الاثنين, 27 أغسطس
الكتاب، وبشكل موجز، “دراسة عن أزمة الشرعية السياسية في الحضارة الإسلامية، تعتمد النصَّ الإسلاميَّ معيارًا، والتجربةَ التاريخية الإسلامية موضوعًا، وخروجَ المسلمين من أزمتهم السياسية غايةً”(1)، فهو جزء من ذلك السعي لاستعادة “القيم السياسية التي جاء بها الإسلام في مجال بناء السلطة السياسية وأدائها” إلى الدولة الإسلامية المعاصرة(2).
“والمقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (بالمعنى الذي أراده الكاتب) تلك المفارقة بين المبدأ السياسي الإسلامي والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسيًّا ولا يزالون يعانون تبعاته حتى اليوم”(3).
وتقع الدراسة، وفقًا لتوصيف الكاتب في ثلاثة أقسام: الأول منها، عن “القيم السياسية الإسلامية في صيغتها النصية المعيارية” التي اختلطت “بالمواريث الإمبراطورية السابقة على الإسلام”(4)، وهذا القسم بهذا الاعتبار منصبٌّ على تحرير و”تأصيل القيم”.
أما القسم الثاني، فيتناول السياق التاريخي الذي وُلدت فيه الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة المنورة، وأثره “في تلقي القيم السياسية الإسلامية وتنزيلها على الأرض”، أي إن هذا القسم منصب على “تاريخ تلك القيم”(5).
والقسم الثالث، يتلمس الطريق لإخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية.
الكاتب هو الدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق. حاصل على شهادة الدكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأميركية، وكانت رسالته عن “أثر الحروب الصليبية على العلاقات السُّنِّية الشيعية”. ينصبُّ اهتمامه الأكاديمي على الفكر السياسي الإسلامي، والإصلاح الديني، والطائفية في المجتمعات المسلمة(6). وللشنقيطي تاريخ مبكر في السياسة الشرعية من منظور إسلامي، من أبرزها: “الخلافات بين الصحابة”، و”الحركة الإسلامية في السودان”، و”آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير”، وهذان الأخيران من ثمرات اهتمامه بالدكتور حسن الترابي ونهجه الفقهي والفكري، وهو من المعجبين بجمعه بين “ثقافة الشرق والغرب”(7). وللشنقيطي نشاط مثابر في متابعة أحداث الربيع العربي وقراءتها، ومن أشد المؤيدين للثورات العربية ولتثمير نتائجها، وله سلسلة من المقالات في مدونات الجزيرة نت، بعنوان: “أوراق الربيع”(8).
فالكتاب يعبِّر عن الشنقيطي تمام التعبير، سواء من حيث ثقافته واهتمامه، أو من حيث تخصصه العلمي والمهني، وهو انعكاس أمين إلى حد كبير لدوره المؤيد لتغيير الواقع العربي وللتجديد الإسلامي، ومناهضته للاستبداد وللقوى المناهضة للربيع العربي.
ومن المهم التنويه في هذا المقام، أن هذه القراءة ستركز على شرح فكرة الكتاب الرئيسية وذكر أهم الاستدراكات عليه، ولن تقف كثيرًا عند محاسنه وهي أكثر من أن تحيط بها هذه المراجعة، فيكفي أن الكاتب قدَّم في هذا الكتاب إضافات جريئة كثيرة، أذكر منها ثلاثًا على سبيل الإشارة فقط: فقد أعاد الفكر الإصلاحي ليحتل مكانه من النقاش في واقعنا المعاصر، وقدَّم تشريحًا وتوصيفًا للثورات العربية وحاول نظمها في ثقافة المنطقة وتاريخها وضميرها، ثم طرح رؤى وأفكارًا تجديدية كبدائل أو لتُدرس كبدائل وستشكِّل حافزًا لنقاش أوسع فضلًا عن أن بعضها سيأخذ مكانه لا ريب.
ولفهم أعمق للكتاب، وتحقيقًا للغاية من مراجعته، يمكن إعادة تقديمه من خلال تشريح مقطعي إذا جاز التعبير، بعرض أهم الأفكار التي تسكنه من زاوية مختلفة قليلًا عن الترتيب الفعلي للكتاب، لكنها لا تخرج عنه بحال. ويمكن بهذا الاعتبار، تمييز ثلاث رئيسة منها على الأقل -وهي جدل الأصالة والمعاصرة، والدولة الإسلامية والاستبداد، ثم الربيع العربي والخروج من الأزمة- لتكون مركز المراجعة ثم يأتي الاستدراك والملاحظات العامة على الكتاب.
التجديد وجدل الأصالة والمعاصرة
الكتاب مسكون بروح ذاك النقاش الذي شهده العالم الإسلامي منذ جيل النهضويين الأوائل ومدرسة محمد عبده ومحمد رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني، أي نقاش الأصالة والمعاصرة وما يتصل به من قضايا، سواء في العلاقة مع الغرب أو في التفاعل مع أطروحاته من حيث تحديد موقف المسلمين المنشطر على نفسه من الموروث أو في قراءة الدين، وتحديدًا في المجال السياسي.
ويرى الشنقيطي أنه بسبب “الذات الفاقدة للثقة.. ثمة قطيعة بين مدرسة الإصلاح في عصر عبده والأفغاني” التي كان همها النهضة، “وبين الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين الذي يركز على الهوية”(9). ويحاول استعادة هذه العلاقة، باسترجاع مراجع لها مكانها الدائم فيه، مع تركيز على استعادة بعض المرجعيات التي لم تستنفد أفكارها بعد -خاصة في المنطقة العربية-، أو لم تأخذ مكانها بقدر الأفكار التي أشاعتها، مثل الشاعر محمد إقبال، ومالك بن نبي وسواهما، فضلًا عن استعادة المراجع والرؤى الغربية التي اعتمدوها في مقارباتهم الإصلاحية.
في سياق هذا النقاش، يحمل الباحث على بعض الجماعات السلفية، لأنها “تسيء الظن بالديمقراطية وتعتبرها كفرًا أو فسوقًا”، ويقول: إنها “لا تفقه القيم السياسية الإسلامية، ولا تفهم معنى الديمقراطية على الحقيقة. ولو كانت تملك أفكارًا واضحة عن الاثنين لأدركت ما أدركه الإصلاحيون المسلمون منذ خواتيم القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، من أن الديمقراطية هي أفضل صيغة إجرائية لتطبيق قيم الإسلام ذات الصلة ببناء السلطة وتداولها، فالديمقراطية بهذه المعاني تطبيق للشق الدستوري من الشريعة في الزمن الحاضر”(10).
وفي سياق هذه المعاصرة المطلوبة، يبحث الشنقيطي عن تصورات أشمل تسمح للنص بأن يستعيد مكانه في الواقع، وذلك عبر:
1- إخضاع التاريخ الإسلامي للنقاش، وذلك بفصله أو تمييزه عن الوحي.
2- وإعادة قراءة “الفرص” المتاحة للنص أو للقيم التي يمثِّلها، كي تظهر في الواقع بصورة معيارية.
ومن الأولى، يمكن إعادة التحقيب للأطروحة ثقافيًّا بغرض فهم غاياتها، مع الأمل ألا يكون مخلًّا؛ حيث توجد في الكتاب من هذا المنظور حقبتان أساسيتان سابقتان على لحظتنا المعاصرة -التي تقف على أرضية دولة مسلمي ما بعد الخلافة وتتنفس هواء الدولة الحديثة التي مركزها الغرب-. الحقبة الأولى: مرحلة النص المعياري وتشمل الكتاب والسنَّة ويُلحق بها الكاتب نفسه بعض تاريخ الخلفاء الراشدين. ومرحلة التوسع الإسلامي الإمبراطوري والتي تشبعت بشوائب التاريخ مع التركيز على الأثر الساساني فيها أكثر من سواه. أما لحظتنا المعاصرة، فهي التي يقع عليها عبء التمييز ما بين الوحي والتاريخ، وعليها أن تعيد تعريف الدولة الإسلامية في ظل هيمنة الدولة الحديثة على المشهد السياسي كونيًّا. وهنا، لابد من الإشارة إلى أن مالك بن نبي يبدو حاضرًا في تحديد أطروحة الكتاب ووجهتها، وحتى في رسم الإطار النظري لها، لأن الشنقيطي يحذو حذوه ويعيد بداية تاريخ “الانحراف” الحضاري إلى معركة صفين (38هـ)، وكان مالك بن نبي قد تعجب من عدم انتباه المؤرخين المسلمين إلى هذا “الحدث التأسيسي” وأنه حوَّل مجرى التاريخ الإسلامي و”منع المشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل طريقه”(11).
ومن الثانية، فكرة “الإمكان التاريخي الهيغلية” ولم يكن أيضًا مالك بن نبي بعيدًا عنها، واعتبره الشنقيطي: “من أول من انتبهوا إلى عمق الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية.. مستلهمًا طرفًا من مقولات هيغل في تفسير حركة التاريخ الإسلامي بمفاهيم”، منها فكرة “الإمكان التاريخي”. وبتعبير مالك بن نبي في شرحه للجدل الهيغلي ووفقًا للكتاب، “فالحالة التي توجد فيها جماعة إنسانية في لحظة معينة من تاريخه هي.. قضية. ولكن قد تظهر خلال هذه الحركات أسباب.. تهدف لتعديل اتجاهها. فبتأثير الأفعال وردود الأفعال المتبادلة يصبح الوسط مجالًا لنزعات السكون.. ونزعات الحركة.. (و) يتكون عنها نقيض القضية. فكرة التعارض هذه هي التي تكون -في نظر هيغل- القوة المحركة التي تخلق الحركة التاريخية”(12). وبشرح آخر للديالكتيك الهيغلي، تدخل كل “قيمة” في علاقة جدلية مع “الواقع” فينتج عنهما تصور آخر ليحل محلهما وبصورة أفضل، وهكذا دواليك تستمر هذه الدورة الجدلية حتى يصل المبدأ أو القيمة إلى الصورة المطلقة (13).
والغاية من هذه الفكرة بيان الفارق الهائل بين المبدأ في حالة التجريد وتحققه العيني (14)؛ حيث إن “الممكنات أغزر وأرحب من الواقع.. وهي إمكانات تسعى حثيثًا إلى التحقق وإلى أن تحل محل الواقع”(15).
ويتتبع الشنقيطي أيضًا آثار هيغل لدى الشاعر محمد إقبال، الذي اعتبر أن “تقدم الإسلام كإيمان فاتح (أي بالغزو) أدى إلى تجميد نمو أجنة التنظيم الاقتصادي والديمقراطي للمجتمع” التي يجدها “مبثوثة في صفحات القرآن والسنة”(16). وعليه، فهذه “الأجنة” ستكون عرضة للتكون وفقًا لشروط الجدل الهيغلي فإما أن تتشوه أو تصل لصورتها المطلقة والمثلى.
وهكذا، فبحسب الباحث، فإن الحضارة “طبقًا لهذا المنظور الهيغلي تولد بإمكان معين، يتحقق بعضه ولا يتحقق بعضه الآخر، بسبب عوامل القصور الذاتي، أو “قيود السياق التاريخي”(17). ويرى أن هذه الأخيرة هي أوضح في الحالة الإسلامية، حيث يلعب التاريخ دور المعرقل لتحقق هذه القيم، وربما تشويهها وهي “أجنة”.
هذه التصورات، التي هي جزء (وليست الكل بالطبع) من المقدمات النظرية التي استعان بها الباحث واعتبرها مفاتيح لفهم أطروحته، تبدو وكأن هيغل يتوسطها، ليحدد نظريًّا معنى الفارق المؤشر، ما بين القيمة الإسلامية المعيارية والقيمة الإمبراطورية المزيفة، ولكن في سياق جدلي ينتج عنه عدد من القيم المؤقتة وربما الزائفة لاختلاطها بالواقع وعلى مدى تاريخي ممتد، والباحث يبدأ هنا عمله للتمييز بينها.
وهكذا، تأخذ قيم الجدل القديم المتصلة بالأصالة والمعاصرة صورة حديثة، تسمح بتفاعل المنظومتين، الإسلامية والغربية، هيغل وإقبال كمثال، لاسيما أن “هناك قرابة بين الغرب والإسلام في القيم ولكن لم تُترجَم إلى تواصل وتداخل ثقافي في التاريخ الإسلامي”(18) بحسب تعبير الكاتب، فلماذا لا يتجدد؟
الدولة الإسلامية المعيارية والاستبداد
يبدو التاريخ الإسلامي في الكتاب وكأنه مقسم إلى فسطاطين: فسطاط كبير بقيمه الإسلامية صغير بعمره الزمني، تشكِّل الدولة الإسلامية بـ”وثيقة المدينة”(19) ذروة تشكُّله، وفسطاط آخر يلتهم معظم تاريخ المسلمين، وهو زمن “المُلك” بدأ مع معاوية بن أبي سفيان(20)، وزمن “الإمبراطوريات” -الدولة الأموية وما تلاها- الذي تراجعت فيه القيم وتشوهت، بتسرب أو هيمنة ميراث الأمم الأخرى عليه، لاسيما إرث “الفرس”، ويشمل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وما بينها وما على جوانبها وحواشيها من دول وممالك وكيانات، وإن بتفاوت.
ويعيد الباحث رسم مسار القيم السياسية للحضارة الإسلامية؛ حيث تولد مع الدولة الإسلامية الأولى (كأجنة قيد التَّشكُّل) فانحراف عنها أو في نموها بدأ مع صفين على طريقة الجدل الهيغلي، ثم تغدو مع الدولة العربية الحديثة ودولة مسلمي ما بعد الخلافة العثمانية التي يغلب عليها الاستبداد، قيمًا مشوهة. وفي هذا المسار تلازم ما بين القيم الإسلامية المشوهة والاستبداد، ففهم الدولة الإسلامية بتصورات انحرفت بفعل الأثر التاريخي عن المعايير الإسلامية الأصيلة قادت إلى الاستبداد، ويرى أن الموروث “الساساني الفارسي” على وجه الخصوص كان حاضرًا في إعادة تشكيل القيم السياسية الإسلامية التي تمحورت حول دور الحاكم “الملك” المتصرف في ملكه، في حين فات المسلمين الإرثُ اليوناني القائم على الديمقراطية، والذي كان سيغيِّر من المعادلة ليكون الشعب مركز الحكم وليس الحاكم “المتألِّه” الذي يستغل الدين لخدمته بدلًا من أن يكون هو لخدمة الدين، خاصة وأن “الإسلام كان أقرب إلى العالم الغربي القديم ذي التقاليد الديمقراطية اليونانية الرومانية منه إلى العالم الشرقي القديم (فارس والهند والصين) الذي ساد في ثقافته تأليه الحكام والخنوع الطوعي للاستبداد”(21).
هذا القرب والقرابة بين الإسلام والغرب، يترجمه الشنقيطي في تصويره للدولة ذات القيم الإسلامية، فيقرر مستعينًا بابن خلدون أن هناك ثلاثة نماذج للدول من حيث قربها أو بعدها من المعيار الإسلامي:
1- الدولة الإسلامية المعيارية: وهي التي “تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم بالمرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية، فهي تجمع بين الشورية والمرجعية الإسلامية”(22).
2- دولة العدالة البشرية: وهي الدولة التي “تتأسس على التراضي والتعاقد لكنها لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية”، ويدخل تحت هذا الصنف أغلب الدول الديمقراطية المعاصرة (23).
3- دولة الهوى: “وتتأسس على القهر والجبر في بنائها، ولا تلتزم بمرجعية قانونية، لا إسلامية ولا غير إسلامية”(24)، ومنها دول الاستبداد ودول الطغيان العسكري.
ثم ينتهي بتوضيح، أن الدولة الإسلامية المكافئة لما دعاه ابن خلدون “الخلافة الشرعية” بمعناها المعياري لا التاريخي، هي الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية(25)، وهذا مما يتوافق مع رؤيته القائمة على أن هناك “تلاقيًا واسعًا بين القيم السياسية الكبرى التي جاء بها الإسلام، والقيم الديمقراطية التي توصل إليها العقل الغربي خلال القرون الثلاثة الماضية”، لا بل اعتبر ذلك “معجزة من معجزات الإسلام الأخلاقية”(26)؛ لأن الإسلام “دين الفطرة، وتوجد مساحة واسعة للتلاقي بينه وبين الأنظمة السياسية الساعية إلى تحقيق العدل والحرية، بغض النظر عن خلفيتها الدينية والفلسفية”، وهذا أيضًا مما تتيحه “طبيعة الإسلام التكميلية الترميمية الإصلاحية” الملهمة لاسيما في “مجال الانفتاح الثقافي”(27).
ويدعو للمصالحة مع الدولة القُطرية؛ حيث إن “الدول المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدِّين أو العِرق، بل على أساس الجغرافيا، والعقد الاجتماعي للدولة المعاصرة هو عقد ملكية عقارية”. ولكل شريك في هذا العقد “حق الانتفاع بالعقار” والأولوية فيها للعامل الجغرافي على “العوامل الأخرى التي كانت أساس العقد في الإمبراطوريات القديمة”، وهو، أي العقد المتأسس على الجغرافيا، “الأكثر انسجامًا مع التجربة الإسلامية الأولى في المدينة.. وأولى بالاعتبار مصدرًا للأخلاق والقوانين السياسية الإسلامية”(28).
ولتفضيله للدولة الغربية وكونها الأساس والسبيل للدولة الإسلامية الحديثة، يقف الشنقيطي في مواجهة الدكتور وائل حلاق، الذي يرى “أن مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثِّله الدولة الحديثة”(29).
ويجد الشنقيطي أن خلاصة كتاب حلاق “الدولة الإسلامية”، “ثناء مفتعل على الماضي الإسلامي، وتيئيس جازم من المستقبل الإسلامي.. وطرحه “عدمي، وظلم للدولة الإسلامية وللدولة الحديثة كلتيهما”. ويرى أن كتاب حلاق، يدعو إلى “نمط من التدين الإسلامي المنزوع الدسم، الذي لا ينصر مظلومًا ولا يردع ظالمًا.. هو مجرد تلفيق من مواريث الورع البدعي والزهد الزائف الذي تسرب إلى الثقافة الإسلامية من الرهبانية المسيحية والبوذية”(30). وحاول أن يفكِّك الباحث مراجع أساسية لحلاق ومنها اعتماده على أبي حامد الغزالي، وتبني مقولة: إن مذهب الغزالي الأخلاقي “مذهب فردي لا اجتماعي”، وإنه “لم يكن يعنيه الصالح العام..”؛ ومن ثم استصوب رأي زكي مبارك، الذي رأى أن الأخلاق عند الغزالي هي “أخلاق العبيد”(31).
الثورات وقيم الخروج من الأزمة
يقرر الشنقيطي أن المخرج من الأزمة الدستورية بشكل عام عبر طريقين: الثورة على الاستبداد السياسي والانتصار عليه، وما يعنيه ذلك من تحرر من هواجس الخوف من الفتنة التي لازمت الأمة جرَّاء معركة صفين (38هـ) وما تلاها من “فتن”، ويعوِّل على التفاعلات التي أطلقها “الربيع العربي” وأن مآله الحتمي الانتصار على “الثورة المضادة” التي قد تؤجل الانتصار وترفع كلفته فقط لكنها لن توقفه، فهذا الربيع بحسب الشنقيطي هو “أول أمل جدي منذ القرن الأول الهجري، في الخروج من الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية”(32).
أما الطريق الثاني، فهو باستعادة القيم السياسية الإسلامية، وما يعنيه ذلك من ضرورة تحريرها من إرث الفكر الإمبراطوري والتمييز بين القيم الإسلامية التاريخية وتلك المعيارية التي يجب تفعيلها في الزمن الحاضر، ويقترح ترجمتها إلى معايير واضحة في الدولة الإسلامية المعاصرة. وهذا يتطلب أولًا تحديد القيم السياسية الإسلامية من القرآن والسنة، ومن ثم ترجمتها إلى مواد دستورية، ثم البحث بعد ذلك في القضايا الإجرائية والإدارية الخادمة لتلك القيم”(33).
ولتحقيق هذه الغاية يضع الشنقيطي جدولين، في أحدهما قيم البناء السياسي، وفي الآخر قيم الأداء السياسي، ليترجما القيم السياسية إلى مبادئ دستورية ومعايير منضبطة للحكم على إسلامية الدولة في الزمن الحاضر (34)، وهي مستقاة من الكتاب والسنة، ويرى أن الدولة إذا ما التزمتها فإنها تكون حينها إسلامية.
وهذه القيم هي: قيم البناء السياسي: تكريم الإنسان واستخلافه، ونبذ الوثنية السياسية، وقلب الهرمية الفرعونية، والجمع بين العدل والفضل، ووجوب السلطة السياسية، والحرية إمكانًا ومسؤولية، والعدل في الحكم والقسم، والمساواة في الأهلية السياسية، وإهدار المراتب الاجتماعية، ووجوب التمثيل السياسي، والشورى في بناء السلطة، وعقد البيعة السياسية، ولزوم الجماعة وإمامها، وطاعة السلطة الشرعية، ومنع الحرص على الإمارة، والمدافعة العاصمة من الفساد. وقيم الأداء السياسي: الرد إلى الله والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، والتزام السواد الأعظم، والأخذ على يد الظالم، والمال العام مال الله، ومنع الغلول والرشوة، والأمانة أو الأهلية الأخلاقية، والقوة أو الكفاءة العملية، والمواءمة أو الحكمة السياسية، والمشاورة في صناعة القرار، والنصح من الحاكم والمحكوم، ورفق الراعي بالرعية، ومنع الاحتجاب عن الرعية، ومنع الإكراه في الدين، ووحدة الأمة الإسلامية. وهناك بعض تداخل بينها، وهي تجيب -باعتقاده- على الأسئلة الأبدية التي سعى فلاسفة السياسة إلى إيجاد جواب لها، من قبيل: ضرورة السلطة للاجتماع البشري، وحول كيفية تحقيق العدل البشري، وطبيعة المنصب العام، وما مصدر إلزام الناس بطاعة القانون وطاعة السلطة؟ وما حدود ذلك؟ ومتى يتعيَّن عصيانها؟ وما إلى ذلك (35).
ويعتبر أن لا أهمية للدساتير مع الاستبداد، وإلا لن تكون إلا مجرد حبر على ورق، لأنها صادرة عن سلطة مستبدة قاهرة؛ إذ إن إسلامية الدولة دستوريًّا “تستلزم أمرين: موافقة الدستور مبادئ الإسلام، وموافقة بناء السلطة وأدائها لمبادئ الدستور”، وأكثر دساتير الدول العربية مندرج ضمن “الدساتير الزائفة التي كتب عنها الباحثان ديفيد لاو وميلا فرستيغ”؛ حيث “توجد دول ذات دساتير رائعة من حيث التنصيص على الحقوق والحريات، لكنها لا تضع هذه الحقوق والحريات موضع التطبيق”(36).
ملاحظات على الكتاب
تضيق مساحة هذه المراجعة عن إيراد حتى أبرز الاستدراكات على الكتاب، وستكتفي بنماذج رئيسة تتعلق بالمنهج، إضافة إلى بعض الأفكار الخاصة، وستتجاوز بعض القضايا التي تُعَدُّ موضوع نقاش عام وفيها آراء مختلفة، مثل الفرق بين الديمقراطية والشورى وما إلى ذلك.
إن الدراسة -كما وصفها المؤلِّف- “تقع على الحدود بين علم الأخلاق، والفلسفة السياسية، وفلسفة التاريخ”(37)، وبقدر ما شكَّلت عامل قوة للبحث لأنها سمحت له بالتشعب والاستطراد فإنها من جهة أخرى أغرته بأن يقدم بعض رؤاه واستنتاجاته مرسلة عن السياق ودون استدلال كاف، وهي على ذات أهمية عالية وجدلية جدًّا، مثل قوله بجواز تولية غير المسلم رئاسة الدولة أو اعتبار الدولة إسلامية المعايير ولو لم تكن دولة المسلمين، لا بل حتى اعتبار الدولة الإسلامية المعاصرة هي دولة العدل والحرية كما هي في الغرب على أن تكون مرجعيتها إسلامية، فهذه وسواها كثير يحتاج إلى نقاش أكبر وبأدوات فقهية إسلامية أكثر، باعتبار أن موضوع الكتاب محل النقاش بالأصل متصل بالإسلام.
وأثقل الباحث الكتاب بالنظريات والمفاهيم التي سيحتكم إليها، حتى بدا بعضها أحيانًا وكأنها عبء على الكتاب، وبعضها بدلًا من أن يساعد على تفسير الظواهر محل النقاش كان هو نفسه محل جدل أو أن أي استنتاج في ظله قد يزيده جدلًا بدلًا من المساعدة على حسمه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يأخذ الباحث من أزوالد شبنغلر نظرية التشكُّل الكاذب حيث تنمو الحضارات الضعيفة نموًّا مشوهًا تحت وطأة الحضارات القوية وفي ظلها (38). وهذه النظرية تُلقي ظلالًا من الشك حول علاقة الحضارات بعضها ببعض، فبدلًا من أن تشجع على التواصل الحضاري الذي يدعو الباحث المسلمين إليه، فإنها تدعوهم للتحفظ حذرًا منهم من الوقوع في شَرَك التشكُّل الكاذب. وهذا الأخير بدوره، سيكون تحققه من عدمه محل جدل وكأننا أمام اتهام ودفع اتهام وليس معيارًا صالحًا للاعتبار. وهذا يتناقض أيضًا مع عالمية الإسلام الذي يقدِّم نفسه كدين عابر للحضارات، لاسيما أن الباحث نفسه مثلًا، أشار إلى أن بعض الباحثين الإيرانيين يرون أن إيران كانت في تشكُّل كاذب خلال القرنين التاليين للفتح الإسلامي بسبب هيمنة اللغة العربية. ومن المفارقات أيضًا أن الباحث يرى النظرية مفيدة، في أن المجتمعات العربية في تشكُّل كاذب في ظل “الحضارة الغربية”(39)، في حين تقوم أطروحة الكتاب على الدعوة إلى الدولة الغربية كأساس للدولة الإسلامية المعاصرة المنشودة، أي تستدرج المسلمين إلى “تشكُّل كاذب”. وقد يقال: إن النظرية تصلح كضابط للعلاقة مع الغرب وهذا نقاش آخر، لكنها على الأقل في الكتاب، كانت في تناقض أو على اختلاف مع غاية الكتاب وما يدعو إليه.
وكذلك الأمر مع هيغل، فقد استعان الباحث به، وبدون وضوح كاف، لبيان وجود مسافة بين القيمة في النص الإسلامي والقيمة في الواقع أو في التاريخ الإسلامي ولرصد تطور وصيرورة تحقق القيم في الواقع. وهذا صعب في ظل التعريف الذي يرتضيه الباحث للقيم في الإسلام، فهي قيم لها صورة جوهرية محددة ومقاصد وغايات نهائية لا تتغير، بينما القيم الهيغلية لها تحقق بصور مؤقتة في عملية تطور أكثر راديكالية لتبلغ منتهاها. فتطور القيم السياسية الإسلامية في الواقع لن تتجاوز خصوصية الإسلام كدين وما يفرضه من واجبات بنصوص قطعية لا تقبل التغير، أو على الأقل هذا ما سيجادل به جمهور المسلمين، ولن يكون المنظور الهيغلي حينها أداة منهجية علمية مقنعة بل هي نفسها أكثر جدلًا مما جاءت لتفسره. فالحرية مثلًا، قد يسمح الجدل الهيغلي بتطورها لِتَسَعَ ممارسات يمنعها الإسلام بكل قراءاته المعتبرة عند جمهور المسلمين، وربما لا يكون هناك من أفق لقبولها إلا إذا تغيرت طبيعة هذا الدين أو تغير إيمان جمهوره به.
وهذا يقود أيضًا إلى دعوة الباحث للتمييز بين ما هو تاريخي وما هو وحي، فإذا ما قصد بالوحي القرآنَ فحسب، فإن السُّنَّة ستكون تاريخًا، وإذا ما دخلت السُّنَّة في الاعتبار إلى جانب الوحي، وربما أيضًا بعض حقبة من عصر الخلفاء الراشدين، كما يدعو في مكان آخر من الكتاب، فحينها سيكون التمييز بين تاريخ وتاريخ، وليس بين تاريخ ووحي، وبالتالي يجب إيجاد أدوات قادرة على التمييز بين تاريخ وتاريخ: تاريخ له صلة بالتشريع كالوحي وتاريخ فيه سعة للأخذ والترك. إن التقابل بين الوحي والتاريخ ليس دقيقًا وجدلي بالنظر إلى ما أراده الباحث، ولم يعتمد ما يستخدمه الفقهاء المسلمون عادة في هذه المواضع، وكان سيكون أكثر ملاءمة لروح الكتاب، أي التمييز بين القطعي والظني وتفاوت مستويات كل منهما في ثبوت النص ودلالته مما هو معمول به في علمي الحديث والأصول وسواهما؛ حيث بين الوحي والتاريخ تداخل ولكن بقواعد مستقاة من نفس النموذج المعرفي، لاسيما أن الخطاب موجه للمسلمين. وربما كان يمكن للباحث التمييز بين “ثابت ومتغير” لإيجاد مشترك إنساني ثقافي وبلغة فكرية أرحب تسع عموم البشر، وهناك حاجة ماسَّة في الكتاب لإيجاد معيار فقهي لفهم النص. ولكن يبدو أن الصناعة الفقهية رغم وجودها المعتبر في الكتاب، كانت أقل فعالية وحسمًا عندما أخذ الباحث يقرر استنتاجاته في أكثر من موضع، وربما يمكن الجزم بأن حضورها الأوسع والأوضح والأكثر فاعلية نسبيًّا قد تجلى في صياغة القيم الإسلامية الدستورية الثلاثين.
وهناك في الكتاب أحيانًا تضحية بالاستدلال العلمي لمصلحة نحت مصطلحات أو صياغات بلاغية بغية التأثير. ومثال ذلك الاستدلال في غزوة مؤتة بأخذ خالد بن الوليد راية القيادة من غير أن يكون أحد المعينين لها -من قِبل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم- بسبب الظروف القاهرة، واستدل بقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: “ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففُتح عليه”، على جواز أن يتأمَّر الأمير على الناس من دون شورى في الظروف القاهرة، تحت عنوان “التأمُّر عن غير إمرة”. واعتبر هذا النص تأسيسيًّا “لحالة الضرورة السياسية في الإسلام”(40). فالباحث يستدل بحادثة تاريخية عابرة -رغم أهميتها- ومن جزئية في معركة عسكرية، ويجعلها نصًّا تأسيسيًّا لقيمة سياسية عامة وأصلًا شرعيًّا، رغم وجود عشرات الأدلة الشرعية الأخرى، أقوى وأكثر وجاهة ووضوحًا وتعبيرًا عن حالة “الضرورة السياسية” العامة ومنازلها، في حين أن هذا الدليل الذي اعتمده جدلي جدًّا ولا يقاس عليه، فكيف يكون نصًّا تأسيسيًّا. ولكن يبدو أن ما قاده إليها هو قوة “المصطلح” ودلالته اللغوية “التأمُّر عن غير إمرة”، فأعاد ترتيب أولويات البحث ووجهته وفقها، ولهذا النموذج أمثلة كثيرة مشابهة في الكتاب.
وقد يقاس عليه أيضًا بوجه من الوجوه، وصف الدولة القُطرية بـ”الدولة العقارية”، وقياس الحقوق المرتبطة بها بما تثبته ملكية “العقار” من حقوق وواجبات إسلامية، دون إعطاء المسائل الأخرى المرتبطة بالدولة القطرية حقها من النقاش، كونها كيانًا حديثًا يحتكر القوة والشرعية والسلطة ومهيمنًا على الحياة العامة للأفراد، ويقرر من هو العدو والصديق ومن هو المواطن والآخر، ويفرض على أبنائه الموت لأجله دفاعًا عنه أو لتحقيق مصالحه وما إلى ذلك من مواضيع ذات صلة تتناسب مع الدولة الحديثة ككيان معقد حتى في الميزان الفقهي وليس بهذه البساطة.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن أهم موضوع في السياسة الشرعية يكاد يخلو منه الكتاب، وهو المصلحة الشرعية، مصلحة المسلمين كأمة واحدة في كيان واحد؛ إذ بحسب الرؤية الإسلامية لا يصح أن تتناقض مصالح المسلمين أو أن تتضارب أو أن تقصر على بعضهم كجمهور دون الآخر، وهذا واقع لا محالة عند التعدد في الدولة القُطرية، لأن علاقات الدول بطبيعتها متباينة وكان لابد من أن يفتح النقاش حول ذلك لارتباطه الجوهري بالدولة القطرية، وهي من أهم موضوعات الكتاب.
وانشغل الباحث بتفنيد رؤية وائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة”، وأنها رؤية عدمية لأنها تقول بعدم قابلية دولة الإسلام للتحقق في الدولة الحديثة، وفاته أن يعيد تقييم هذه الأخيرة والتي عزا إليها حلاق وبالدرجة الأولى -لعدم أخلاقيتها- السبب في عدم إمكانية تحقق الدولة الإسلامية، خاصة وأن الشنقيطي ارتكز في قيام الدولة الإسلامية المعاصرة على الدولة الحديثة وقبل بها ولو بمواصفات معيارية متخيلة. ولم يكن يستحق الأمر الاستطراد إلى حد محاكمة المراجع التي استند إليها حلاق، لأنه -أي حلاق- أخضعها لسياق مختلف ضمن رؤيته الخاصة، خاصة فيما يتعلق بالإمام الغزالي (41). كما بالغ الشنقيطي في اتهام حلاق بأنه يدعو إلى “نمط من التدين الإسلامي المنزوع الدسم، الذي لا ينصر مظلومًا… إلخ”؛ فحلاق ليس ناشطًا ولا داعية ولا منظِّرًا إسلاميًّا، فهو يكتب من موقع أكاديمي وليس المطلوب أكثر من نقده ضمن هذا الإطار، مع الإشارة إلى أن حلاق حتى عندما قال باستحالة قيام الدولة الإسلامية وفق نموذجها الأخلاقي في الدولة الحديثة، فإنه ترك باب التغيير لنمط الحكم مفتوحًا بالنسبة للمستقبل؛ حيث قال: “في ضوء هذه الاستحالة، ما نمط الحكم السياسي الذي يتبعه المسلمون في الحاضر، ويحتمل أن يتبعوه في المستقبل؟ إن الجزء الأخير من السؤال الثاني، بما يحتويه من تنبؤات ليس في صلب أطروحتنا هذه”(42). وبهذا لا يصح وصف أطروحته بالعدمية بالمطلق بغضِّ النظر عن صحتها من عدمها (43).
ومن المناسب هنا أيضًا التنويه بأن الصدى المعاكس لمقولات “الدولة المستحيلة” يبدو كبيرًا في كتاب “الأزمة الدستورية”؛ حيث أراد هذا الأخير أن يثبت أن قيام الدولة الإسلامية في الدولة الحديث ممكن فضلًا عن قضايا جزئية كثيرة، وهذا الانعكاس كان محفزًا كبيرًا على ما شهده الكتاب من محاولة للارتقاء بالنظرية حول القيم السياسية الإسلامية لتلاقي الواقع.
ومن اللافت أن الكتاب أفرد التأثير الساساني في القيم السياسية الإسلامية بمساحة واسعة، تحت عنوان “عهد أردشير”، وهذا فضلًا عن وجود مقارنات ومقاربات تتصل بالتأثير الفارسي في مواضع أخرى. وأهمية أردشير بن بابك (توفي سنة 242م) أنه وحَّد فارس بعد أن كانت إمارات متقطعة، وجمع الناس على نص زرادشتي ديني واحد، ورتب الهيئات الدينية في هرم واحد؛ لذلك سُمِّي “أردشير الجامع”، وسُمي ملكه “ملك الاجتماع”. وأورد الشنقيطي خلاصة مما جاء في هذا العهد، وهو الوصية التي تركها هذا الملك لحفظ مملكته من بعده، ولخصها في أمور ثلاثة:
1- أن يتظاهر الحاكم بالغيرة على الدين ليقنع الرعية بأنه أشد حرصًا على الدين من كل المتدينين مهما أخلصوا.
2- منع أي حرية دينية خارج إطار السلطة، وأي نشاط ديني لا يكون إلا تحت عينها، كي لا يصبح ضدها.
3- والمتدينون المعارضون لشخص الحاكم هم “أعداء الدول وآفات الملوك”. ويقترح أردشير سلاح التشهير باتهامهم بالكبر والرياء، وتلويثهم بتقريبهم من الدنيا، وإلا فسفك دمهم (44).
ويرى الشنقيطي أن النموذج الإمبراطوري الفارسي اجتاح الثقافة الإسلامية وأن قيمته كانت تزداد “لدى المسلمين مع تفكك الدولة العباسية وضعف خلفائها”(45)، وأورد استدلالات عمَّن قال بعمق هذا الأثر، مثل الدكتور محمد عابد الجابري الذي قال: “لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران ولا غيرها من بلاد الإسلام، النهضة المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم أباهم أردشير”(46). كما استحسن الشنقيطي قول الجابري: “القيم الكسروية (هي) التي خلدت دولة الفتنة الكبرى بذريعة اتقاء الفتنة”(47). وتبنى حكم إقبال: أن العقل الفارسي كان عصيًّا على التطويع، وأنه “أثَّر في جوهر الرسالة الإسلامية.. كما أثر العقل الأوروبي في جوهر الرسالة المسيحية”(48).
وقد عزَّز الشنقيطي من التقديرات التي تقول بقوة الأثر الفارسي في القيم السياسية الإسلامية، فاستحضر” عهد أردشير” تبعًا للجابري، “كنص مؤسِّس”(49) في المنظور السياسي الذي ساد في التاريخ الإسلامي، بل كمؤثِّر حتى في “الإرث اليوناني”، لكنه عاد ليقول في سياق هذا النقاش: إن الجابري “وبعض تلامذته” قد “بالغوا في تصوير أثر المصدر الساساني”، وقرَّر أن “درع التوحيد الإسلامي حالت دون الخضوع الكامل لذلك المصدر خصوصًا في مجال الاعتقاد”(50).
ويبدو أنه أدرك أنه بالَغَ في تقدير الأثر الساساني الأردشيري فحاول التقليل أو الحد منه، فميز بين مسارين في التراث السياسي الإسلامي: الأول: مسار يضحِّي بالشرعية لمصلحة الوحدة، دون أن يسوِّغ ذلك تسويغًا أخلاقيًّا كاملًا؛ وهو ما سلكه معظم الفقهاء والمحدثين. ومسار آخر أضفى على الاستبداد جبرية اعتقادية وتسويغًا أخلاقيًّا، وهو الذي انتهجته كتب الآداب السلطانية (51).
فهكذا يسوق الدكتور الشنقيطي جملة كبيرة ومفصَّلة من المنقول عمَّن يقول بعمق الأثر الساساني، حتى اعتبره نصًّا مؤسِّسًا في القيم الإسلامية، ومن ثم قد يتحفظ أو ينفي ذلك أو يعيد توجيهه في مواضع قليلة جدًّا ولكن بدون رؤية موازنة، أما اندفاعه بالاتجاه الآخر لاسيما وراء الجابري نفسه واستنتاجاته فقد كان طاغيًا.
إن كثيرًا من الاستنتاجات قد لا يختلف عليها كثيرون من الباحثين لاسيما المسلمون من حيث وجودها في واقع المسلمين الثقافي والسياسي وعلى رأسها الاستبداد وصلتها بتراجع قوة القيم السياسية الإسلامية أو عدم وضوحها في الضمير المسلم، ولكن ربطها بهذا المسار من معركة صفين مرورًا بالفكر “الإمبراطوري الإسلامي” وتأثرها بالإمبراطوريات المجاورة لاسيما الفارسية الأردشيرية، وكأن التاريخ الإسلامي يقوم على خيط تتخلله بضع وقائع فارقة دون ملاحظة سواها، فهذا تعميم مخل وانتقائية مفرطة يصعب التسليم بها، خاصة وأن ما طُرح من رؤى لم يتسع الكتاب للتدليل عليها ولن يتسع، وستبقى محل جدل أو بالأحرى موضع شك.
فهناك عوامل تبدو آثارها أكثر وضوحًا -وقد ذكر بعضها الكتاب لكنه لم يعطها حقها من النقاش- بوصفها أسبابًا رئيسة فيما انتهى إليه أمر المسلمين فضلًا عن محاولة تجاوزها، منها مثلا دولة ما بعد الخلافة وما تحمله من قيم لاسيما أنها جاءت في سياق استعماري، وهناك الحداثة والقيم التي وُلدت مع النظام العالمي الذي يسود الكون ولها انعكاساتها على الدولة الحديثة وقيمها، وهناك معضلة الأقليات والطائفية لاسيما في المشرق ولها سياقها الخاص الذي يتجاوز الاستبداد؛ حيث يصارع مسلمون في دول مثل سوريا والعراق لمجرد البقاء.
ومن الملاحظات الأخرى على الكتاب، أن صورة التاريخ الإسلامي، وصورة الحضارة الإسلامية، وصورة القيم السياسية الإسلامية في الكتاب، بدت بالجملة وكأنها مستقبل للتأثيرات أكثر من كونها مؤثرة. فهناك حضارة فارسية لها تأثير سياسي طاغ، وهناك حضارة يونانية غربية نجت من تأثيرات الفكر الساساني وقيمه السياسية ولها صورة وردية حتى تاريخيًّا وتلهم الواقع، وهناك حضارة إسلامية مأزومة دستوريًّا.
في الختام، إن الكاتب بدا وكأنه ناشط ولكن بأدوات مفكِّر، ويملك لغة الناشط الإلكتروني ويعرف أهمية اللغة في التأثير وهو يملكها، فأراد أن يعطي أجوبة نهائية وكل الأجوبة على أمل تقديم خريطة لتغيير الواقع بأسرع ما يمكن، وأراد لأجوبته أن تكون واقعية لا ترفضها ثقافة الغرب، وألا تتجاهل معايير الشرعية لتلقى قبول المسلمين، وأراد للفكر الإسلامي الإصلاحي ألا يسقط تحت أقدام الحركة “المضادة للثورات”، فكان أنَّ بعض مقولاته -وهي ليست قليلة- لم تأخذ حقها من النضج، وربما يصح في هذا المقام القول فيه كما قيل في أحدهم: “يورد الشبه نقدًا ويَحِلُّها نسيئة”، وبتحديد أكبر يورد الشبه بكثافة وتدفق ولما يتحفظ ويستدرك عليها فعلى تراخ وكلل. ولكن يبقى من أهم مزايا هذا الكتاب ومما سيُذكر بها، بالنظر إلى مقولاته وقضاياه وشكوكه ورؤاه وشخصية كاتبه وأسلوبه، أنه محفز كبير لنقاش أكبر.
معلومات الكتاب
الكتاب: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي
الكاتب: محمد المختار الشنقيطي
الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية
الطبعة: الدوحة قطر 2018
عدد الصفحات: 607
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د. شفيق شقير، باحث مختص في المشرق العربي والحركات الإسلامية.
مراجع
(1) مراجع الشنقيطي، محمد المختار، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، (منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2018)، ص 17. ويمكن الاطلاع على تقديمه للكتاب في مدونته، مدونات الجزيرة، 5 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 12 أغسطس/آب 2018).https://bit.ly/2MbKMsR
(3) المرجع السابق، ص 17. ويمكن الاطلاع على تقديمه للكتاب في مدونته، مدونات الجزيرة، 5 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 12 أغسطس/آب 2018):https://bit.ly/2MbKMsR
(6) انظر: في صفحة التعريف بفريق العمل في موقع مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق،(تاريخ الدخول: 15 أغسطس/آب 2018):https://bit.ly/2MPWrtl
(7) انظر: الشنقيطي، محمد المختار، “حسن الترابي: الموقف العابر والأثر الباقي”، الجزيرة نت، 7 مارس/آذار 2018، (15 أغسطس/آب 2018): https://bit.ly/1pbxFbp
(8) انظر على سبيل المثال، الشنقيطي، محمد المختار، “أوراق الربيع (36).. وأمْرُهمْ فوْضَى بينهم!”، مدونات الجزيرة، 3 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 15 أغسطس/آب 2018):https://bit.ly/2MJYwaf
(9) الشنقيطي، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، مرجع سابق، ص 515.
(13) الجدل الهيغلي ونقلًا عن الموسوعة الفلسفية المختصرة: “إننا في البداية نتناول فكرة ناقصة، فتؤدي متناقضاتها إلى أن يحل محلها نقيضها، غير أن هذا النقيض تظهر فيه العيوب نفسها، فلا يبقى طريق للخلاص سوى أن ندمج بين محاسن التصورين في تصور ثالث، ومع أن هذا العلاج من شأنه أن يحل المشكلات السابقة ويتقدم بنا خطوة نحو “الحقيقة”، إلا أنه بدوره يتكشف عن متناقضات، فينشأ من جديد موضوع ونقيضه، ثم يرتفع هذا التناقض بينهما في تآلف جديد، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى مقولة: (الفكرة المطلقة)”. الموسوعة الفلسفية المختصرة، مراجعة وإشراف زكي نجيب محمود، (المركز القومي للترجمة، القاهرة)، ص 299.
(14) الشنقيطي، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، مرجع سابق، ص 54.
(19) كتب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم كتابًا لتنظيم علاقة المجتمع بعضه ببعض، أنصارًا ومهاجرين، مسلمين ويهودًا، قبائل وأحياء، سُمي وثيقة المدينة أو عهد المدينة. انظر: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، التي جمعها محمد حميد الله، (دار النفائس، بيروت، 1987)، ط 6، ص 57 وما بعدها.
(20) الشنقيطي، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي،ص 290.
(27) المرجع السابق، ص 538-539.
(28) المرجع السابق، ص 554-555.
(29) حلاق، وائل، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015)، ط 2، ص 19.
(30) الشنقيطي، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، مرجع سابق، ص 499-502.
(31) المرجع السابق، ص 502-503.
(32) المرجع السابق، ص 99، 586.
(34) المرجع السابق، ص 523، 532.
(35) المرجع السابق، ص 109 وما بعدها، 523 وما بعدها.
(41) مثلًا على نفس المنوال، يمكن أن يتهم الدكتور الشنقيطي نفسه بالقول بتطور الأديان أو ما شابه ذلك بسبب اعتماده على محمد إقبال كمجدد، فإقبال نظم البهائية في نفس السلك مع الوهابية كحركات تحديث إسلامي فضلًا عن ثنائه على التجربة الأتاتوركية. بالطبع، هذا الاستنتاج لا يصح لا بالمقدمة ولا بالنتيجة منهجيًّا. حول موقف إقبال من التحديث، انظر: تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، (دار الهداية، القاهرة)، ص 180 وما بعدها.
(42) حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص 30.
(43) لم يجزم حلاق في كتابه الدولة المستحيلة بعدم قدرة القيم السياسية الإسلامية على التأثير في مستقبل المسلمين بالمطلق وفي أي نمط آخر للحكم غير الدولة الحديثة، وله دراسة قيد الترجمة باللغة العربية، تتصل في بعضها ببعض مما ورد في كتابه الدولة المستحيلة.
Hallaq, Wael B. Qur’?nic Constitutionalism and Moral Governmentality: Further Notes on the Founding Principles of Islamic Society and Polity, (Columbia University).
(44) الشنقيطي، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، مرجع سابق، ص 386.
(45) المرجع السابق، ص 364.
(46) المرجع السابق، ص 331.
(47) المرجع السابق، ص 335.
(48) المرجع السابق، ص 328.
(49) المرجع السابق، ص 331.
(50) المرجع السابق، ص 398.
(51) المرجع السابق، ص 399.
رابط المصدر:
http://studies.aljazeera.net/ar/bookrevision/2018/08/180827081615042.html