ترجمة: فاطمة غدير
ثلاثون عامًا مرت على حرب الخليج التي تعرضت فيها إسرائيل لهجوم بصواريخ سكود، وبرغم ذلك امتنعت تل أبيب عن مهاجمة منشآت الإطلاق في غرب العراق.
في كانون الثاني/يناير- 1991: الشوارع في إسرائيل شبه خالية من الناس؛ الدولة في حالة طوارئ، وجمهور الناس ملزمون بالبقاء في منازلهم، وأن لا يغادروها إلا للحصول على احتياجاتهم والقيام بمهماتهم الأساسية؛ مثل: العمل، وشراء الحاجات المنزلية. لم يكن السبب في فرض الطوارئ حينها وباءً هائلًا كما هو الحال اليوم، بل حرب مع العراق!
لم يكن من المفترض لإسرائيل أن تكون طرفًا في هذه الحرب، لكنها أصبحت كذلك، بل أضحت لاعبًا رئيسًا سلبيًا، وهي حرب ينتظر فيها جميع الأطراف المتصارعة كيف ستكون ردة الفعل الإسرائيلية على استهداف الصواريخ العراقية لها، إن وجدت.
خلال حرب العراقية-الكويتة في آب/أغسطس- 1990، لم تكن إسرائيل في مرمى نيران العراق على الإطلاق، لكن تشكيل التحالف الأمريكي ضد الرئيس صدام حسين دفعه إلى تهديد الوكيل الأهم للولايات المتحدة في المنطقة بالهجوم على إسرائيل.
على الجانب الآخر، وفي إسرائيل تلقوا التهديد، وتعاملوا معه باعتباره واقعًا ثقيلًا لا بد منه، لكن كان الخوف الأكبر عندهم هو أن يطلق عليهم صدام أسلحة غير تقليدية؛ بيولوجية أو كيميائية. وللتعامل مع هذا التهديد، وزعت إسرائيل على مواطنيها أقنعة نووية (ذرية، وبيولوجية، وكيميائية)، وطُلب من الجمهور تجهيز غرف مغلقة، كما أوصت إسرائيل بوضع قطع قماش مبللة في الفراغات الموجودة بين الأبواب والأرض. لاحقًا أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي آنذاك الجنرال العميد نحمان شاي أنه لا توجد توصيات أفضل، كما أنه كان ينبغي طمأنة الجمهور وإعطاؤهم الشعور بأنه يتم القيام بكل ما يمكن للحفاظ على سلامتهم.
يقول د. كوبي ميخائيل: “هناك شيء يجب فهمه حول عقل القيادة وكذلك الجمهور (في إسرائيل)؛ خاصة بين صانعي القرار؛ وكان صدام حسين هو الاسم الذي أخاف الحكومة والجيش”. يضيف ميخائيل، وهو باحث أول في معهد الدراسات الأمنية ومحرر مجلة التحديث الاستراتيجي: “هذا رجل رأى نفسه صلاح الدين الجديد، ووضع تدمير إسرائيل هدفًا له. لقد قال ذلك علنًا في كل منصة، وقام بالاستعدادات اللازمة لذلك، بما في ذلك المفاعل النووي الذي قصفته إسرائيل قبل عقد من الزمن، كان الخوف منه ملموسًا جدًا”.
وبالإضافة إلى التوصيات الموجهة للجمهور، نُفِّذت هجمات مضادة من وراء الكواليس في إسرائيل احتياطًا لتنفيذ صدام حسين تهديداته، كما قُدِّمت خطط إلى الحكومة بعضها واسع النطاق وبعضها محدود للغاية؛ تحدثت الخطط المحدودة عن غارة جوية على فرق الإطلاق ومنشآت الإطلاق في غرب العراق، ودعت الخطط الأوسع نطاقًا إلى توجيه ضربة جوية مكثفة للعراق يتم بعدها إرسال 1500 جندي للعمل في المنطقة.
يقول اللواء احتياط إيتان بن إلياهو القائد السابق لسلاح الجو: “كان هناك نقاش حاد على طاولة المفاوضات حول ما إذا كان يجب شن هجوم أو لا، وكالعادة شارك السياسيون فيه، ولكن بقطع النظر عن البيانات السياسية، كان هناك أيضًا نقاش عسكري استراتيجي مطول. أرادت القوات الجوية الهجوم، بل إنها وضعت خططًا على الطاولة لهذا الغرض”.
لماذا ضغطت القوات الجوية بشدة لشن هجوم مضاد؟
“أسباب ذلك واضحة تمامًا، لقد رأينا أن تهديدًا يتطور ضد الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والذراع الوحيد الذي يمكن أن يعمل على تحييدها كان سلاح الجو. سأكون صادقًا، كان هناك أيضًا عنصر غرور من قبل سلاح الجو الذي أراد أن يثبت أنه يستطيع حماية مواطني اسرائيل حتى على جبهة بعيدة”.
وبرغم الضغوط، كما ذكرنا، فإن إسرائيل لم تهاجم، وهو القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء إسحاق شامير، بعد أن تلقى الجنود بالفعل تعليمات بالاستعداد للهجوم. ضغط الولايات المتحدة على شامير كان له تأثيره، وبقيت إسرائيل مثل المتفرج وهي تستقبل الصواريخ على الجبهة الداخلية المدنية.
“كان الضغط السياسي قويًا للغاية. لقد بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها لمنع إسرائيل من الهجوم، وكان خوف الأمريكيين من أنه بمجرد انضمام إسرائيل، فإن التحالف المكون من عدد قليل من الدول العربية سوف يتفكك. لكن السبب الآخر لعدم قيام إسرائيل بأي هجوم هو أن فعالية مشاركة الإسرائيليين في الحرب كانت منخفضة، وكان انضمامها إلى التحالف خطوة غير واردة بالطبع، ولكن حتى بالنسبة للهجوم الإسرائيلي في غرب العراق – حيث أُطلقت الصواريخ على إسرائيل – كانت فرص النجاح منخفضة.
نحن نعلم الآن أنه فيما يتعلق بالأهداف المحددة؛ مثل قاذفات الصواريخ، فإن المعلومات الاستخبارية في الوقت الفعلي مطلوبة، نحن بحاجة إلى معرفة مكانهم في كل لحظة، وقد استمرت هذه القاذفات في التحرك من مكان إلى آخر حيث كان العثور عليها عملية معقدة جدًا. لم تتوفر لدينا كل هذه الأشياء، لم يكن بوسعنا أن نوقف إطلاق الصواريخ، كانت هذه أهدافًا وصلت إلى المنطقة فهاجمتها وعادت. يعترف بن الياهو قائلًا: “في دراسة أجريناها لاحقًا في سلاح الجو، أدركنا أننا لا نستطيع أن نسهم كثيرًا في الهجوم على العراق”.
ويضيف مايكل: “المنطقة التي أطلق منها العراقيون النار علينا أكبر من مساحة إسرائيل، وقد حاول كل من الكوماندوز البريطاني والأمريكي تعقب قاذفات الصواريخ في غرب العراق، واتضح أنها مهمة صعبة للغاية. وإذا كان الهجوم علينا قد جعلنا فعليًا في حرب، فقد توجب علينا شن هجوم من هذه المسافة الكبيرة بدون دعم أمريكي أثناء التحليق فوق الأردن؛ إذ لم تكن لدينا اتفاقيات سلام معها في تلك الأيام، ومع النقص الهائل في الاستخبارات من المحتمل أن تفشل العملية، وتجرنا إلى حملة معقدة لسنا متأكدين من أن بإمكاننا تحملها”.
وإذا كانت فرص نجاح الهجوم الإسرائيلي قليلة، والأخطار واضحة، فلماذا كانت ثمة أصوات قوية تدفع من أجل ذلك؟ ومهما يكن، فقد اعتقدت المستويات العليا في الجيش – ووزير الدفاع أرينز – أنه يجب القيام بالهجوم.
“ما نعرفه اليوم عن فرص النجاح هو مجرد نظرة إلى الوراء. في الوقت الفعلي حينها، كانت هناك اعتبارات قوية للغاية لبدء عملية؛ إذ كان من الواضح للجميع أن عدم الرد يمكن أن يُفسَّر على أنه ضعف إسرائيلي، وأن يقوض قدرة إسرائيل على الردع، وربما يؤدي إلى مزيد من الهجمات ضدها”.
“بدرجة معينة اتضح لنا أن هذه المخاوف حقيقية؛ فقد كان صدام حسين ينظر إلى إطلاق الصواريخ على أنه نصر نفسي، وقد تمكن من إطلاق حوالي 40 صاروخًا تسببت في الكثير من الأضرار في إسرائيل. وكانت هذه الصواريخ بدائية للغاية، بعضها كان أصلًا خرسانيًا بدلًا من المواد المتفجرة”، مما دفعه إلى إعادة تطوير الأسلحة الكيميائية والنووية التي لم يتسن له إنتاجها حتى النهاية. إلا أنه تمكن من إحراج الحكومة الإسرائيلية وخلق مواجهة داخل إسرائيل نفسها بين مؤيدين ومعارضين. ومع هذا فمن العدل أن نقول: إن المخاوف كانت مبررة، وقد تحققت، إلا أن قرار عدم الهجوم كان صائبًا، وكان البديل مُعقّدًا أكثر”، كما يؤكد مايكل.
وثمة عامل مهم لعدم الرد الإسرائيلي يُغَض الطرف عنه في كثير من الأحيان، وهو الأمل الذي عُلِّق بالقوات الأمريكية، وكذلك بطاريات باتريوت التي زُرعت في إسرائيل، ولم تكن مجدية جدا؛ قال الجنرال احتياط يوسي كوبرفاسر- الباحث البارز في مركز القدس للشؤون العامة وشؤون الدولة وعضو الحركة الأمنية -: “صواريخ باتريوت لم تكن ناجحة للغاية؛ لقد أخطأت في كثير من الأحيان الصواريخ التي أطلقت باتجاهنا”، ويضيف: “كما كانت لدى إسرائيل آمال كبيرة في أن تقوم قوات التحالف؛ خاصة الأمريكية والبريطانية بتطهير المنطقة ومنع إطلاق الصواريخ، لكنهم فشلوا فشلًا ذريعًا. لم تنجح المساعي الدفاعية في المحصلة، وإسرائيل قامت بتحمل الصواريخ. هذا أحد الدروس الأساسية من الحرب: ليس كل ما نخطط له أو نأمل فيه سيؤتي ثماره. في نهاية المطاف لقد أعطى هذا شرعية لإسرائيل ألا تهاجم مرة أخرى، على الرغم من المفهوم العسكري الأساسي بأن إسرائيل يجب أن تدافع عن نفسها بنفسها”.
ولكن هل كان صناع القرار في إسرائيل يرون خلال الحرب أن التوقعات إن لم تتحقق، فسيطرحون خيار الهجوم على الطاولة من جديد؟
“كانت هناك مناقشات أثناء الحرب أيضًا، لكن في النهاية صرح شامير أنهم لن يقوموا بهجوم مضاد. وإذا نظرنا إلى الوراء حيث كان الضرر شديدًا ولكنه ليس كبيرًا، ونفهم العواقب بعيدة المدى لهجوم إسرائيلي، أعتقد أنه كان على حق”، “وأي ضابط يمكن أن تسأله عن هذا القرار، حتى أولئك الذين عارضوه في ذاك الوقت، فسيخبرونك أنه كان الخيار الصحيح”.
في الوعي العام، كان الضرر الناجم عن الصواريخ ضئيلًا بشكل واضح، لكن في الواقع وعلى مدى سنوات فقد قتل 77 شخصًا في الحرب، ثلاثة منهم بنيران صاروخ سكود، فيما قتل آخرون بنوبات قلبية واختناق. في الوقت نفسه، يحصي بعض أفراد الأمن عددًا من الأرباح من الهجوم الإسرائيلي، فيقول: “بادئ ذي بدء، لقد تغيرت الخريطة جيوسياسيًا؛ لقد ولد مفهوم السلام برمته بفضل حقيقة أننا لم نقم بإزعاج الأمريكيين وكون التحالف انتصر، مما جعلهم القوة العظمى الوحيدة في المنطقة. صحيح أن العملية تحولت بعد ذلك إلى مأساة تسمى أوسلو، لكنها في الأصل كانت إنجازًا مهمًا. بمعنى ما، لقد ولدت جميع اتفاقيات إبراهيم من هذا القرار الجيوسياسي” كما يشرح كوبرفاسر.
“ظهر موقفان أساسيان على طاولة صناع القرار: من ناحية فإن الامتناع عن الهجوم سيضر بالردع الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى فإن العدوان سيضر بشدة بالعلاقات مع الولايات المتحدة. حقيقة أن إسرائيل اختارت عدم الهجوم خدمتنا كثيرًا في العلاقة مع إدارة بوش، وساعدتنا في الحصول على صفقات أسلحة مهمة للغاية” – يضيف مايكل.
وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تشن هجومًا، إلا أنها توصلت إلى العديد من الاستنتاجات بعد الحرب؛ خاصة فيما يتعلق باستعداد الجبهة الداخلية وقدرة الجيش الإسرائيلي على الدفاع عن نفسه؛ خصوصًا بعد أن أصبح واضحًا في ذاك الوقت لأصحاب المراتب العليا في الحكومة أن الجيش الإسرائيلي لا يمكنه تنفيذ المهمة بنجاح في الأراضي العراقية.
و”في النهاية كانت إسرائيل راضية قليلًا قبل حرب الخليج؛ فلم تكن لدينا معلومات استخبارية كافية عن العراق؛ لأننا أهملنا هذه الساحة إلى حد كبير بعد قصف المفاعل، وخاصة بعد حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران. بعد الحرب (يعني حرب الخليج) عاد الجيش الإسرائيلي إلى الحلبة، واسترد – إلى حد كبير – قدراته الاستخباراتية ومهارته في العمل من مسافات بعيدة” كما يقول مايكل.
وقد تُرجم ذلك من خلال تطوير أدوات الحرب المستخدمة، مما انعكس في التسلح بالقنابل الدقيقة والأخرى التي يمكن إطلاقها من مسافات بعيدة، والطائرات ذات المدى الأبعد، وغيرت القوات الجوية وجهها بشكل جذري بعد الحرب. باختصار: لدى إسرائيل اليوم قدرة عالية جدًّا على التعامل مع مثل هذا التهديد؛ نحن على بعد سنوات ضوئية من تلك الأيام!
لم يكن هناك خوف من أن يؤدي عدم الرد إلى تصور أنه ربما لا ينبغي اتخاذ أي إجراء لمنع التهديدات الصاروخية ضد إسرائيل، ومن الناحية العملية حدث العكس، بل في النهاية، تلقت إسرائيل صفعة قوية للغاية واستيقظت؛ إذ أدركنا أن هذا كان تهديدًا ملموسًا، وأننا خرجنا منه بثمن بخس نسبيًا، لكن كان من الممكن أن يكون أكثر خطورة. لقد وصلت للجميع فكرة أن الجبهة الداخلية أصبحت جبهة بذاتها في الحرب، ويجب حمايتها.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها إسرائيل لقصف بالصواريخ؛ فقد أطلق “حزب الله” صواريخ كاتيوشا على مدن شمالية في وقت سابق، والطبيعة البشرية تميل للتصرف والمواجهة فقط عند نشوء الحاجة إلى الاستيقاظ؛ فكان علينا أن نتلقى ضربة قاصمة لكي نستيقظ! كانت الكاتيوشا كابوسًا لسكان الشمال، لكنها لم تكن طويلة الأمد، والأضرار التي تسببت بها كانت هامشيًة جدًا، بالإضافة إلى ذاك، كانت هناك طريقة أخرى للتعامل معها، وهي المداخل المادية للبنان وهجمات منطقة الضاحية في لبنان.
كانت صواريخ سكود فيلمًا مختلفًا تمامًا؛ النطاق غطى البلد بأكمله، انهارت المباني، وألحق الضرر بالمدينة. لقد كانت ضربة أكثر دراماتيكية دفعتنا جميعًا إلى الاستيقاظ. إنه مشابه جدًا لما حدث بعد استخدام صواريخ أرض جو في حرب يوم الغفران، التي تركت ندبة في سلاح الجو، وتسببت في التطور السريع لمعدات الحماية التي عملت بشكل كبير في حرب لبنان الأولى.
أُنشئت قيادة الجبهة الداخلية بعد حرب الخليج؛ صحيح أن قرار تأسيسها قد اتُّخذ في السبعينيات، لكن تم تأجيله مرارًا وتكرارًا حتى حرب الخليج، وبعد ذلك تأكدت ضرورة حماية الجبهة الداخلية؛ خاصة من الهجمات الصاروخية. وبالإضافة إلى إنشاء قيادة الجبهة الداخلية، فقد اتُّفق على مجموعة قوانين استلزمت بناء قوات أمنية للمنازل التي بنيت منذ الحرب، وأصبح هذا الأمر ضروريًا أكثر فأكثر مع تزايد الهجمات الصاروخية على الجبهة الداخلية الإسرائيلية في العقود الأخيرة. وبحسب الخبراء، فإن حرب الخليج لعبت دورًا رئيسًا في هذا.
“الدرس الذي تعلمه خصومنا من الحرب هو أنه باستخدام الصواريخ يمكنك تخطي الحاجة إلى تطوير جيش قوي أو قوة جوية متطورة. القذائف والصواريخ تكفي، ويمكنها ضرب الجبهة الداخلية، التي تعتبر في نظرهم أضعف جزء في إسرائيل، وأكثرها حساسية” كما يقول كوبرفاسر.
“إيران وحزب الله والسوريون قاموا بإنشاء بنيةٍ تحتية صاروخية، لا يمكن الاستهانة بها، خصوصًا عند إدراك أن هذا كان مجرد جزءٍ من نتائج حرب الخليج، التي ترافقنا نتائجها حتى اليوم، والسبب يعود لعدم قدرة إسرائيل على اعتراض كل الصواريخ.”.
رابط المصدر: