ما زالت الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل، والتي أسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من المدنيين، تثير ردود فعل واسعة على المستوى العالمي، وكانت تركيا من بين أبرز الدول المنتقدة لإسرائيل.
وقد شهدت العلاقات بين البلدين توترا منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2002، وكذلك في ظل رئاسة بنيامين نتنياهو للحكومة في إسرائيل.
وبعد سنوات من التوتر في العلاقات، التقى أردوغان ونتنياهو أخيرا في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2023، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.وصرّح مسؤولو العلاقات العامة من كلا الجانبين للصحافة بأن العلاقات تشهد تحسنا ملحوظا، وأن نتنياهو سيقوم بزيارة إلى تركيا قريبا.
ولكن العلاقات بين البلدين تدهورت مجددا في أعقاب التطورات التي تلت هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إذ وصف الرئيس أردوغان إسرائيل بأنها “دولة إرهابية”، مقارنا نتنياهو بهتلر. وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، صرّح قائلا: “يجب إيقاف عصابة نتنياهو المجرمة بتحالف إنساني، كما جرى إيقاف هتلر قبل 70 عاما”.
وطالب الرئيس أردوغان الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاستناد إلى قرار “الوحدة من أجل السلام” لعام 1950، الذي يتيح لها توصية باتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، عندما يفشل مجلس الأمن في التوصل إلى اتفاق والتصرف في أوقات الأزمات الدولية.
وقد أشار أردوغان، في عدة مناسبات سابقة وكذلك في الوقت الحاضر، إلى وجود خطة خبيثة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، شبيهة بتلك التي شهدها مطلع القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول، خلال خطابه في افتتاح السنة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي، قدم أردوغان رؤية أوسع، حيث وضع العمليات العسكرية الإسرائيلية في سياق أشمل يتضمن إشارات إلى العقائد التوراتية.
وأكد أردوغان أن “إسرائيل، بعد استهدافها لفلسطين ولبنان، وتحت وهم الأرض الموعودة، ستوجه أنظارها نحو تركيا”. وتُعرف “الأرض الموعودة” بأنها تلك التي يُقال إن الله منحها لإبراهيم وذريته.
انعقد البرلمان التركي يوم 8 أكتوبر في جلسة خاصة جرى خلالها إطلاع الأعضاء من قبل وزيري الخارجية والدفاع على التهديد الإسرائيلي، الذي وصفه رئيس البرلمان بأنه “قضية وطنية تتجاوز الاعتبارات السياسية”
ورغم أن الجغرافيا الدقيقة لهذه الأرض تثير جدلا كبيرا، فإنها تشمل لبنان وسوريا، بالإضافة إلى أجزاء من تركيا، وتمتد على محور غرب-شرق من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الفرات.
وفي الأيام الأخيرة، وعلى مختلف القنوات التلفزيونية التركية مساء، انخرط المحللون السياسيون، والصحافيون، والسياسيون، والجنود المتقاعدون، والدبلوماسيون في مناقشة هذا المفهوم وتحديد الموقع الدقيق للمنطقة المعنية. إذ يقتنع أنصار أردوغان بوجود مخطط كبير يهدد تركيا أيضا، بينما يرى آخرون أن الرئيس يستخدم هذا الخطاب لتبرير موقفه ضد إسرائيل ولصرف الانتباه عن الأزمات الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة التي تثقل كاهل الشعب التركي.
ورغم اختلاف الانتماءات السياسية، فإن الأتراك جميعهم غاضبون من المأساة الإنسانية المستمرة والعجز الدولي في وقفها، إلا أن كثيرين منهم يشعرون بالقلق إزاء حماس الحكومة لمواجهة إسرائيل، ولا يرغبون في الانجرار مجددا إلى أزمة إقليمية، كما حدث أثناء وبعد الفترة التي سمّيت “الربيع العربي”.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مرتديًا وشاحًا عليه العلمين الفلسطيني والتركي، خلال تجمع جماهيري نظمه حزب العدالة والتنمية تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة، في إسطنبول، 28 أكتوبر 2023
وأعرب أوزغور أوزيل، زعيم حزب “الشعب الجمهوري” المعارض الرئيس، الذي ألحق هزيمة قاسية بحزب “العدالة والتنمية” بقيادة أردوغان في الانتخابات المحلية في مايو/أيار 2023، أعرب عن رأيه بأنه إذا كانت تركيا تواجه تهديدا حقيقيا من إسرائيل، فيجب دعوة البرلمان التركي لعقد جلسة خاصة لمناقشة القضية.
وعلى الرغم من أن حزب “العدالة والتنمية” وشريكه حزب “الحركة القومية” قد صوتا في مناسبات سابقة ضد مقترحات مماثلة من حزب “الشعب الجمهوري” وأحزاب المعارضة الأخرى لمناقشة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإنهما هذه المرة استجابا بسرعة وبشكل إيجابي.
وانعقد البرلمان التركي يوم الثلاثاء، 8 أكتوبر/تشرين الأول، في جلسة خاصة جرى خلالها إطلاع الأعضاء من قبل وزيري الخارجية والدفاع على التهديد الإسرائيلي، الذي وصفه رئيس البرلمان بأنه “قضية وطنية تتجاوز الاعتبارات السياسية”.
وعُقد الاجتماع في جلسة مغلقة، مما يعني أن ما جرت مناقشته لن يُنشر علنا لمدة 10 سنوات، وهو ما أثار انطباعا بأن الحكومة ستكشف عن معلومات حساسة تتعلق بطموحات إسرائيل تجاه تركيا.
ولكن، في تصريح له بعد الجلسة المغلقة، قال رئيس حزب “الشعب الجمهوري”، أوزغور أوزيل، إن المعلومات التي قدمها المسؤولون الحكوميون لم تتجاوز ما يجري تداوله من قبل المعلقين في نشرات الأخبار المسائية. وأضاف: “تركيا لديها جيش قوي، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، ومن غير المحتمل للغاية، بل ومن السخيف، تصور أن إسرائيل قد تهاجم أو تطالب بأراضٍ في الأناضول”.
مع تراجع دعم “حزب الله” وإيران، وتزايد عدوانية إسرائيل، قد يكون الأسد الآن أكثر ميلا إلى التطبيع مع تركيا
ورغم أن إسرائيل لم ترد على مزاعم أردوغان، فإن التوترات الحالية من المرجح أن تؤثر على مستقبل العلاقات التركية-الإسرائيلية.
وكان المسؤولون الأتراك قد صرحوا في مناسبات سابقة بأن إسرائيل تقدم دعما لـ”وحدات حماية الشعب” في شمال سوريا. كما أن علاقات إسرائيل وتعاونها مع كل من اليونان والقبارصة اليونانيين في شرق البحر الأبيض المتوسط قد تشكل قضية أخرى تتابعها تركيا عن كثب.
ومن اللافت أيضا أن تركيا قد انفصلت عن أقرب حليف لها، أذربيجان، التي واصلت علاقاتها مع إسرائيل دون انقطاع، بل إن البلدين وقعا اتفاقية دفاع مشترك.
ومن ناحية أخرى، فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف إضعاف إيران و”حزب الله” في سوريا قد تصب في مصلحة تركيا. إذ تعرضت سياسة أردوغان تجاه سوريا لانتقادات واسعة في الداخل التركي، مما أدى إلى فقدانه بعض الأصوات في الانتخابات. ويعد هذا أحد الأسباب الرئيسة التي تدفع أردوغان للسعي إلى إصلاح العلاقات مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي كان يتبع نهجا متحفظا. ومع تراجع دعم “حزب الله” وإيران، وتزايد عدوانية إسرائيل، قد يكون الأسد الآن أكثر ميلا إلى التطبيع مع تركيا.
تُراقب الضربات الإسرائيلية التي تستهدف إيران و”حزب الله” والجماعات المتحالفة معها، والمعروفة مجتمعة باسم “جبهة المقاومة”، بموافقة ضمنية من الدول التي طالما شعرت بعدم الارتياح إزاء سياساتها وأيديولوجياتها.
تظاهرة أمام مسجد آيا صوفيا الكبيرتضامنا مع الشعب الفلسطيني، اسطنبول، 14 أكتوبر 2023
ورغم ذلك، لا يتوقع أن تؤدي هذه الحملة الإسرائيلية إلى اندلاع حرب عربية-إسرائيلية شاملة، إلا أن استمرارها المطول يمثل خطرا على جميع دول المنطقة، ويثير قلقا كبيرا، خاصة أن لا أحد يعرف متى وكيف ستنتهي.
ويواصل الصراع إلحاق خسائر بشرية وتدمير البنية التحتية، كما تتأثر الحياة الاقتصادية والتجارية سلبا، حيث تتعطل طرق التجارة وتتأثر خطط المشاريع الاستثمارية الكبرى التي كان من الممكن أن تعود بالفائدة على المنطقة وشعوبها.
ومع أن أسعار النفط وأسواق الطاقة العالمية ظلت مستقرة حتى الآن، فإن هذا الاستقرار قد يتعرض للاهتزاز في حال وقوع تطورات مثل استهداف منشآت النفط الإيرانية أو حقول الغاز الطبيعي الإسرائيلية، أو إغلاق مضيق هرمز.
يبدو أن نتنياهو يراهن على تأجيل أي خطوات حاسمة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر المقبل، على أمل انتخاب دونالد ترمب
وعلى الرغم من الدعم الأميركي القوي لإسرائيل- كما أكد الرئيس بايدن- فإن بايدن نفسه يشعر بالإحباط تجاه غطرسة نتنياهو وعدوانيته.
وعلى الصعيد العسكري والأمني، نجحت إسرائيل في القضاء على عشرات من أعدائها، بمن فيهم شخصيات بارزة مثل إسماعيل هنية وحسن نصرالله.
كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يسعى بحزم إلى تقليص قدرات إيران وتعطيل نفوذها في المنطقة، إلى جانب تقليص دور “حزب الله” و”حماس” وغيرهما من المعسكر نفسه. ويُتوقع أن يكون للأعمال الانتقامية الإسرائيلية ضد إيران تأثيرات كبيرة على الاقتصاد العالمي، وهو ما قد يكون ذا صلة كبيرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة.
وبحسب الأقاويل، فإن إسرائيل وإدارة بايدن تتفاوضان حول هذه القضايا الحساسة، كما تشارك إيران أيضا في المفاوضات من خلال وسطاء من أطراف ثالثة.
الفرقاطة التركية (F-247 TCG Kemalreis ) التابعة للبحرية التركية أثناء رسوها في ميناء حيفا الشمالي بإسرائيل خلال مناورة بحرية لحلف شمال الأطلسي في 3 سبتمبر 2022
وفي مرحلة ما، ستحتاج إسرائيل إلى تعزيز مكاسبها وتحقيقها. ولكن يبدو أن نتنياهو يراهن على تأجيل أي خطوات حاسمة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، على أمل انتخاب دونالد ترمب. ففي تجمع انتخابي في ولاية كارولينا الشمالية مؤخرا، اقترح ترمب، المعروف بميوله إلى اتخاذ مواقف متطرفة، أن تهاجم إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية.
ومن أكبر المخاوف الحالية هو امتلاك كل من إسرائيل وإيران لأسلحة الدمار الشامل واحتمال استخدامها، ما قد تكون له عواقب وخيمة على المستوى الإقليمي والعالمي