كان مشهد صعود رأس النظام المصري إلى الطائرة التي حطت في مطار القاهرة مُقِلّة الملك السابق عبد الله، دونما أن ينزل الرجل بحسب الأعراف البروتوكولية، بعيدا حتى عن مكانة البلد الذي حطت فيه طائرته بشعبها وتاريخها، لافتا؛ واللافت أكثر هو ذلك الوضع المذِل الذي استقبل به الملك رأس أكبر دولة عربية ليقبل الأخير رأسه. لم يُفهم المشهد بتفاصيله إلا بعد أن انكشفت تلك المليارات التي كانت قد انهالت من المقبَّلة رأسه على رأس النظام في مصر حتى قبل انقلابه على الرئيس المنتخب، والتي وصلت إجمالا مع الدعم الإماراتي والكويتي إلى ما يقارب الــــــ 48 مليار دولار، بخلاف الدعم النفطي بشحنات شهرية كانت تصل لسد العجز. وقد زادت هذه الأرقام بعد وصول الملك سلمان للعرش وسيطرة ولي عهده على مقاليد الأمور وطاعته العمياء لولي عهد الإمارات؛ وكان الدافع وراء كل هذه الأموال هو ضمان إخماد الثورة والتخلص من الإسلام السياسي في مصر، والاستفادة من الخزّان البشري والقدرات القتالية للجيش المصري في مشاريع لا تستطيع الدول الدافعة تنفيذها.
تدخُّل غير موفق خلّف خسائر ولم يجنِ أرباحا
اختار رأس النظام في مصر “الرز السعودي” – كما جاء في أحد تسريباته – في مقابل لعب دور التابع المطيع، وكانت المهمة الخارجية الأولى التي كُلّف بها هي عاصفة الحزم والانضمام إلى ما عرف في حينها بقوات دعم الشرعية (في اليمن)، وكان من المفترض أن يدفع رأس النظام في مصر بقواته لتكون وقودا لهذه المعارك، وهو ما راوغ فيه واختار دور تأمين البحر الأحمر وقطع طرق الإمداد لميليشيات الحوثي، وهو أيضا ما لم يحدث، ومن ثمّ كانت تلك أول خدعة أخذ بها النظام أموال الخليج دون أن يقدم شيئا. وليُغطي على هذه العملية انخرط من غير مبرر في قرار السعودية والإمارات والبحرين في حصار قطر ومقاطعتها سياسيا واقتصاديا، على الرغم من أن أموال الأخيرة كانت لا تزال في بنكه المركزي.
هذا التدخل غير المبرر قوبل دوليا بالسخرية، فلا تجْمع مصرَ بقطر حدودٌ حتى تحاصرها، ولم تجمع مصر وقطر خلافاتٌ اقتصادية حتى تقاطعها؛ لكن المخرج الذي أعطى دور التابع في هذا المسلسل للكومبارس أراد ذلك، وهو ما رآه المراقبون تدخلا غير موفَّق في أزمة يمكن أن تربح منها مصر على كل المستويات فإذا بها تخسر على كل الأصعدة.
وعود لم تُنفَّذ وغضب مكتوم
على الرغم من المليارات التي تحصَّل عليها رأس النظام المصري من دول الخليج وعلى رأسها السعودية وضُخَّت بشكل ممنهج في مفاصل الاقتصاد المصري للسيطرة عليه، وإن كانت الإمارات أكثر ذكاء في هذا الصدد، إلا أن السعودية أيضا كان لها نصيب في كعكة الاقتصاد المصري.
وفي التسليح استطاع النظام أن يسحب من النظامين السعودي والإماراتي مع دعم إعلامي غير مسبوق على أمل أن يكون الجيش المصري فرد أمن على بوابات السعودية والإمارات، وهو ما لم يحدث أيضا، ولعل مثال اليمن وقبلها وبعدها سوريا خير مثال، حتى ليبيا التي دفعت الإمارات بقوة ومن ورائها السعودية لإقحام الجيش المصري فيها، تم احتواؤها بشكل عاقل من قبل الأتراك الذين فهموا اللعبة وفوَّتوا الفرصة، مع كل ذلك فإن وعودا بمليارات تضخ في الاقتصاد غير تلكم التي دخلت حسابات الجنرالات، بموافقة ضمنية من السعودية، لم تأتِ كما وعد الملك وولي عهده بعد أن تنازل رأس النظام عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين مقابل “الرز” ، فقد كانت الوعود تتضمن حصة معتبرة من مشروع “نيوم” وتنمية كبيرة لسيناء، ما يحلحل الوضع الاقتصادي المأزوم في مصر التي توقف العمل بها إلا للقطاعات الاقتصادية في الجيش.
تبخّرت كل هذه الوعود تحت ضغط عوامل كثيرة منها ما صنعته سياسة النظام في مصر ومنها ما صنعته سياسة ولي العهد السعودي، ومنها متأثر بعوامل دولية وإقليمية، وبالنتيجة ولِّد غضب مكتوم لدى رأس النظام في مصر ورجاله المستفيدين من رز السعودية المزروع بالنفط.
العوامل التي أثّرت في وقف الدعم السعودي
عوامل متعددة ومتشعبة ساهمت في وقف المشاريع وضخ الاستثمارات السعودية لمصر منها ما صنعته سياسات النظام والتسريبات التي خرجت للعلن وطريقة نظرة رأس النظام ورجاله للسعودية وتصويرها على أنها جوال أرز على العسكر الغرف منه حتى يشبعوا، وبما أن هذا الجوال لا يفرغ فإن العسكر لن يشبعوا، وهو ما أثّر على مظهر ولي العهد تحديدا في المملكة. كما أن تصميم النظام على أنه يحارب الإرهاب وأن بلاده دوما في خطر جعل المستثمرين السعوديين عازفين عن الاستثمار في بلد يهدده الإرهاب، خاصة أن الحكومة في مصر لم تقدم رؤية حقيقية مشفوعة بخطط للتنمية، ولم تجذب المستثمر بحزمة تسهيلات تشجع بها رؤوس الأموال، ما رسّخ فكرة أن الأموال المستثمرة تدخل تحت بند الزر المستباح.
ولعل سياسات ولي العهد كان لها دور في تراجع هذه الوعود، تحت الضغوط من ناحية، وتحت بند إعادة تدوير الأولويات من ناحية أخرى، فأزمة خاشقجي سببت ضغطا كبيرا على الأمير الشاب؛ ودخوله نادي دافعي الجزية بعد تولي ترامب عامل ضاغط آخر؛ مع قراره بخفض سعر النفط الذي أثّر بشكل كبير. لكن منظومة إعادة تدوير الأولويات قررت الاستدارة ناحية الكيان الصهيوني والتطبيع “غير المعلن” وجعلت مصر في أواخر اهتمامات الأمير الصغير.
خط سوميد يُحال إلى التقاعد
سوميد هو خط أنابيب يمتد من الخليج العربي وينقل بتروله عبر خليج السويس إلى ساحل البحر المتوسط في مدينة سيدي كرير، وهو يمثل بديلا آمنا لقناة السويس في نقل نفط السعودية والخليج إلى أوروبا، وتستفيد منه مصر بشكل مزدوج ماديا ومن خلال حصة من النفط، لكن وبحسب وكالة بلومبرج فإن تدفقات النفط عبر الأنبوب الناقل تراجعت، فمن الإشكاليات أيضاً بين السعودية والنظام في مصر، عدم وضوح الرؤية إزاء تجديد اتفاق توريد حصة البترول الخام لمصر بأسعار تفضيلية بعد الانقلاب. يأتي ذلك في ظل الكشف عن مبادرة من الكيان الصهيوني بمد خط أنابيب موازي لخط سوميد يربط السعودية بأوروبا عبر أراضي الكيان المحتل عبر ميناء إيلات ، وهو المشروع الذي يلقى حماسا كبيرا من إدارة ترامب، وهو أيضا يسبب إزعاجا كبيرا للنظام في مصر، ما يعني أن النظام في مصر يخسر داعما كبيرا يدفع في بند الاستثمارات وفي بند النفط، ولا يبخل في العادة في ضخ الهبات.
تفكك في جبهة دول الحصار
لعل من أولى المحاولات التي أراد بها النظام المصري تقديم نفسه لإدارة ترامب، كانت القضية الفلسطينية من وجهتها الإسرائيلية، فلقد كانت كلمة السيسي لترامب عن صفقة القرن في أول لقاء بينهما، ووعده بأن يكون داعما لها، هو محاولة لتقديم نفسه كعرّاب التطبيع للمنطقة. وجاءت اتفاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني من الإمارات والبحرين والسودان، ثم السعودية التي تنتظر الفرصة، مرضية لسيد البيت الأبيض، وهم في ذلك سواء، حتى لو وصل بايدن، وبالا على النظام في مصر؛ فالاستدارة الكاملة لدول الخليج باتجاه الكيان الصهيوني أخرجت أو تكاد تخرج مصر من المعادلة، وهو مطلوب بالطبع من قبل الكيان الصهيوني كما هو مطلوب من كل من السعودية والإمارات الطامحتين منذ زمن لقيادة المنطقة.
ولعل دفع الإمارات للسودان وموريتانيا والتنسيق الكامل بينها والكيان الصهيوني في ملف التخلص من حزب العدالة والتنمية في تركيا يرشحها بشكل كبير أو لعلها بالفعل أخذت مكانة مصر في ملفات المنطقة، وهو أيضا ما يدفع إلى تفكك جبهة الحصار بعد أن أصبح المبرر المقبول شعبيا للتقارب الخليجي مع الكيان الصهيوني هو مواجهة إيران، وهو ما يعني أن علاقات أكثر دفئا مع قطر في سبيلها للتشكل، ما يكشف موقف النظام المصري وصوره في صورة المهلّل في أزمة لم يكن ليدخلها بالأساس.
هل ستترك السعودية النظام المصري يغرق؟
ويبقى السؤال المهم في ظل هذا الحراك وكل هذه المواقف والتغيرات، هل ستترك السعودية النظام المصري يغرق في دوامة مشاكله، لاسيما وأن الحراك الشعبي الأخير هدد وجوده بدخول فئات غير مؤدلجة على خط الغضب المندلع منذ سبع سنوات، ولا مناص من أن تقدم التنازلات والرشا الجماهيرية وحزم الدعم والمزايا وضخ فرص عمل حقيقية لإسكات هذا الحراك أو على الأقل تهدئته، وهو ما يستوجب مزيدا من المال.
ولن يجد النظام أفضل من السعودية للقيام بهذه المهمة، لاسيما وأن حالة الغضب في المملكة تتنامى، ويخاف حكامه أن تنتقل عدوى الثورة؛ لذا فيما يظن أن حِزم الدعم ستعود لكن ليس بسخاء ما قبل أو أثناء أو بُعيد الانقلاب، وأصبح لزاما على الجنرالات أن يتنازلوا عن التدفقات المالية المحوَّلة إلى بنوك الخارج من هذه الحزم لإرضاء الشارع المنتفض وإخماد نار غضبه؛ لكن أيضا فيما يعتقد أن السعودية ستُبقي على زمام هذه اللعبة بيدها تمنح بقدَر وتمنع بقدَر ليظل مِلاك النظام بيدها وتظل مصر الجنرالات تابعا بالكلية يستمتع حكامها بالمازوخية السياسية.