قديما قالوا: لا يصح فى الأذهان شىء إذا احتاج النهار الى دليل. واليوم لا يحتاج الانسان الى دليل ليقول إن محور تفاعلات العالم السلمية والحربية هو الاقتصاد، وأن الهدف الأسمى للدول والمؤسسات والأفراد هو الاقتصاد، إما لمعالجة أزمة اقتصادية، أو لتحقيق حظوة مالية. وهذه الحقيقة الواضحة للعيان أعادت تشكيل صورة العالم الذى نعيش فيه، وأعادت ترتيب اوزان الدول والمجتمعات، ومن ثم أعادت خلق الحروب والصراعات.
وبناء على ذلك يجدر بالباحث السياسى الجاد ان يفتش عن الاقتصاد خلف كل الحروب والصراعات التى ينشغل بدراستها وتحليلها، فكل صراع من تلك الصراعات خلفه أبعاد اقتصادية هى التى تشعله أو تحركه أو تغذيه. ومن ثم فإن الكشف عن الاساس الاقتصادى للصراعات السياسية والحروب سيجعل فهمها أيسر، وتفسيرها أقرب الى الحقيقة.
وهنا لابد أن نؤكد ان الحضور الاقتصادى القوى فى الصراعات والحروب – سواء كسبب للحرب، أو هدف لها لتنشيط اقتصاديات الحرب – قد ساهم فى إعادة صياغة طبيعة تلك الحروب، وأعاد تحديد طبيعتها وأبعادها، بحيث صارت اولا: حروبا محدودة فى نطاق ضيق، ولم تعد حروبا كبرى أو شاملة، كما كان فى الحربين العالميتين أو الحرب الكورية، أو حرب فيتنام، أو حتى حرب أكتوبر، 1973، لأن الهدف منها محدد وحسابات الكسب والخسارة مدروسة بدقة؛وثانيا:صارت حروبا طويلة وتستغرق ازمانا أطول، وتتحول الى صراع اجتماعى ممتد، قابل للتفجير فى اى لحظة، حتى تستمر اقتصاديات الحرب فى العمل والانتاج. وثالثا: انها أصبحت تركز على البنية التحتية وتدور فى المدن والمناطق المعمورة، ولم تعد تقتصر على ساحات القتال البعيدة عن السكان، لأنه دائما مع كل حرب ترتفع شعارات إعادة الإعمار، وكأن الهدف هو اقتصاديات إعادة الاعمار.
وهنا لابد من التمييز بين الحروب الاقتصادية من جانب، واقتصاديات الحروب من جانب آخر، فالحروب الاقتصادية هى التى يكون سبب اشتعالها الصراع على موارد اقتصادية، أو مصالح اقتصادية يتنافس عليها أطراف يفشلون فى الوصول الى صيغة لاقتسامها بالطرق السلمية؛ فيسعى أحدهما، أو كلاهما للاستحواذ عليها بالوسائل العسكرية؛ وذلك عندما يكون الطرفان متكافئين، أما فى حالة الحروب التى تشعلها القوى الكبرى الاستعمارية السابقة، أو الوارثون من المستعمرين الجدد؛ فعادة يتم تحريك وكلاء محليين لإشعال الحرب للسماح للقوى الاستعمارية السابقة، أو الحالية بأن تنهب الثروات بصورة هادئة؛ بينما يتصارع المخدوعون من الأطراف المحلية على أهداف؛ قد لا يكون لها علاقة على الإطلاق بالاقتصاد أو بالثروات موضع الحرب. وقد تكرر هذا المشهد فى العديد من الدول فى العالم الثالث عامة، والعالم العربى خاصة؛ بأن تشتعل حرب بين دول، أو داخل دول على أسباب قد لا تستحق الحرب، لأن الماريونيت Marionette الذى يحرك مسرح العرائس أراد لهذه العرائس الخشبية أن تتقاتل لتفتح له الباب للدخول، وتحقيق أهدافه فى الاستيلاء والنهب والسرقة.
أما اقتصاديات الحروب فقد تكون أخطر من الحروب الاقتصادية، لأنه يكون هدفها الحرب ذاتها، وليس ما بعدها، أو ما يمكن أن يحدث اثناءها من استيلاء ونهب للموارد والثروات، فاقتصاديات الحروب غايتها استمرار الحرب واشتعالها، حتى يتم تزويد الاطراف المتحاربة بالسلاح والذخيرة، وحتى يتم استغلال الآثار التى تخلقها الحروب فى ندرة السلع، وارتفاع الاسعار، وتعطل سلاسل التوريد …. الخ.
وإذا كانت الدول هى الفاعل الرئيس فى الحروب الاقتصادية، خصوصا الدول الكبرى، أو الدول الاقليمية الأقوى، فإن اقتصاديات الحروب يتعدد ويتنوع الفاعلون فيها، والمستفيدون منها. ابتداء من المركبات الصناعية العسكرية فى الدول المصنعة والمصدرة للأسلحة، الى الشركات الاقتصادية العابرة للقارات، الى المنظمات غير الحكومية الدولية التى تستفيد من الحروب فى الحصول على تبرعات ضخمة، الى التجار المحليين، ورجال الاعمال الذين ينتمون للأطراف المتحاربة، كل هؤلاء يستفيدون غاية الاستفادة من اقتصاديات الحروب الى الحد أنه قد يسعون لإطالتها، ويستثمرون فى استمرارها.
وإذا نظرنا فى المحيط الجغرافى الذى تعيش فيه؛ والذى تعددت فيه الحروب وتوسعت، وأصبحت حدثا شبه عادى، لا يثير الكثير من الدهشة والتوقف، بل صار اشتعالها هو الاحتمال الأقرب عند ظهور أى خلاف بين دولتين، أو داخل أى دولة، وذلك لكثرة وتعدد هذه الحروب التى لم يكن هناك سبب منطقى يبررها من الاسباب التى تعودت البشرية عليها. بل صارت الحروب تشتعل لأسباب قد تكون غير مفهومة فى العديد من الحالات، لأنه كانت هناك وسائل عديدة لتحقيق الأهداف، وتصفية الخلافات غير الحرب، وما تجره من ويلات ودمار.
ولكن البحث عن الاهداف الاقتصادية ـ خصوصا للقوى الدولية التى شاركت فى اشعال الحروب بصورة ظاهرة أو خفية – فى كل تلك الحروب التى عانت منها الدول العربية فى الأربعين سنة الماضية قد يسهم فى تفسيرها، ويقدم صورة واضحة لما حدث، ولماذا حدث، ومن المستفيد مما حدث. كذلك فإن فهم ما يدور فى العالم من حولنا يحتاج ان نستحضر اقتصاديات الحرب كما فى حالة أوكرانيا، والحروب الاقتصادية القادمة فى مختلف مناطق افريقيا، سواء كانت حروبا صغيرة تشعلها بوكوحرام أو داعش أو القاعدة أو غيرها.
.
رابط المصدر: