بين فيشمان
خلال الأسبوع الماضي، زادت الجهات الفاعلة الإقليمية والأوروبية نشاطها الدبلوماسي حول ليبيا استجابةً لتزايد حدة العنف في الحرب الأهلية المندلعة منذ تسعة أشهر. ففي 8 كانون الثاني/يناير، أي بعد أقل من أسبوع على إقرار البرلمان التركي إرسال قوات لدعم “حكومة الوفاق الوطني” التي تتخذ من طرابلس مقرّاً لها، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيرة الروسي فلاديمير بوتين في اسطنبول ودعيا إلى وقف إطلاق النار في ليبيا ابتداءً من 12 كانون الثاني/يناير. وسواء توصّلت موسكو وأنقرة إلى وقف العنف موقّتاً أم لا، يمثّل نفوذهما المتنامي في ليبيا فشلاً ذريعاً للمساعي الغربية الرامية إلى حل النزاع دبلوماسيّاً.
ويتطلّب الجهد الطويل الأمد الذي يهدف إلى تعزيز العملية الانتقالية السياسية في ليبيا جهداً دوليّاً أوسع نطاقاً لتحقيق السلام والمصالحة – وهو أمر يمكن أن تدعمه تركيا وتركيا وليس أن تقوداه. وبدا أن بوتين وأردوغان أدركا هذا الواقع في قمتهما، فأيّدا عقد مؤتمر متعدد الأطراف يُخطَّط له منذ وقت طويل في برلين ويرمي إلى إعادة التزام كافة الجهات الفاعلة المعنية بدعم إنهاء الأعمال العدائية واحترام قرار حظر الأسلحة الإلزامي الصادر عن “مجلس الأمن الدولي” والذي يجري تجاهله على نطاقٍ واسع. فحتى لو افترضنا أن بوتين كان جدّيّاً وسحبَ المرتزقة الروس من الجبهة، إلّا أن وقف إطلاق النار الكامل والدائم لا يمكن أن يحدث إلا حين توافق الجهات الفاعلة الأخرى التي تدعم ما يُسمّى بـ “الجيش الوطني الليبي” بقيادة اللواء خليفة حفتر على سَحب معداته وأفراده لفترة زمنية محددة عند إطلاق المفاوضات – وخاصة الإمارات العربية المتحدة، التي تمنح “الجيش الوطني الليبي” تفوّقاً جوّيّاً مهمّاً. وفي الوقت نفسه، سيتعيّن على تركيا اتخاذ خطوات متناسبة من جانبها لوقف التصعيد.
وتُعتبر الولايات المتحدة الجهة الفاعلة الوحيدة التي تتمتّع بالمكانة اللازمة لدى جميع الأطراف الأجنبية للتوصل إلى وقف حقيقي لإطلاق نارٍ. ورغم انغماس واشنطن بالأزمتيْن في إيران والعراق، عليها توسيع نطاق جهدها الدبلوماسي اللازم لتحقيق استقرارٍ دائم في ليبيا قبل أن تنزلق البلاد إلى المزيد من الفوضى العارمة.
عواقب تدخل تركيا
بعد التعرض للضغط من جرّاء انضمام متعاقدين عسكريين خاصين روس إلى معسكر حفتر في أيلول/سبتمبر، لجأت “حكومة الوفاق الوطني” إلى تركيا، حليفتها الإقليمية الموثوقة، بهدف الحصول على المساعدة في تشرين الثاني/نوفمبر. ففي السابق، زوّدت أنقرة القوات المنتمية إلى صفوف “حكومة الوفاق الوطني” بالمركبات المدرّعة وبطائرات من دون طيّار من طراز “بيرقدار” في وقتٍ مبكرٍ من الحرب الأهلية، إلا أنها أبطأت الإمدادات وعملياتها خلال الصيف. ولكن في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، وقّعت تركيا اتفاقيْن مثيريْن للجدل مع “حكومة الوفاق الوطني” هما: مذكّرة التفاهم التي وافقت تركيا بموجبها على توفير المعدات العسكرية والأفراد والتدريب عند الطلب، والاتفاق البحري الذي رسم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة ممدّداً المياه الإقليمية الخاصة للبلدين في البحر الأبيض المتوسط، مما أثار غضباً شديداً لدى قبرص ومصر واليونان.
وفي كانون الأول/ديسمبر، طلبت “حكومة الوفاق الوطني“ دعماً عسكريّاً مباشراً على أساس مذكّرة الدفاع، ووفت أنقرة بتعهدها عبر الموافقة على نشر الجنود في 2 كانون الثاني/يناير. ويبقى نطاق التدخل التركي ومهمته غير واضحيْن – فقد صرح أردوغان في 6 كانون الثاني/يناير أن قواته ستؤدي دوراً تنسيقيّاً وتدريبيّاً، مشدداً على أنها لن تقاتل. وفي غضون ذلك، نشرت تركيا ميليشياتٍ من سوريا للمحاربة إلى جانب “حكومة الوفاق الوطني”، مضيفةً إلى الخليط المزيد من المقاتلين الأجانب (وقد نفت أنقرة إرسالهم، لكن السفارة الأمريكية في طرابلس، التي تعمل حالياً من تونس، أكدت وجودهم).
بالإضافة إلى إثارة ارتدادات سياسية ملحوظة من دول “الاتحاد الأوروبي” التي تعارض تدخّل أنقرة، ساهم الطابع المطوّل والبارز للمشاركة بين “حكومة الوفاق الوطني” وتركيا في التصعيد العسكري الأخير. وزادت القوات المنتمية إلى صفوف حفتر من غاراتها في خلال الأشهر القليلة الماضية، ما أدى إلى ارتفاع عدد القتلى بين المدنيين. كما أنها استهدفت المطاريْن في مصراتة وطرابلس، بما في ذلك هجوم صاروخي دقيق ضد وحدة متخرّجة من الطلّاب العسكريين الجويين قيد الإعداد أسفر عن مقتل أكثر من ثلاثين شخصاً. وفي الآونة الأخيرة، استولت هذه القوات على سرت في وقتٍ سابق من هذا الشهر بعد أن غيرت ألوية سلفية متعددة وما تبقّى من جهات موالية للقذافي ولاءها.
إنّ سقوط سرت أمر سيء للغاية بشكل خاص، لأنه في عام 2016 أمضت الولايات المتحدة ستة أشهرٍ في مساعدة القوات الموالية لـ”حكومة الوفاق الوطني” من مصراتة على طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من المدينة. بالإضافة إلى ذلك، توفّر سرت بعداً استراتيجيّاً لمصراتة، لذا يتعيّن الآن على هذه القوات نفسها أن تدافع عن مدينتها من الشرق، مما يحد من قدرتها على تعزيز “حكومة الوفاق الوطني” في طرابلس غرباً.
جعل وقف إطلاق النار قابل للتطبيق
في ظل كل هذا النشاط العسكري، ازدادت وتيرة النشاط الدبلوماسي. فبعد زيارة الرئيسيْن الجديديْن في البلديْن المجاوريْن تونس والجزائر في الأسابيع الأخيرة، سافر رئيس “حكومة الوفاق الوطني” فايز السرّاج إلى بروكسل في 8 كانون الثاني/يناير، حيث تعهّد الممثّل السامي “للاتحاد الأوروربي” جوزيف بوريل “بضمان التنفيذ الكامل للتدابير العملية من أجل ضمان وقفٍ مستدامٍ لإطلاق النار ومواكبة العملية السياسية”. ثمّ أصدر بوريل بياناً مشتركاً مع وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا دعا إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات عبر عقد مؤتمرٍ مستقبليٍّ في برلين. وأدان البيان أيضاً “الاتفاقات الأحادية الجانب”، خاصّاً بالذكر الاتفاق بين “حكومة الوفاق الوطني” وتركيا (على الرغم من أنه لم يذكر الترتيبات المختلفة غير الرسمية التي تقرر الدعم الأجنبي لحفتر).
على الرغم من أن الجهات الفاعلة الأوروربية الرئيسية تبدو الآن موحَّدةً أكثر بشأن ليبيا مما كانت عليه في الماضي، إلا أن تحقيق الاستقرار على المدى الطويل سيستلزم إقناع كافة الداعمين الخارجيين لحفتر أو الضغط عليهم لوقف دعم هجومه على طرابلس. وسيطرح إقناع حفتر وحده بعض التحديات نظراً إلى عدم استعداده في السابق لقبول أي شكل من أشكال التسوية السياسية مع “حكومة الوفاق الوطني”. إلا أن الصعوبة تتضاعف حين يبقى داعموه الأساسيون – أي الإمارات العربية المتحدة ومصر – بنفس القدر من التعنّت. وبالفعل، لا تزال أبوظبي والقاهرة مقتنعتيْن تماماً أن “حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها دوليّاً مدينة بالفضل “للميليشيات الإسلامية”، في حين يلائمهما تجاهل العدد الكبير من العناصر السلفية ضمن صفوف “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر. ويعزز دعم أردوغان لـ “حكومة الوفاق الوطني” وجهة النظر هذه، بما أن المسؤولين الإماراتيين والمصريين يعارضون سياسات القائد التركي إقليميّاً ويعتبرونه راعي خصومهم الإسلاميين المحليين.
بناءً على ذلك، لا بدّ من أن تشكّل الإمارات العربية المتحدة نقطة انطلاق واشنطن. وستبقى احتمالات تحقيق السلام في ليبيا ضعيفة إلى حين قيام أبوظبي بسحب طائراتها المسيّرة بدون طيّار وعملائها والأشكال الأخرى من الدعم العسكري الأساسي الذي تقدّمه. وإلى جانب واقع أن الإماراتيين هم الذين يحققون المنفعة الأكبر لقوات حفتر، من المنطقي أيضاً التركيز عليهم لأن الجهات الفاعلة الأجنبية الأخرى لديها حاليّاً بعض الأسباب للّجوء بأنفسها إلى التهدئة. فقد يقرر بوتين الآن سحب مرتزقة “فاغنر” الروسية، ولو كإجراء موقّت للوفاء باتفاقه مع أردوغان والحد من احتمالات التصادم بين تركيا وروسيا. ولم تلتزم أنقرة بَعد بقواتها بالكامل وتستطيع بالتالي الحد من مساهماتها، خاصّةً إذا اعتبرت أن طرابلس لم تعُد تحت التهديد المباشر (من وجهة نظر تركيا، فإن سقوط المدينة سيهدد مصالحها الاستراتيجية في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط الكبير). وبالنسبة إلى مصر، لا يُرجَّح توفير المزيد من الدعم إلى حفتر في طرابلس، لأن مصلحتها الأساسية تكمن في ضمان أمن حدودها مع ليبيا.
بإمكان واشنطن وحدها أن تُفسّر للإمارات العربية المتحدة بأن المغامرة في أقصى شمال أفريقيا هي تصرّفٌ طائش في وقتٍ يشهد أزمةً استثنائيةً في الخليج العربي، في حين يجب أن تركّز أبوظبي مواردها على الأمن الإقليمي المشترك. كما أنّ الدور الدبلوماسي الأمريكي سيعطي الإماراتيين ضمانة بأن آراءهم ستؤخذ على محمل الجد خلال المفاوضات.
وفي الوقت نفسه، يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يكونوا مستعدين لشجب مساهمة الإمارات العربية المتحدة في التصعيد – وهو أمر رفضوا القيام به بشكل ملحوظ في تصريحات سابقة مستشهدين بأطراف محاربة أخرى. كذلك، على واشنطن أن تساعد أبوظبي في تبديل ذهنية الحالة المتعادلة حول ما يسمى بالإسلاميين عموماً، وتشكّل ليبيا مكاناً مناسباً للانطلاق منه.
وبهدف تعزيز هذه الجهود الثنائية، يجب أن تعمل الإدارة الأمريكية مع روسيا لإصدار قرارٍ في “مجلس الأمن الدولي” يدعم وقف إطلاق النار. وسبق أن اعترضت إدارة ترامب على هذا الإجراء المهم في نيسان/أبريل وأيار/مايو الماضييْن، لكنها تحظى الآن بفرصة أخرى للدفع باتجاهه نظراً إلى دعوة بوتين بنفسه إلى وقف إطلاق النار.
رابط المصدر: