طارق المبارك
يقول الأنثروبولوجي المغربي البارز حسن رشيق، وهو يتذكر حياته في أرض الميدان البحثي:
” لقد قضيت عشر سنوات (١٩٨٣-١٩٩٢) في ثلاث قرى تسكنها ثلاثمائة عائلة من أجل فهم جوانب من حياتهم اليومية. وكنت أعود إلى بيتي -على بعد ثلاثمائة كلم- شاعرًا، في الغالب، بخيبة الأمل، لأني لم أكن دقيقًا في طرح سؤال، أو لأني لم أستوعب معنى إشارة أو كلمة معينة…أحيانًا أجدني مضطرًا للحديث عن دوار ثقافي، فقد أدركت أن ما غاب عني، عند أمازيغ الأطلس الكبير ورحالة المغرب الشرقي، بلغ درجة كان لزامًا علي أن أتعلم كل شيء تقريبًا. فما عسى أن يعرفه حضري عن لغة محلية وعن البيئة القروية وعن التنقلات الرعوية؟ ينبغي القول إن محاوريّ كانوا أشدّ استغرابًا مما أعرفه عن ثقافتهم (وهو شيء قليل) قياسًا إلى ما كنت أعرفه. فأن أكون مغربيًا لا يعني أني أستطيع المشي بيدين في جيبي، أتلذذ كؤوس الشاي، وأدخل بحوارات تنتهي بعبارة: ” أعرف ذلك..أعرفه، الأمر كما عندنا بالضبط”1.
هذا التوضيح الذي يقدمه لنا أحد أهم الأنثروبولوجيين المحليين في المغرب في عهد ما بعد الاستعمار، يؤكد على أن تلك التصورات عن كون الأنثروبولوجيا الأهلية قد أحدثت فارقًا جذريًا مع المعرفة المنتجة من باحثين غربيين في عهد الاستعمار هي تصورات مبالغ فيها. فسواءً راجعنا تطور الأنثروبولوجيين والجغرافيين المصريين بداية القرن العشرين، أو قارنا أعمال الأنثروبولوجيين المحليين في المغرب بأعمال من سبقهم من باحثين غربيين ممن درسوا المغرب وأهله، سنجد أن المسافة بين الفرضيات الإبستمولوجية، أو حتى الوضعية الإثنوغرافية، بين نمطي المعرفة الاستعمارية والأهلية ليست بذاك الفارق الجذري. وأيضًا من ناحية أخرى، فإننا سنجد تحولاً في علاقة بعض الأنثروبولوجيين العرب بالتركة الأنثروبولوجية الموروثة من عهد الاستعمار، من اختزالها لأداة استعمارية مباشرة، إلى اعتبارها معرفة قابلة للبناء عليها جزئيًا دون اغفال لبُعدها المؤدلج.
مصر.. التميز العرقي عن أفريقيا
في مصر، حاول المثقفون الوطنيون مطلع القرن العشرين صنع حداثتهم الخاصة بإزاء ما كان يقدم كحداثة كونية، إلا أن أمنية الشاكري تلاحظ أن الجغرافيين والأنثروبولوجيين المصريين فيما كانوا يطورون أنثروبولوجيا محلية في ظل المرحلة الاستعمارية وما بعدها استبطنوا مقولات أساسية من المعرفة الاستعمارية، وتشابكت قوالب إنتاج المعرفة في الفترة الاستعمارية وما بعدها. تمركزت الدراسات الأنثروبولوجية الأولى عن مصر حول نشاط الجمعية الجغرافية الملكية التي كان لها أهداف استكشافية في مصر وفي أفريقيا، وكان المؤطّرون لدراساتها ونشاطها من الأوروبيين، ثم التحق بعض الباحثين المحليين بها. تأسيس الجمعية الجغرافية كان لحظة هامة في نقل المعرفة العلمية الاجتماعية الأوروبية لمصر، ولكنه أيضًا كان في قلب عملية اثنوغرافية وجغرافية لـ”حفظ الثقافة المادية لمصر وأفريقيا قبل اتصالها المطول بأوروبا” وجزء من مشروع أنثروبولوجي أكبر لفهرسة ثقافة السكان المحليين قبل اقتحام الحضارة الحديثة، وانطلق جزء أساسي من عمل الأنثروبولوجيين في الجمعية وفق فرضيات استشراقية في التفريق الانطولوجي بين الأوروبي والشرقي وضمن منظور تراتبي”2.
ساهم عاملان أساسيان فيما أشارت إليه الشاكري من استبطان لمقولات استعمارية في الأنثروبولوجيا المحلية الناشئة: الطموحات التوسعية للخديوي إسماعيل ومشاركة الباحثين المحليين لنظرائهم الأوروبيين في تصور ذواتهم كمكتشفين وناشرين للحضارة في أفريقيا وكان عمل المصريين في الجمعية الجغرافية متوجه لـ”اكتشاف البلاد” القريبة ، ثم وجهت الجمعية عملها لدراسات عن السكان المحليين، واستند بعض المثقفين المصريين على فكرة التفوق الحضاري بإزاء السودان “الأدنى تمدنا” للمطالبة بتشريع أحقيتهم بالدور التحديثي للسودان أمام الإنجليز، بل إن مروة الشاكري في كتابها عن قراءة داروين في الفكر العربي، تشير إلى أن قاسم أمين ومعظم طبقته كانوا لهم ذات الموقف تجاه السودان “الأقل عرقيا”3. وخصّ عباس عمار، وهو من أوائل الجغرافيين المصريين البارزين، جنوب السودان بأنه “ليس له ثقافة تستحق الحفاظ عليها” وهو يحاجج للدفاع عن وحدة وادي النيل بين مصر والسودان. العامل الثاني كان ذلك انشغال المثقفين العرب، والمصريين بالأخص، بأفكار التمدن والتطور، فمن جهة ربط بعض المثقفين العرب التحديث بالعلوم الغربية الوافدة بما فيها العلوم الأنثروبولوجية، فكان مصطفى عامر، الذي يعتبر هو ومحمد عوض أول جغرافيين مصريين محترفين، يرى أن دراسة علم الآثار ودراسات الأجناس شرطٌ لدخول مصر العالم الحديث، باعتبارها منتجًا للمعرفة العلمية الحديثة. ومن جهة أخرى انتشرت أفكار الفرعونية، ومحاولة إدارج مصر في تمايزٍ عن محيطها الأفريقي “المتخلف” والإندراج في تاريخ يحترمه الغرب، وهو ما دفع بعض المثقفين للتأكيد على التميز الإثنولوجي للمصريين باعتبارهم من نسل الفراعنة، وشارك سلامة موسى، وهو من أبرز المثقفين المصريين تلك الفترة، في كتابه “مصر الحضارة”، وبتأثر بأفكار جرافتون إليوت سميث، في ترتيب الأنواع العرقية البشرية المختلفة، ووصف الزنوج بالتميز بالوحشية، والتي خفّف منها نقل الحضارة المصرية جنوب الصحراء. وناشد محمد حسين هيكل في مقال له عام ١٩٢٦ المفكرين الوطنيين المساهمة في إقامة صلات متينة بين المصريين المحدثين وأسلافهم الفراعنة من خلال الدراسة المقارنة للأدب والطقوس والعادات والدين. وقد نشرت مجلة المقتطف، وهي أهم مجلة عنيت بالعلوم مطلع القرن العشرين في مصر، ذات مرة، على لسان تحرير المجلة، أن سكان مصر الأقدمين كانوا من جنس أبيض البشرة مثل الأوروبيين.
لكن هذا العرض من جانب أمنية الشاكري للتوجه الوطني للمثقفين المصريين، باعتبارهم استخدموا تمايزهم العرقي وتفوقهم الحضاري على السوادن للمطالبة بالأحقية في “تمدينه”، تشوبه مشكلة عامة في أطروحتها، فهي كما قال أحد المعلقين على كتابها في وصف طريقتها: “تربط موضوعات متباينة كالخرزات على السبحة بشكل غائي جدًا” فلا تفسر المعطيات المخالفة إلا على سبيل الاستثناء، وهي إشكالية شائعة نسبيًا في الدراسات ما بعد الكولونيالية. فعمار عباس على سبيل المثال برغم مشاركته في الدعوات حول أحقية مصر بتمدين السودان رفض فكرة التمايز العرقي المصري بل أكّد على الأصول الحامية المشتركة لقدماء المصريين والنوبيين ورفض أيضا فكرة النقاء العرقي واعتبرها خرافات سياسية ليس لها أي مستند علمي( تبعًا لآراء أستاذه المشرف عليه في مانشستر ه. ج. فلور)، وهذا يتضح أيضًا في تقديمها لكتاب يوسف نحاس-برغم إشارتها لتحوله لنص أساسي- كاستثناء من الاتجاه العام في تأبيد صورة الفلاح المصري في الكتابات المبكرة عن الفلاحين، فنحاس قدم أطروحة مختلفة بربطه أوضاع الفلاحين بالعوامل التاريخية التي مرّوا بها دون أي نزعة رومانسية أو إشارة لصفات لا تاريخية لهم، وأيضًا- حين عالجت الكتابات الكولونيالية عن الفلاح المصري-تعاملت بنفس القدر مع أعمال ألبير ديمانجون وجان لوزاك وجورج هاج، أعمالهم التي حاولت التوفيق بين حقائق البيئة الريفية وحقائق الاقتصاد الريفي.
لاحقًا وفي منتصف القرن العشرين، بدأت هيمنة علم المصريات ودراسات التاريخ الفرعوني تتراجع بين الباحثين المصريين لصالح الدراسات السوسيولوجية عن مصر الحديثة، تجاوزًا لفكرة أن مصر الحديثة هي امتدادٌ لمصر القديمة التي تستحق الدراسة في نظرة لا تاريخية أن تؤبّد المصريين في صفات موروثة عن أصولهم الفرعونية.
أنثروبولوجيا عهد الاستعمار في المغرب ونشوء الأنثروبولوجيا المحلية
في المغرب، وهو البلد العربي الآخر الذي ورث تركة أنثروبولوجية من عهد الاستعمار تستدعي النظر فيها، دار نقاش بين الأنثروبولوجيين المحليين حول منهج التعامل مع هذه التركة، من ناحية أساسية حول سمتها الإيديولوجية وكونها مكرسة لخدمة الغرض الاستعماري وجدوى البناء عليها معرفيًا، أو كما يدعو بعض الباحثين لتخليصها من “طابعها الكولونيالي، والكشف عن الأحكام المسبقة المنطوية على توجهات مركزية عرقية عملت على تحريف تاريخ البلدان المستعمَرة وثقافتها” سعيًا نحو معرفة دي كولونيالية. لكن أيضًا من نواحٍ أخرى لا تقل أهمية، جرى النقاش حول المعوقات الموضوعية التي وسمت تلك المعرفة التي أنتجها باحثون كولونياليون، كالقدرة على التواصل مع الأهالي والإقامة بينهم والوضعية الإثنوغرافية وأخذ المحاورين على محمل الجد.
حسن رشيق، الذي أشرنا إليه أعلاه، شارك مع زملاء آخرين وهما محمد العيادي ومحمد الطوزي في إصدار “الإسلام في الحياة اليومية“( ٢٠٠٦)، وهو كتاب يمثل تأويلاً لمواد مجمعة بفضل تحليلٍ سوسيولوجي على عينة من المغاربة، كان مع زميليه قد وصفوا في مقدمة هذا الكتاب المعرفة المتعلقة بالمجتمع المغربي بمختلف جوانبه بأنها كانت تخدم المرامي السياسية لإدارة الحماية في عهد الاستعمار، وأن السلطة الاستعمارية جعلت المعرفة أحد أركان سياساتها للسيطرة على المغرب، في لغة لا تبتعد كثيرًا عن التوجه السائد بين الأنثروبولوجيين العرب في نظرتهم للتركة المعرفية الكولونيالية، منظورًا إليها بشكل أساسي كمعرفة مؤدلجة تخدم المصالح السياسية4. إلا أن رشيق عاد في “الانثروبولوجيا في الوطن العربي”(٢٠١٢)، وهو حوار مع الأنثروبولوجي السعودي أبو بكر باقادر، ليدافع عن الدعوة لدراسة منظمة للعلاقات المعقدة بين الطلب السياسي الاستعماري، والعرض الأنثروبولوجي الأكاديمي، وأضاف “بأن تأريخ العلوم الاجتماعية وتطبيق علم اجتماع المعرفة على هذا التأريخ قد خطا خطوات كبيرة لا تسمح لنا باجترار فكر مبسط يختزل تاريخ علم ما في بعده الأيديولوجي والسياسي5، وهو نقد وسّعه في كتابه “القريب والبعيد.. قرن من الأنثربولوجيا بالمغرب”( ٢٠١٢)، الكتاب الذي يمثّل مراجعة أساسية للدراسات الأنثروبولوجية المنتَجة عن المغرب في عهد الاستعمار وما بعده من قبل باحثين غربيين. يؤكد رشيق على أن من الاختزال اعتبار الأنثروبولوجيا الكولونيالية مجرد انعكاس للإيديولوجيا الكولونيالية، فالأعمال المنجزة حول المغرب كولونيالية كانت أم لا، مندرجة ضمن التقاليد النظرية المختلفة التي تمتلك أسئلتها، ومعجمها ورهاناتها الخاصة بها. لا يستبعد رشيق تأثير وقوة الأيديولوجيا على كل سياق يفترض فيه على المعرفة أن تكون مشروعًا علميًا، لكنه يترك جانبًا فكرة وجود سياق محدد بطريقة كلية وخارجية يؤثر على منتج الباحثين الكولونيالين بطريقة متشابهة برغم اختلاف مدارسهم النظرية ووضعياتهم الاثنوغرافية، ويأخذ بالاعتبار السياق بوصفه مجموعة من الموارد والإكراهات المؤثرة في المكانة الاجتماعية للباحث، وفي أعماله، فالسياق الكولونيالي ليس شيئًا قابلاً للتحقق منه خارج تجربة أنثروبولوجي تلك الحقبة، فهو سياق يحيل للظروف العامة لبلد ما قدر إحالته للظروف الخاصة بإنتاج الخطاب الأنثروبولوجي، وبناءً عليه لم تعد العلاقة بين سياق وخطاب معين بسيطة ولا مباشرة. و”مهما كانت اهتمامات الباحث… فإنه مدعو من خلال دوره الاجتماعي، إلى أن يضع نفسه في إطار تقليد نظري يشكّل مرجعية في نظره، ويستعير منه مفرداته ومسلماته وفرضياته. ينبغي على أنثربولوجي كولونيالي أن يحترم العلم المعيار في عصره…وأن يتوافر على جماعة مرجعية”، ويضرب رشيق لذلك مثالاً بإدمون دوتي، الذي أسهم في توسع فرنسا الكولونيالي، والذي كان في احتكاك دائم بمارسيل موس ومجلة الحولية الاجتماعية، وجاك بيرك، الموظف الكولونيالي طوال عشرين سنة، والذي كان على علاقة بالحلقة الذائعة الصيت بباريس(مارسيل موس، لوي جرني)، هذا لا يعني تجاهل التوظيفات السيئة للنظرية والتأويلات المابعدية والظرفية لها، والتي تقتضي التيقظ للاختلالات الواردة بين التقاليد النظرية ونتائج البحث. هذا الجانب من الانغراس في تقاليد نظرية مختلفة وجماعات مرجعية، هو ما يفسر بعض التحولات في العمل الأنثروبولوجي الكولونيالي، فالذي وجّه مؤسسي الأرشيفات المغربية للمرور المتدرج من وضعية الرحالة المستكشف إلى الباحث المقيم، وهو وضع يُسهّل اللجوء إلى المقاربة المونوغرافية، هو استعداد فكري، أي الرغبة في تجاوز التأملات السوسيولوجية الوضعية، ومن ثم الانضواء ضمن منظور سوسيو-غرافي. إلا أن رشيق هنا ربما يغضّ الطرف حين يحيل “للاستعداد الفكري” عن حاجة الإدارة الكولونيالية لمعرفة أقرب تتجاوز التأملات المشار إليها.
من ناحية أخرى، يري رشيق في تعقيب على بحث روبير ميرتون عن تأثير المكانات الاجتماعية المحتلفة للباحث (كالفرق بين الباحث المندرج/غير المندرج داخل بيروقراطية معينة): بأن المكانات الحقيقية للباحثين ليست على درجة من الوضوح والصرامة بل هي على قدر من المرونة، فإدمون دوتي كان مدرسا بالجزائر وأنجز مهام دقيقة بالمغرب في إطار المشروع الكولونيالي، والعكس صحيح، فجاك بيرك مثلا كان موظفا كولونياليا وأنجز أبحاثه ضمن توجه أكاديمي.
وباستبعاده لفكرة نزع طابع الكولونيالية عن المعرفة الكولونيالية، وهو شيء لم يُعرف أبدًا كيفية القيام به كما يقول، فإن ما يخلص إليه رشيق هو “أنه لا يعني أن تكون نظرية ما ملوثة بالأحكام الإيديولوجية أنها تُفضي بالضرورة إلى أوصاف خاطئة…ينبغي أن تفهم المعرفة الأنثربولوجية الكولونيالية وما بعد الكولونيالية من خلال نقدٍ لأسسها النظرية، ومن ثم نوضح عند الاقتضاء أن تأويلات كاتب لا تعدو أن تكون سوى تبرير عقلاني للمصالح الكولونيالية، أو الفئوية”.
مع مركزية مسألة أدلجة المعرفة المنتجة خلال عهد الاستعمار، إلا أن هناك محددات أخرى لهذه المعرفة يجب عدم إهمالها عند تقييم هذه التركة الأنثروبولوجية. فالوضعية الإثنوغرافية والتي تتضمن العلاقات المباشرة بين الأنثروبولوجي وبين الموضوعات المدروسة كمدة الإقامة بأرض الميدان وامتداد رقعة الدراسة وإجادة لغة الأهالي. أيضا أخذ كلام الأهالي على محمل الجد، الأمر الذي يعتبره كليفورد غيرتز ضرورة منهجية، أن يأخذ الباحث مأخذ الجد وجهة نظر الفاعلين المعنيين، “ويقبل بركوب مغامرة التحليل الفينومينولوجي والتواصل مع ذاتية الفاعلين، سعيًا لفهم ما يحسون به وما يفكرون فيه، والنفاذ إلى الأطر التأويلية التي يستخدمونها لإنتاج المعاني وتقييم الأحداث من حولهم”6.
والسؤال هنا حول كل تلك المحددات سواء تعلّقت بأدلجة المعرفة أو الوضعية الإثنواغرافية: هل كان قدوم أنثروبولوجيين محليين، والذي انتهك ذلك الفصل المحسوم، كما يصفه رشيق، بين الملاحِظ والملاحَظ، حيث ينتمي الأول دوما لبلد غربي كولونيالي في الغالب، هل كان قدوم هؤلاء الباحثين المحليين يصنع تقابلاً واضحًا بين الأنثروبولوجيا الأهلية وسابقتها الكولونيالية؟ يفاجئنا رشيق بأنه برغم محاولته كأنثروبولوجي مغربي تجاوز إشكالات من سبقه باشتراكه في لغة الأهالي وإقامته بينهم لعشر سنوات، إلا أنه وجد أن تلك العناصر المشتركة بينه وبين الأهالي هي أكثر العناصر سطحية في الغالب، وحتى فيما يخص اللغة، وهي عنصر مشترك فارق للباحثين المحليين، يقول عبد الله حمودي : إن قلة من الدارسين المغاربة يعرفون اللهجات البربرية أو حتى اهتموا بدراستها بشكل تفصيلي7.
وعلى مستوى اختيار المواضيع، فإن مؤلفي“الإسلام في الحياة اليومية” يشيرون إلى أن أعمال الأنثروبولوجيين المغاربة في مجال الظواهر الدينية من ناحية المواضيع لم تختلف عن الأنثروبولوجيا الاستعمارية (الزاوية والذبيحة والتنكر وزيارة الأضرحة والعرافة الخ)، إلا أن التغير في هذه الأعمال انصب على البعد النظري. والأكثر دلالة في ذلك، أي هشاشة التقابل بين الأنثروبولوجيا المحلية والاستعمارية، أنه في أعمال المغاربة هذه”لن تتم إعادة النظر في الفرضيات الإبيستمولوجية، بالرغم من النقد الإيديولوجي اللاذع، إلا على نحو ضعيف”.
يشير رشيق إلا إنه منذ نحو عقدين شُرع في تجاوز حالة الرفض والحذر المبالغ فيهما تجاه الميراث الكولونيالي عن المغرب.
نهاية الاستشراق؟
حدثت تحولات داخل حقل الأنثروبولوجيا، فلم تعد الدراسات عن ما هو خارج “الغرب” فقط، فولدت أنثروبولوجيا شوارع المدينة والتي تدرس مثلاً أحياءً في الولايات المتحدة نفسها، وتحدث أرجون أبادوراي عن ضرورة تكوين أنثروبولوجيا للمستقبل، ويشير كتاب” الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس” إلى حجم الحيوية والتجديد داخل هذا الحقل8، إلا أن رضوان السيد يرى أن الظواهر التي تُدرس لا تزال غير غربية بالمعنى المتداول للغرب، وأنه لا زال يهمنا أن نتابع ما يكتب عنا في هذا الحقل بغرض أن “لا نكون شيئًا” وليس أيضًا شيئًا مختلفًا عن بقية العالم والأنثروبولوجيا في ذلك أحسن حالاً من الاستشراق9.
يشير تركي الربيعو إلى أن المثقفين العرب كوّنوا صورة عن دور الأنثروبولوجيا الاستعمارية من إشارات إدوارد سعيد، ثم من ترجمة كتاب جيرار لكلرك “الأنثروبولوجيا والاستعمار”، والكتاب الذي حظي بشهرة واسعة وحرره طلال أسد “الأنثروبولوجيا ومواجهة الاستعمار”، وبالرغم من ذلك فإنهم، أي المثقفين العرب، مع وعيهم بالترابط العميق بين الأنثروبولوجيا والاستعمار-بحسب رضوان السيد- اعتبروا الأنثروبولوجيا بديلاً للاستشراق لأنها في نظرهم ميدانية أكثر، ولأنها ترتبط إلى حد ما بالسوسيولوجيا الوضعية، التي لا تسمح بالتجذير الأيديولوجي أو بتخليد الصور النمطية المتوارثة.
وحين نستعرض هذا الاستبطان لفرضيات إبستمولوجية من أنثروبولوجيا عهد الاستعمار في أعمال الأنثروبولوجيين العرب، سواءً في أعمال الجغرافيين والأنثروبولوجيين المصريين في النصف الأول من
القرن العشرين، في ظلال تشكيل الهوية الوطنية عبر التأكيد على التميز الإثنولوجي للمصريين عن الأفارقة بالأخص، أو في أعمال الأنثروبولوجيين المغاربة في الربع الأخير من القرن الفائت، فإنه يصبح من الجدير التفكير مليًا في ما يؤكد عليه براين تيرنر “تتطلب نهاية الاستشراق عملية إصلاح جذرية للمنظورات والنماذج. لكن إعادة التشكيل المعرفي لا يمكن أن تتم إلا في سياق تحولات رئيسية في العلاقات بين الشرق والغرب”10، فمن غير مساءلة جذرية للمنظورات الإبستمولوجية للأنثروبولوجيا، فإن إشكالية الاستشراق لن يتم تجاوزها، دون أن يعني ذلك اختزال التركة الأنثروبولوجية لعهد الاستمعار في جانبها الأيديولوجي، كما قلنا مع حسن رشيق.
- حسن رشيق، 2018. القريب والبعيد: قرن من الأنثربولوجيا بالمغرب.الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب.
- أمنية الشاكري، 2016. المعمل الاجتماعي الكبير: موضوعات المعرفة في مصر المستعمرة وما بعد الكولونيالية. القاهرة: المركز القومي للكتاب.
- مروة الشاكري، 2017. قراءة داروين في الفكر العربي 1860-1950. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات.
- محمد العيادي وحسن رشيق ومحمد الطوزي، 2013. الإسلام في الحياة اليومية: بحث حول القيم والممارسات الدينية بالمغرب. الدار البيضاء: منشورات مقدمات.
- أبو بكر باقادر وحسن رشيق، 2012. الأنثربولوجيا في الوطن العربي. دمشق: دار الفكر.
- محمد الصغير جنجار، 2014. علم اجتماع الأديان وباراديغم العلمنة، ضمن “العلوم الاجتماعية التطبيقية في المغرب. الدار البيضاء: مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والإنسانية”.
- باقادر ورشيق، مرجع سابق.
- تركي الربيعو، مقال العرب وتاريخ الأنثروبولوجيا.
- رضوان السيد، 2000. الأنثروبولوجيا والتاريخ والاستشراق. مجلة الاجتهاد، العدد 47/48.
- براين تيرنر، 2000. الاستشراق ومشكلة المجتمع المدني في الإسلام. مجلة الاجتهاد، عدد 47/48
رابط المصدر: