لا نشُك مُطلقًا بصحّة التّصريحات التي أطلقها اليوم السيّد غلام جلالي، رئيس منظّمة الدفاع المدني في الحرس الثوري الإيراني، التي أكّد فيها أنّ القيادة الأمريكيّة طلبت من حُكومته عدم الرّد على ضربةٍ محدودةٍ توجّهها القاذِفات الأمريكيّة إلى مناطقٍ غير مأهولة لإنقاذ ماء وجهها كردٍّ على إسقاط الدّفاعات الجويّة الإيرانيّة طائرة أمريكيّة مُسيّرة في أجواء مضيق هرمز، وأنّ هذا العرض الذي نقله وسيط (يُعتقد أنّه سلطنة عُمان) قُوبِل بالرّفض.
القِيادة الإيرانيّة لم تسقُط هذه الطائرة المُسيّرة لأنّها اخترقت الأجواء الإيرانيّة ببضغة أمتار، وإنّما أيضًا لتوجيه رسالة واضحة، مُحدّدة الكلمات، تقول إنّ إسقاط هذه الطائرة جاء بداية، أو “فاتح شهية”، ويُؤكّد القرار الإيراني الرسمي، وعلى أعلى المُستويات، بأنّ الشعب الإيراني لن يركع، ولن يموت جُوعًا تحت الحِصار والعُقوبات الأمريكيّة، مهما كان الثّمن.
الأمريكيّون تعوّدوا على طرح مِثل هذه المخارج المسرحيّة من أجل الحِفاظ على هيبة بلادهم كدولة عُظمى، والظّهور بمظهر الطّرف الذي لا يصمت على أيّ هُجوم يتعرّض له، فعندما فجّرت خلايا انتحاريّة لتنظيم “القاعدة” سفارتيّ الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998، أمر الرئيس بيل كلينتون بقصف قواعد للتّنظيم في أفغانستان بأكثر من 70 صاروخ كروز، مُعظمها سقَط في أماكن خالية، ولم تزِد عدد الخسائر البشريّة في تنظيم “القاعدة” عن خمسة أشخاص فقط.
الشّيء نفسه تكرّر، وفي عهد الرئيس ترامب، عندما أمر في التاسع من تموز (يوليو) من العام الماضي بإرسال حواليّ 100 صاروخ كروز لقصف مطار تيفور العسكريّ في سورية، إيفاءً بتعهّداته بالانتقام لاستخدام طائرات سورية أسلحة كيماويّة في بلدة خان شيخون، وتبيّن لاحقًا أنّ السلطات السوريّة والروسيّة جرى إبلاغها بشكلٍ مُسبقٍ بهذا الهُجوم الأمريكي قبل بدئه، ممّا أدّى إلى إخلاء المطار من الطائرات والأفراد، ولهذا جاءت الخسائر الماديّة والبشريّة محدودةً جدًّا.
القِيادة الإيرانيّة على درايةٍ كاملةٍ بهذا الأسلوب الأمريكي المُخادع، ولهذا رفضت هذا العرض المسرحيّ، لأنّها لا تُريد تجميل الوجه الأمريكيّ العسكريّ القبيح على حِساب سُمعتها وهيبتها، وصدَق السيّد جلالي عندما قال “إنّ قيادته أبلغت الأمريكان نحنُ من سيُحدّد ساحة الحرب، وإذا بدأتم بها سنكون نحن الذين سنُعلن نهايتها، وأيّ ضربة لأراضينا هي إعلان حرب سنرُد عليها بقُوّةٍ”.
الإيرانيّون، ومِثلما تكشفه تطوّرات الأزَمة مع أمريكا، يقولون ويفعَلون، ومن المُصادفة أنّهم بَدأوا اليوم الأحد بتنفيذ تهديداتهم باستئناف تخصيب اليورانيوم بنسبةٍ أعلى من المُعدّلات المُقرّرة (5 بالمئة)، وأمهلوا الأوروبيين شهرين لتخفيف الحِصار، وشراء النفط الإيراني، وإلا فإنّهم لن يلتزِموا ببنودٍ أخرى، ربّما أكثر خُطورةً، بالاتّفاق النوويّ الإيراني.
الرئيس ترامب اضطرّ للتّراجع عن تهديداته بردٍّ كبيرٍ على إسقاط طائرته المُسيّرة فوق مضيق هرمز لأنّه أدرك بأنّ هذا الرّد سيُشعل فتيل الحرب التي سيَصعُب السيطرة عليها، ولأنُ بنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، هاتفَهُ طالبًا التوقّف لأنّ الرّد على الرّد سيعني تدمير الدولة العبريّة وقصفها بآلاف الصّواريخ الدّقيقة دُفعةً واحِدةً من مُختلف الجِهات.
ترامب تعوّد على الاستسلام من قبل حُلفائه العرب، والخُضوع لكُل إملاءاته وابتزازاته، واختلطت عليه الأمور، واعتقد أنّ الإيرانيين مِثل هؤلاء، ينحنون أمام العاصِفة حتى لو كانت ضعيفةً، وهُنا تكمُن المُعضلة التي أوقع نفسه وبلاده فيها.
هُناك نوعان من العرب، عرب المُقاومة الذين لا يخافون ترامب ولا حُلفائه، واختاروا المُواجهة والرّد على أيّ اعتداءات وابتزازات، ورفض أيّ حِوار لا يُحقّق لهم الحد الأدنى من شُروطهم، وهؤلاء لم يتردّدوا في الوقوف في الخندق الإيراني الدّاعم لهم بالسّلاح (سورية، العِراق، حزب الله، أنصار الله، حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وفصائل فِلسطينيّة أُخرى)، وعرب أمريكا وحلف “الناتو” الذين اعتقدوا أنّ أمريكا وإسرائيل يُمكن أن تُوفّرا لهم الحِماية من إيران التي حوّلها الأمريكان والإسرائيليّون إلى “فزّاعةٍ” استخدموها لحصد التّطبيع ومِئات المِليارات من الدولارات.
صدَق غلام رضا جلالي.. وكذَب ترامب ورهطه.
رابط المصدر: