، مثل الحبوب والمحروقات، والتخفيض الواضح للزيادات في أجور موظفي الدولة، والتوجه نحو خصخصة وإعادة هيكلة الشركات في القطاع العام. خلال الجولة الأولى من التفاوض في يوليو 2022، أحرز الطرفان تقدُّماً واضحاً بشأن معايير السياسات والإصلاحات الاقتصادية للسلطات التي سيصيغها برنامج يدعمه صندوق النقد الدولي، حيث اعتبر الصندوق أن برنامج الحكومة التونسية يُراعي معايير “المحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي، ودعم النمو الشامل، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي والعدالة الضريبية”.
وكانت العقبة الوحيدة أمام الحكومة التونسية خلال الفترة الأولى من التفاوض تتمثَّل في مواقف الرفض التي أعلنها الاتحاد العام التونسي للشغل، وتجلَّت في شكل إضراب عام شلّ القطاع العام، وتحفُّظٍ حول مسألتي تجميد الرواتب ورفع الدعم عن المواد الأساسية. لاحقاً، وبعد الإستفتاء على الدستور، بدأت مواقف المركزية النقابية في أخذ مسار أكثر ليونة، ومن خلال لقاءات مباشرة بين الرئيس سعيّد وقيادة الاتحاد، توصل الطرفان إلى اتفاق حول برنامج الإصلاح. إذ نجحت الحكومة في انتزاع موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال توقيع بروتوكول حول زيادات طفيفة في الأجور لم يتجاوز الخمسة في المئة، في منتصف سبتمبر الماضي، مقابل موافقة المركزية النقابية على برنامج الإصلاح، رغم التحفُّظ الواضح على مسألة رفع الدعم؛ ليُنجَز بذلك آخر شرط من شروط صندوق النقد الدولي.
تخشى القوى الغربية انهياراً مالياً في تونس تعقبه حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، يمكن أن تشكل فرصة للقوى المنافسة للتمركُّز الغربي في تونس، وبالتالي فإن خطوة منْح الحكومة التونسية قرضاً من صندوق النقد الدولي ستُمثِّل مؤشراً مستقبلياً على طبيعة هذا النهج الغربي في التعامل مع إدارة الرئيس قيس سعيّد
في بداية أكتوبر الجاري، بدأت في واشنطن، المرحلة الأخيرة من المفاوضات بين صندوق النقد والحكومة التونسية، والتي من المحتمل أن تدور بالأساس على قيمة القرض وأوجه الصرف الكبرى. وكانت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، قد أعلنت في وقت سابق أن المفاوضات في “مرحلة متقدمة لإبرام اتفاقات على مستوى الخبراء. من الصعب التنبؤ إن كان ذلك سيستغرق أياما أم أسابيع، لكنَّه سيكون قريباً جداً”. بيد أن اتفاق الخبراء لن يكون كافياً قبل مصادقة مجلس إدارة الصندوق خلال اجتماعه الفصلي في نوفمبر المقبل، وسيلي ذلك شروع البرلمان الجديد في مناقشة قانون الموازنة الجديدة للعام 2023.
لذلك، فإن المسار المتوقع، هو موافقة الصندوق على منْح القرض المطلوب لتونس، خاصة بعد إقرار برنامج الإصلاح، بل والشروع في تنفيذ بعض بنوده من خلال الزيادات المتواترة في أسعار المحروقات، ورفع أسعار بعض المواد الأساسية على نحو تدريجي، مقابل تقليص الإنفاق في تعويض فوارق أسعار توريد المواد الأساسية (الزيت، والسكر، …). وكذلك ضمان موافقة القوى الاجتماعية الفاعلة، وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل. وعلى ضوء ذلك يمكن التوقع بأن يُتوَّج مسار التفاوض في شهر نوفمبر المقبل بالموافقة على القرض الذي قد تصل قيمته إلى أربعة مليارات دولار. وفي هذا المسار، ستكون مسألة الموافقة على القرض، أو حتى مجرد توقيع اتفاق الخبراء، بوابة تونس نحو توقيع اتفاقيات تمويل ثنائية مع العديد من الدول التي ربطت ذلك بضمان موافقة صندوق النقد الدولي مثل اليابان، إذ سيرفع الاتفاق من تصنيف البلاد الائتماني على نحو كبير.
وما يزيد من ترجيح هذا المسار إعلانُ سفراء أربع دول كبرى هي: ألمانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، واليابان في تونس، في سبتمبر الماضي، عن دعم بلدانهم للحكومة التونسية في مفاوضاتها مع صندوق النقد، وهي دول لديها نفوذ واسع على الصندوق. وأكثر من ذلك، لديها مصالح اقتصادية في تونس، ومصالح جيوسياسية تحتاج لحدٍّ أدنى من الاستقرار السياسي والاجتماعي في قضايا مثل الأمن، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية. إذ تخشى القوى الغربية انهياراً مالياً في تونس تعقبه حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، يمكن أن تشكل فرصة للقوى المنافسة للتمركُّز الغربي في تونس، وبالتالي فإن خطوة منْح تونس قرضاً من صندوق النقد الدولي تُمثِّل مؤشراً مستقبلياً على طبيعة هذا النهج الغربي في التعامل مع إدارة الرئيس سعيّد.
أخيراً، فإن احتمال فشل المفاوضات بين الطرفيين يظل ضعيف الحدوث، ومع ذلك يبقى احتمالاً قائماً. حيث سيؤدي ذلك إلى خسارة الحكومة التونسية فرصتها الأخيرة في إنقاذ الوضع الاقتصادي والتوازنات المالية للدولة من خلال المسارات غير الاستثنائية، وستكون حينذاك مُجبرةً على سلوك الخيار الاستثنائي، وهو التوجه إلى نادي باريس. كما سيُشكل ذلك انهياراً في تصنيف الدولة الائتماني، وسيزيد من تعميق أزمتها داخلياً، من حيث معدلات التضخم المرتفعة، وانحدار احتياطي العملات الأجنبية، ونقص تزويد السوق المحلية بالمواد الأساسية، خاصة وأن الحكومة التونسية قد وضعت نموذج الانقاذ الاقتصادي قائماً على التداين الخارجي – حالها حال الحكومات السابقة – دون وضع خيارات بديلة تستهدف إعادة تشغيل قوى الإنتاج المحلي الصناعي والزراعي لتأمين حد أدنى من السيادة في التبادل وخفض فاتورة الميزان التجاري.
بمجرد شروع الحكومة التونسية في تطبيق البرنامج الإصلاحي المقترح من صندوق النقد الدولي، ستواجه تحديات كبيرة على المديين المتوسط والبعيد، إذ يُمكن أن تُولِّد تلك الإصلاحات أزمات اجتماعية في صفوف الطبقات الوسطى والفقيرة، قد ينتج عنها احتجاجات متوالية، وربما تُفضي إلى انفجار اجتماعي في نهاية المطاف
التحديات
في حال نجاح المفاوضات بين الطرفين، من المتوقع أن تدخل البلاد في انتعاشة مرحلية، من خلال ترقيع عجز الموازنة العامة للدولة، وجلب تمويلات أخرى من الدول الكبرى والإقليمية، ويمكن أن ينعكس ذلك على الوضع العام عبر استئناف تزويد السوق المحلية بالمواد الأساسية التي تشهد ندرة غير مسبوقة، وإعادة تشغيل الدور التنموي للدولة عبر المشاريع الحكومية، خاصة في المناطق الداخلية والأقل تنمية. لكن، ومع هذه الانتعاشة المحتملة، سيكون نجاح المفاوضات والشروع رسمياً في تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد باباً أمام بروز تناقضات اجتماعية وسياسية جديدة في البلاد يُمكِن أن تُشكِّل تحدياً قوياً للدولة وعلاقتها بالقطاع الأوسع من السكان من الطبقات المتوسطة والشعبية، على المديين المتوسط والطويل. ويبرز هنا تحديان أساسيان، هما:
1. التحدي الاجتماعي؛ حيث ستؤدي سياسة رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات – حتى وإن كانت تدريجية – إلى مزيد تدهور أوضاع الطبقتين الوسطى والفقيرة، في ظل ارتفاع فاتورة الغذاء والطاقة بسبب التضخم والسياق الدولي الضاغط. وهذا التدهور سيتجلى في شكل هبَّات واحتجاجات اجتماعية وإضرابات يمكن أن تتحول جميعها مع الوقت إلى انفجار اجتماعي، خاصة وأن سياسة رفع الدعم تقترن أساساً بخفض الإنفاق العام وتقليص دور الدولة الاجتماعي، وتجميد الرواتب. وهذا المناخ يمكن أن يُصلِّب مواقف النقابات ويجعلها أكثر تشدداً، حيث لا تكون القيادة النقابية في وضع مريح من جراء الضغط المفروض عليها من القواعد العمالية المتضررة من السياسات الجديدة.
2. التحدي السياسي؛ وهو بدوره نتيجة للتحدي الاجتماعي الذي سيُعمِّق من أزمة السلطة السياسية محلياً، ويمكن أن يكون العقبة الأولى أمام مشروع الرئيس قيس سعيّد لتأسيس نظام سياسي جديد في البلاد وتثبيته، وسيكون قطعاً في صالح قوى المعارضة. وعلى الأرجح، سيزيد هذا التحدي من تدفقات الهجرة غير النظامية، ويهدد الاستقرار الأمني للبلاد، ويمكن أن يدفع الحكومة إلى الاستعانة بقوى غير غربية، وهذه النتائج الثلاث ليست في صالح القوى الغربية السائدة بطبيعة الحال.
الخلاصة
نجحت الحكومة التونسية في إقرار برنامج إصلاح يُراعي شروط صندوق النقد الدولي في خفض فاتورة الإنفاق العام، وفي كسب موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل على البرنامج الإصلاحي. لهذا، يُرجَّح أن توقع تونس مع الصندوق اتفاقاً على مستوى الخبراء في وقت قريب، وسيليه الاتفاق النهائي، الذي سيفتح الباب أمام تدفق تمويلات جديدة على مستوى ثنائي من دولٍ كانت رهينة ضمان صندوق النقد، ورفْع التصنيف الائتماني للدولة. لكن هذا الاتفاق، وبمجرد الشروع في تطبيق بنوده والبرنامج الإصلاحي المقترح من الصندوق، سيكون أمام تحديات كبيرة على المديين المتوسط والبعيد، إذ يُمكن أن تؤدي الإصلاحات تلك إلى توليد أزمات اجتماعية في صفوف الطبقات الوسطى والفقيرة، قد ينتج عنها احتجاجات متوالية، وربما تُفضي إلى انفجار اجتماعي في نهاية المطاف.
.
رابط المصدر: