محمد علي جواد تقي
لو طالعنا تاريخ الانبياء وتجاربهم مع أقوامهم لوجدنا حرص الرسالات السماوية على منح الحياة الطيبة لبني البشر كجماعات وليس كأفراد، من أول الخليقة وحتى اليوم، والى يوم القيامة، حتى الدعوة الى التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، وألوان الشرك بالله –تعالى- كان مؤداه تحقيق الخير للإنسان، بالمقابل تذكيره بأن عبادة الأصنام؛ الحجرية منها والبشرية لا تؤدي سوى الى الموت الزؤام، كما حصل مع تجربة بني اسرائيل و فرعون، والاستعباد وضنك العيش في ظل ملوك و أباطرة كانوا يضحون بحياة البشر لتوفير الراحة والهناء لهم ولحاشيتهم.
وفي القرآن الكريم عدد وافر من الآيات التي تتحدث عن محاججة الانبياء والمرسلين لأقوامهم العاكفين على الاصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تغني ولا تسمن من جوع.
والأقوام التي نجت من عذاباتها وطوت صفحة مظالمها، هي من التزمت الطريق الذي اختطه لها الانبياء عندما تحولوا الى مجتمع، ثم الى أمة تعالج مشاكلها بصورة جماعية وليس فردية، وفق قوانين و وسنن ثابتة، وابرز الأمثلة على ذلك؛ قوم يوسف عندما ضربهم الجفاف وانحسار الغيث لسبع سنين متتالية، ولو لم تكن حنكة نبي الله يوسف، والإسناد الإلهي له، ثم نجاحهم في تحقيق التضامن الاجتماعي والتكافل، لكانوا من الهالكين جوعاً، هذا ما يتعلق بالكوارث الطبيعية، أما ما يتعلق بالكارثة ذات البعد المعنوي التي تسببها معاصي العباد لله –تعالى-، فقوم يونس الذين انفردوا بين جميع الاقوام التي حاق بها العذاب والتدمير بعد إنكار كل الحجج و الرسل والنُذر والمعاجز، فقد اجتمعوا على الإنابة الى الله والتوبة اليه في مكان واحد وبصوت واحد خرج من الطفل الصغير والشيخ الكبير والمرأة والرجل، فارتفع عنهم عذاب عظيم كان قريباً منهم استجابة لتلك التوسلات والتضرعات.
مواصفات المجتمع الحيّ
إن التضامن الاجتماعي لمواجهة كارثة طبيعية، او انتشار وباء يفتك بعدد كبير من الناس، او حتى لمواجهة خطر خارجي، من شأنه ان يكون قاعدة انطلاق نحو خطوة حضارية متقدمة في مسيرة المجتمع والامة الناجحة عندما تحمل مواصفات الحياة والنمو والتطور، ومن دون هذه القاعدة يتعذر عليها، ليس فقط النجاة من الكوارث والمحن، بل ولا حتى العيش الكريم والبسيط الذي تتمناه اليوم معظم شعوبنا العربية والاسلامية.
وخير تجربة للبشرية لمجتمع حيّ وأمة ناهضة قدمها المسلمون في فجر الرسالة المحمدية عندما تحولوا الى أشبه ما يكونوا الى البذرة الحيّة التي تمتصّ عناصر الحياة من حولها، ثم تشقّ الارض وتتحول الى شجرة سامقة ومثمرة.
وهذا هو مجتمع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان عدد أفراده في مكة لا يتجاوز مئة انسان فقير لا يمتلك من القدرات المادية شيء يذكر، ولكن؛ في أقل من ربع قرن تمكن هؤلاء الفقراء مجتمعين من التأثير على سائر المجتمعات في الجزيرة العربية وتحويلها الى الاسلام، وفي وقت لاحق، تمكنوا من تذويب حضارات وثقافات في بوتقة الحضارة الاسلامية التي راحت تنمو ويقوى عودها وتنتشر في الآفاق لتبشر بالحياة الطيبة والكريمة للعالم.
واذا كان هذا المثال من التاريخ القديم، وليس لنا من اليوم أي نصيب، فان المثال الحيّ للمجتمع الحيّ ما نراه في المجتمع الاوربي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يحتل مساحة صغيرة من العالم، بيد أنه ترك تأثيرات بالغة على جميع شعوب العالم، ليس فقط من الناحية السياسية والاقتصادية، بل والثقافية ايضاً، علماً أن المجتمع الاوربي الحيّ الذي نقصده هو اوربا الغربية التي شكلت مؤسسات وهيئات اقتصادية وسياسية واجتماعية تحت مسميات؛ “السوق الاوربية المشتركة”، و”الاتحاد الاوربي”، و”البرلمان الاوربي” ثم توحيد العملة والاجراءات الجمركية وغيرها كثير من الخطوات التي أعطت هذه القارة هوية جديدة وتأثير كبير في العالم، وتمكنت من ايجاد حلول لكثير من المشاكل والازمات التي تواجه دول هذه القارة الصغيرة.
أما الأمة المريضة والمأزومة فهي المنكفئة على نفسها، والمقسّمة الى شعوب ودول بحدود مصطنعة لا شأن لهذا الشعب بالشعب المجاور له، وهو ما جعل الشعوب الاسلامية بعيدة عن مراقي التقدم والتطور، وتتأثر بشكل سريع بأي أزمة اقتصادية او صحية او كارثة طبيعية تلمّ بها.
ثمن التضامن الاجتماعي
عندما يتحدث العلماء والفضلاء عن قيم اجتماعية سامية، مثل؛ التعاون والتكافل والتضامن، فان الحديث لا يستهدف الميسورين في المجتمع ليبذلوا من اموالهم للاسهام في حل المشاكل الكبرى مثل الفقر، والامراض، وغيرها بسهولة دون أن تتأثر ارصدتهم المالية في البنوك، وإنما المسألة موجهة للجميع بأن يستعدوا لثمن ايجاد المصاديق العملية لهذه القيم الحضارية، لاسيما وان كل انسان سويّ يستشعر السعادة والارتياح من أعماق نفسه عندما يساعد الآخرين بأي شكل من الاشكال، بيد ان هذه المساعدة، وبأي قدر كان لابد من ان تتوفر له مقدماته متطلباته، وإلا كان مجرد تمنيات في الهواء الطلق.
وفي احدى محاضراته مع جمع من الاخوة المؤمنين في مدينة قم المقدسة، أشار سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- الى أن تحقيق هذه القيم في حياة أي مجتمع لابد وأن يصحبه استعداد كامل “لتحمل المشاكل” لانقاذ الامة مما تعيشه من تخلف ومشاكل في المجالات كافة.
وهذا يستدعي نوعاً من التضحية بالمال تارةً، وبالوجاهة الاجتماعية تارة أخرى، وهو وما اشار اليه ذات مرة الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- مشيراً الى التضحية “بماء الوجه” من اجل انقاذ انسان من الفقر او قضاء حاجة مستعصية له، كما هنالك أنواع اخرى من التضحية قد تكون بالمنصب والجاه الاجتماعي عندما يوظفه صاحبه ويجعله جسراً يمضي عليه المعوزون، واصحاب الحاجات الملحّة التي تنقطع بهم السبل.
هذه الخصلة القابلة للنمو في نفس الانسان، هي التي تبعث الحياة والنمو في المجتمع والامة وتجعلها آمنة من الكوارث والازمات، وإن ألمّت بها، فهي قادرة على معالجتها بأقل الخسائر.
رابط المصدر: