تلبية لدعوة من الرئيس الصيني “شي جين بينج”، أجرى الرئيس “بشار الأسد” زيارة هي الثانية للصين في 21 سبتمبر الجارى، إذ كانت الأولى في عام 2004. حضر الرئيس السوري النسخة التاسعة عشر من دورة الألعاب الآسيوية المنعقد في 23 سبتمبر بمدينة هانغتشو بشرق الصين، واستغرقت الزيارة عدة أيام، ورافقه وفد سوري رفيع المستوى يضم وزير الخارجية “فيصل المقداد” ووزير الاقتصاد والتجارة “محمد الخليل”، وكذلك السيدة الأولى ” أسماء الأسد” والتي التقت بطلاب الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين، إذ دار حوار معها حول اللغة والعلاقات الإنسانية والثقافية بين الدول. ضمن هذا السياق يناقش التحليل السياق العام للزيارة وأهداف الطرفين للتقارب.
سياق إقليمي ودولي متغير
تختلف الزيارة هذه المرة في الإعلان عن الارتقاء بمستوى العلاقات من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية، وتأتى بعد مرور 12 عامًا على نشوب الأزمة السورية، وفى ضوء متغيرات إقليمية ودولية متسارعة على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية التي فرضت متغيرات جديدة في النظام الدولي بالاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية تزايد حالة الاستقطاب الدولي على المنطقة، فضلًا عن التحولات الإقليمية المتسارعة بالاتجاه إلى التطبيع مع إسرائيل عبر اتفاقيات إبراهام، ونشوء تحالفات جديدة عبر تهدئة التوترات مع إيران بتوقيع الاتفاق الإيراني- السعودي في 10 مارس الماضي، برعاية صينية.
ليتضح في هذا السياق محاولات الصين وروسيا لخلق نظام دولي متعدد الأقطاب، تلعب فيه الصين دورًا أكثر وضوحًا في المنطقة، بالانخراط عبر شراكات تعاونية واتضح ذلك في عقد القمة العربية-الصينية في الرياض في ديسمبر 2022.
لننتقل بذلك إلى توازنات جديدة في المنطقة والإقليم، سواء عبر محور (سوريا-إيران-روسيا-الصين)، خاصة أن إيران وروسيا أسهمتا في صمود النظام السوري على مدار السنوات الماضية، بما قد يؤول إلى أن تكون هذه الدول صاحبة القرار في الحل السياسى للأزمة عبر مسار أستانا، في ظل الاستدارة الأمريكية عن شؤون المنطقة واتجاهها إلى فك الارتباط بها، وعدم أخذ المخاوف الإقليمية في الاعتبار، مما جعل دول المنطقة تتحرك من منطلق الواقعية والبراجماتية أكثر من مراعاة التحالفات التقليدية، والاتجاه إلى صيغة التحركات الفعلية بعيدًا عن رد الفعل.
والشواهد في ذلك نجاح بعض دول المنطقة في الانضمام إلى تجمع بريكس الذي أصبح يضم كلًا من: (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، ومصر، والإمارات، والسعودية، والأرجنتين، وإثيوبيا) واتجاهًا إلى خفض الدولرة، وربما تسريع وتيرة التعاون الاقتصادي في إطار مشروع الحزام والطريق الذي تسعى الولايات المتحدة إلى منافسته من خلال الممر الاقتصادي من الهند إلى أوروبا الذي أعلن عنه في قمة العشرين، والذي يمر عبر الخليج وميناء حيفا ثم اليونان إلى ألمانيا، في سياق التنافس الاقتصادي الدولي.
في ضوء هذه المتغيرات الدولية والإقليمية، تمثل زيارة الرئيس “بشار الأسد” أحد التحركات الفاعلة لكسر العزلة الدولية لاسيما بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، خاصة أن هناك تحديات ما زالت قائمة من حيث شكل العلاقة بين النظام السوري ودول المنطقة، وما يؤرق بعض الدول أمنيًا نتيجة تهريب الكبتاجون من سوريا إلى العراق والأردن ودول الخليج، مع التمسك بالحل السياسي للأزمة.
مثلت الزيارة بعدًا مهمًا فى التحولات الاستراتيجية لعلاقة الصين بدول المنطقة. وفيما يلي نذكر أهداف الصين وسوريا من التقارب:
•شريك استراتيجي: تقدم الصين نفسها على أنها شريك استراتيجي لسوريا مساند لها ومعارض للتدخل الأجنبي؛ إذ لم ينقطع الدعم الصيني خلال الأزمة السورية وظل مستمرًا، واستخدمت بكين كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي الفيتو لأكثر من مرة في بعض القرارات الدولية التي تدين النظام السوري، منها في عام 2012 ضد مشروع قرار تقدمت به واشنطن لسحب قوات النظام من المدن السورية، وفى عام 2017 ضد مشروع قرار يتضمن فرض عقوبات على الحكومة السورية بعد اتهامات باستخدام الأسلحة الكيميائية، وفى عام 2020 اعتراضًا على تمديد إرسال المساعدات إلى سوريا عبر تركيا.
وفى ظل التضييق الأمريكي بعد فرض العديد من العقوبات منذ اندلاع الأزمة السورية، وإصدار قانون قيصر، كانت الصين من بين الدول المساندة لسوريا في الزلزال المدمر الذي تعرضتله كل من سوريا وتركيا في فبراير 2023 بتقديمها للمساعدات الإنسانية. وطرحت الصين خلال زيارة وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” إلى دمشق في عام 2021 مبادرة لحل الأزمة في سوريا تتمثل في (احترام سيادة سورية، وسلامة أراضيها وتسريع عملية إعادة الإعمار ورفع العقوبات ومكافحة الإرهاب، وحل الأزمة عبر التشاور السياسي).
خلال لقائه بالرئيس الصيني “شي جين بينج”، عبرت كلمات الرئيس “بشار الأسد” عن تطلعه لوضع الأسس لتعاون استراتيجي واسع النطاق ومتعدد الأبعاد. ووفقًا لوزارة الخارجية الصينية، فإن الزيارة مثلت خطوة في مسار الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى جديد. ووفقًا للبيان الصادر عقب اللقاء، بعثت عدة رسائل صينية خلال كلمة الرئيس “شي جين بينج” تضمنت رؤيتها تجاه الأزمة السورية حيث إن “الصين تعارض تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية السورية، وتحث جميع الدول المعنية على رفع العقوبات الأحادية غير القانونية”، بالإضافة إلى التأكيد على “التعاون المشترك بين الدولتين للدفاع عن العدالة والسلم الدوليين”. والجدير بالإشارة هنا؛ من الدول التي تتمتع بمستوى شراكة استراتيجية مع الصين (باكستان، روسيا، بيلاروسيا).
• توازنات القوى: تعكس مساعي وتحركات الصين في المنطقة حالة من ضبط توازنات القوى عبر الانخراط أكثر في شؤون المنطقة وتهدئة التوترات، مثلما نجحت في توقيع الاتفاق الإيراني- السعودي في مارس الماضي، أو عبر محاولات إقامة الشراكات المتنوعة الاقتصادية والعسكرية مع دول الشرق الأوسط من خلال مشروع الحزام والطريق. وتمثل سوريا بالنسبة للصين إحدى أوراق الضغط في مواجهة الغرب لتوظيفهم لورقة تايوان، خاصة أن لسوريا ثقل جيوسياسي من الناحية الجغرافية والمكانة الحضارية، فضلًا عن موقعها المهم في معادلة التوازنات في الشرق الأوسط.
كذلك تهدف الصين إلى موازنة النفوذ الأمريكي في سوريا خاصة في ظل تقارب الولايات المتحدة مع الأكراد الذين يسيطروا على أكبر الحقول النفطية في شرق سوريا بالقرب من الحدود مع العراق، لذلك تتطلع الصين إلى الموقع الجيوستراتيجي لسوريا وتحديدًا ميناءي اللاذقية وطرطوس، لإيجاد موطئ قدم لها في البحر الأبيض المتوسط، إذ تمثل الموانئ السورية بوابتها إلى أوروبا.
وربما تعول الصين في هذا الصدد على الارتقاء بمستوى العلاقات من التعاون المحدود إلى الشراكة الاستراتيجية، وربط خطوط الطاقة بين الصين وإيران والعراق وسوريا، وهو ما تم طرحه في عام 2002 من قبل سوريا لتحويلها من قاعدة لنقل الغاز واعتبارها منطقة تجارة حرة تصل الشرق بالغرب عبر ربط البحار الخمسة، بما يتوافق مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، خاصة بعد الإعلان عن الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي عبر الشرق الأوسط الذي يمثل تهديدًا لمسار الحزام والطريق.
ذلك علاوة على أن الربط السككي بين إيران والعراق وميناء اللاذقية في سورية، يخدم نقل البضائع الصينية إلى أوروبا، وتقع سوريا بالقرب من العراق الذي تستورد الصين منه نحو 10 في المئة من النفط الذي تستهلكه، وتركيا التي تمثل نهاية الممر الاقتصادي الذي يمتد عبر آسيا إلى أوروبا والأردن.
• متطرفي الإيجور: هناك تنسق أمنى بين الصين وسوريا في ملف المقاتلين الصينين المتمركزين في إدلب بشمال سوريا بهدف منع انتقال المتطرفين من الإيجور إلى أفغانستان ثم الصين، إذ لدى الأخيرة بعض التخوفات من تأجيج الأوضاع في إقليم شينجيانغ ذي الأغلبية المسلمة، والنزعات الانفصالية، حيث انتقل عدد من أقلية الإيجور إلى سوريا منذ عام 2013، ويمثل ملف متطرفي الإيغور، والحزب الإسلامي التركستاني (حركة جهادية يتحدث المنتمين لها اللغة الإيجورية وينحدرون من شينجيانج) ضمن ملفات مهمة على أجندة الصين خاصة بعد إزالة الحزب التركستاني من قائمة الإرهاب في أواخر عام 2020 من قبل الولايات المتحدة بما زاد من التخوفات الصينية، إذ وصل عدد متطرفي الحزب في سوريا نحو 14 ألف في عام 2021، وينتشرون في مناطق غربي إدلب وريف اللاذقية الشمالي أي المناطق القريبة من الحدود مع تركيا.
• كسر العزلة: تمثل زيارة الرئيس بشار الأسد خطوة في مسار كسر عزلة سوريا الدولية والإقليمية منذ اندلاع الأزمة السورية وفرض العقوبات عليها، ومن ناحية أخرى محاولة لتعزيز شرعية النظام ضمن خطوات أخرى لاسيما بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية والمشاركة في القمة العربية الأخيرة “التجديد والتغيير” في مايو 2023، وقيامه ببعض الزيارات الخارجية سواء إلى الحلفاء التقليديين روسيا وإيران أو زيارته إلى المنطقة التي شملت زيارته للسعودية ولقائه بولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” وبعض القادة العرب على هامش القمة العربية، ثم زيارته إلى عمان في فبراير 2023، وأخرى إلى الإمارات ولقائه الشيخ “محمد بن زايد” في 18 مارس 2022.
ويعد توقيت الزيارة إلى الصين ضرورة في ظل التحديات الداخلية التي يشهدها النظام السوري من حيث الاحتجاجات الأخيرة في مدينة السويداء جنوب سوريا، فضلًا عن نشوب مواجهات مسلحة بين العشائر العربية وقوات قسد في الشمال، وقيام الولايات المتحدة بنشر مزيد من قواتها في شمال شرق سوريا، بما يعنى إعادة التفاعلات إلى الشمال السوري مجددًا.
•الاستثمار في قطاع النفط: بلغت الاستثمارات الصينية في سوريا خلال الفترة من 2008-2009 نحو 3 مليار دولار في قطاع الطاقة واستخراج النفط، ومن ثم يتطلع الرئيس السوري إلى جذب مزيد من الاستثمارات الصينية ضمن مشروع الحزام والطريق الصيني الذي يمر عبر سوريا، وقد أعادت شركة “سينوبك” الصينية للطاقة والكيماويات هيكلة نظامها الإداري للفرع الخاص بها في سوريا، بتعيين مدير جديد بعد مرور عقد من الزمن على تعليق نشاطها، بما يعنى إعادة الانخراط الصيني للاستثمار في قطاع النفط السوري؛ إذ تحاول الصين التقارب مع الأكراد حول إدارة آبار النفط في شمال شرق سورية، لكن تظل تواجه تحديًا في ضوء العلاقة الجيدة بين الولايات المتحدة والأكراد، فضلا عن الوجود الأمريكي هناك.
من ناحية أخرى؛ تهدف الصين إلى تعزيز مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، إذ يمثل الاعتماد الصيني على الغاز والنفط في الشرق الأوسط بنحو 44% وارتفعت الصادرات النفطية الإيرانية إلى الصين ما بين 1.4 مليون برميل يوميًا وما يقرب من 1.9 مليون برميل، في تحدٍ لنظام العقوبات الأمريكية على إيران، حيث وقعت الصين وإيران اتفاقية شراكة استراتيجية في نهاية مارس 2021 لمدة 25 عامًا تنص على أن الصين سوف تستثمر قرابة 400 مليار دولار في صناعات النفط والغاز والبتروكيماويات الإيرانية، ويمنح الاتفاق كذلك أولوية لصالح الصين في المزايدات في أي مشروع جديد داخل إيران مرتبط بهذه الصناعات.
وتشير التقارير إلى منح الاتفاق أدوارًا جديدة محتملة للصين داخل منطقة الشرق الأوسط، حيث وجود بند سري بالاتفاق مفاده إمكانية نشر الصين 5 آلاف من قواتها الأمنية في إيران. ولم يتوقف توطيد العلاقات الصينية الإيرانية عند هذا الحد، بل امتد إلى قبول منظمة شنغهاي للتعاون، التي تتولى الصين –بجانب روسيا- قيادتها في سبتمبر 2021، عضوية إيران بالمنظمة.
• مشروع الحزام والطريق: تعول الصين وسوريا على الانتقال إلى مستوى أكبر من التعاون، يرقى إلى الشراكة عبر تفعيل الانضمام إلى الحزام والطريق، ومساهمة الصين في إعادة إعمار سورية؛ إذ انضمت سوريا إلى المبادرة في يناير 2022، وربما تمثل في المستقبل أحد الحلفاء الاستراتيجيين ضمن المشروع، خاصة أن الصين عازمة على عقد مؤتمر في أكتوبر القادم بمناسبة مرور عشر سنوات على مبادرة الحزام والطريق، وتعول على دخول سوريا ضمن الخطوط المحتملة للمشروع.
ختاماً؛ يمكن القول إن زيارة الرئيس السوري إلى الصين عكست مصالح متبادلة ونقاط تلاقٍ مشتركة بين بكين ودمشق، لكن يظل الانتقال من مستوى التعاون المحدود إلى الشراكة الاستراتيجية مرهونًا بالتفاعلات الإقليمية والدولية المتغيرة بشكل مستمر، وربما الإعلان في اللقاء عن الارتقاء بمستوى العلاقات مجرد وعود مستقبلية بالتعاون المحتمل أكثر من كونها شراكة قائمة على التزامات حقيقية في الوقت الحالي. وتظل الصين حذرة في الدفع بالاستثمارات في ضوء حالة عدم الاستقرار الأمني في سوريا، والخلل الذى يواجه البنية التحتية التي دُمرت بسبب الحرب، بما يعرقل استقبال الشركات الصينية الهادفة إلى الاستثمار والربح.
.
رابط المصدر: