نور عرفة
بعد مضيّ ثلاثة عقود على توقيع أول اتفاقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما تبقّى منها هو آلية إسرائيلية للسيطرة على الفلسطينيين بأقل التكاليف.
مرّت ثلاثة عقود على توقيع الفلسطينيين والإسرائيليين اتفاقية أوسلو الأولى في 13 أيلول/سبتمبر 1993، التي أدّت إلى الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وإطلاق ما عُرف بعملية السلام. وأسفرت الاتفاقية أيضًا عن إنشاء السلطة الفلسطينية في العام 1994، بصفتها الممثّل الرسمي للشعب الفلسطيني في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حزيران/يونيو 1967، وتولّت مهمة إدارة أنشطتهم الاقتصادية وشؤونهم الحياتية اليومية. كان الفلسطينيون آنذاك يأملون بإقامة دولة تتمتّع بالسيادة والاستقلال وبتحقيق الازدهار الاقتصادي. لكن اليوم، وبعد مرور ثلاثين عامًا، باتوا أبعد ما يكون عن هذه الأهداف.
فعلى الرغم من التغييرات المؤسسية التي أحدثتها عملية أوسلو، احتفظت إسرائيل بالسيطرة المُطلقة على الأراضي المحتلّة وسكانها، بينما مُنحت السلطة الفلسطينية صلاحيات محدودة للغاية. لقد أتاحت اتفاقيتَا أوسلو – الأولى، ثم الثانية التي وُقّعت في أيلول/سبتمبر 1995 – لإسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة على موارد فلسطينية أساسية، ومن ضمنها المياه والكهرباء والطاقة. كذلك، حافظت إسرائيل على السيطرة الكاملة على الحدود الخارجية وعلى حركة التجارة الفلسطينية مع الأسواق العالمية.
علاوةً على ذلك، مُنح الإسرائيليون السيطرة الكاملة على الإيرادات الضريبية للسلطة الفلسطينية، من خلال نظام المقاصّة. فبموجب هذا النظام، تُحصِّل إسرائيل بالنيابة عن السلطة الفلسطينية الضرائب على الواردات إلى السوق الفلسطينية، والضرائب غير المباشرة على السلع الإسرائيلية المصدّرة إلى الأراضي المحتلّة، وضرائب الدخل والتحويلات الاجتماعية من الفلسطينيين العاملين في إسرائيل أو في المستوطنات الإسرائيلية. بعدئذٍ، تقوم إسرائيل بتحويل إيرادات هذه الضرائب إلى السلطة الفلسطينية بعد خصم 3 في المئة منها كرسم تحصيل.
ومع أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يدير الاقتصاد بشكل مباشر في الأراضي المحتلّة وحدّ من انتشاره العسكري، فإنه ظل يعمل باعتباره السلطة الأساسية، متحكِّمًا بجوانب حياة الفلسطينيين كافة، بما في ذلك الشؤون المالية والتجارية، والتواصل مع العالم الخارجي، فضلًا عن الموارد الاقتصادية والبشرية الفلسطينية. ولذا، بقيَ اقتصاد الأراضي المحتلّة معتمدًا على اقتصاد إسرائيل في مرحلة ما بعد أوسلو، كما كان عليه الحال في مرحلة ما قبل أوسلو.
إضافةً إلى ذلك، أصبح المبدأ الأساسي في اتفاقية أوسلو الأولى، والمتمثّل في الاعتراف بقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ككيان جغرافي موحّد، بحكم المُلغى نتيجة قيام إسرائيل بتفتيت الأراضي الفلسطينية. إن نظام الإغلاق الإسرائيلي، الذي بدأ العمل به في مطلع التسعينيات، والقيود المفروضة على الحركة والتنقّل، والتقسيم الإداري للضفة الغربية إلى المناطق “أ” و”ب” و”ج” بحسب اتفاقية أوسلو الثانية، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وبناء جدار فصل، كلّها عوامل أدّت إلى التفكّك الجغرافي لأراضي الضفة الغربية، والتي أصبحت مفصولة أيضًا عن قطاع غزة والقدس الشرقية.
ارتبط هذا الواقع الجغرافي بالتفكّك الاقتصادي في الأراضي المحتلّة وتحوّلها إلى مناطق اقتصادية مختلفة، تشمل قطاع غزة، والقدس الشرقية، والمنطقة “ج” في الضفة الغربية، ورام الله في وسط الضفة الغربية، وشمال الضفة الغربية وجنوبها. نتيجة هذا الواقع المكاني والاقتصادي، الذي جعل خريطة الضفة الغربية أشبه بشريحة من الجبن السويسري، بات من المستحيل إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.
من هذا المنطلق، لا بدّ من التساؤل: ما الذي حقّقته اتفاقيات أوسلو في الواقع؟ أو ما الأهداف التي سعت إلى تحقيقها؟ لقد كانت عملية أوسلو في المقام الأول مشروعًا يرمي إلى إعادة تنظيم السلطة الإسرائيلية، من خلال إنشاء السلطة الفلسطينية كمؤسسة حكم غير مباشر أحالت إليها إسرائيل مسؤولياتها المرتبطة بسكان الأراضي المحتلّة. والسبب في ذلك هو أن إخضاع الفلسطينيين للحكم المباشر بات مكلفًا جدًّا لإسرائيل على المستويَين المالي والعسكري، ولا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987.
عبّر دوف فايسغلاس، المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون، بوضوح عن المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في أوسلو، حين كتب في العام 2012 ما مفاده: “اليوم، ونتيجةً لاتفاقيات أوسلو، أصبحت السلطة الفلسطينية، وليس إسرائيل، مسؤولة عن الحياة اليومية لنحو 3.5 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة… أخبرني فلسطيني مرةً أن صفقة أوسلو كانت “ترتيبًا إسرائيليًا ذكيًا”. سألته: كيف ذلك؟ فأجاب: “لقد أنشأَت أول سجن في العالم يتعيّن فيه على السجناء إعالة أنفسهم من دون أن تسهم الإدارة العليا في ذلك”. تتمتع إسرائيل بصلاحيات سلطة سيادية في الأراضي الفلسطينية – إنما من دون الالتزامات التي تترتّب عادةً عن ذلك. هذا الوضع هو نتيجة مباشرة لاتفاقيات أوسلو”.
ومن بين الجوانب الأساسية للسلطة الفلسطينية بصفتها مؤسسة حكم غير مباشر هو أنها مكلّفة بممارسة دور المقاول الأمني لصالح إسرائيل. فهي مسؤولة عن تهدئة المخاوف الأمنية والسياسية لإسرائيل من خلال التنسيق الأمني مع الإسرائيليين. وهكذا، أصبحت السلطة الفلسطينية ذراع إسرائيل في قمع المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال.
عمومًا، لم تسعَ اتفاقيات أوسلو فقط إلى مأسسة حالة انعدام التوازن في القوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل أعطت لإسرائيل وسيلةً تدير من خلالها احتلالها بتكلفة منخفضة، نظرًا إلى أن السلطة الفلسطينية ومجتمع المانحين الدوليين أصبحا طرفَين مهمَّين في إدارة شؤون الفلسطينيين. كما وكانت عملية أوسلو مربحة اقتصاديًا لإسرائيل، ولا سيما أنها أنهت مقاطعة الجامعة العربية للشركات التي تتعامل مع إسرائيل، ما سمح لها بالانخراط بشكل كامل في الاقتصاد العالمي. من غير المفاجئ إذًا أن الراحل إدوارد سعيد أطلق على اتفاقيات أوسلو تسمية “معاهدة فرساي الفلسطينية”.
ولكن، على الرغم من الجهود الإسرائيلية الحثيثة لتقسيم الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية، وخصوصًا في ظل حكومة اليمين المتطرف الحالية؛ وعلى الرغم من تمسّك السلطة الفلسطينية بأوسلو ومن ضعفها المتزايد وافتقارها إلى الشرعية، فالتاريخ شاهدٌ على أن الفلسطينيين لن يستسلموا حتى ينالوا الحرية والكرامة والعدالة.
رابط المصدر: