استراتيجية النفاذ (التوجه الصيني إلى المتوسط عبر سوريّة)

قامت الصين بتبني سياسة حذرة حول القضية السورية خلال السنوات الماضية، فهي تدعم نظام الحكم في سوريّة وتعمل مع حليفها الروسي لتحقيق ذلك وقد استخدمت حق النقض – الفيتو- أربع مرات في مجلس الأمن لمعارضة مشاريع قرارات تدين أو تستهدف سياسات نظام الحكم في سوريّة، المرة الأولى كانت عام 2011 ضد مشروع قرار باقتراح أوروبي وتأييد أمريكي لإدانة قمع النظام للاحتجاجات ضده، ثم في عام 2012 ضد قرار يطالب بتغيير نظام الحكم، والمرة الثالثة في نفس العام عندما استخدمت بكين الفيتو لمعارضة مقترح قرار يهدد النظام بفرض عقوبات إذا لم يقم بسحب قواته وآلياته العسكرية من المدن والمناطق التي قامت فيها مظاهرات. والفيتو الأخير كان في 2014 لتعطيل قرار يهدف إلى إحالة جرائم الحرب المرتكبة في سوريّة إلى محكمة الجنايات الدولية. لكنها بالرغم من ذلك حاولت لعب دور غير نشط في المشهد السوري وأعلنت تأييدها لمسار الحل السياسي ودعم الاستقرار في البلاد.

لكن مؤخرًا ظهرت العديد من المؤشرات حول حدوث تبدل في سياسة الصين المتعلقة بسورية، بعد زيارة وليد المعلم وزير الخارجية في حكومة النظام للصين بدعوة رسمية موجهة من الأخيرة تم فيها مناقشة عدة قضايا متعلقة بمستقبل الحل وبناء العلاقات الثنائية بين الجانبين، ما أثار النقاش حول إمكانية تفعيل بكين لسياسة أكثر نشاطًا في سوريّة، في ظل وجود عدة ملفات حساسة تهم الصين في المنطقة أهمها مستقبل نشاط الحزب الإسلامي التركستاني – الذي تصنفه الصين على أنه إرهابي-، واستراتيجية “الحزام والطريق” التي تهدف لإعادة إحياء طريق الحرير.

من جانب آخر، تمتلك بكين عدة أدوات للعب دور أكثر فاعلية في القضية السورية فقد عينت مبعوثًا خاصًا إلى سورية في بدايات عام 2016، وتقوم بتنسيق عالي المستوى مع الجانب الروسي للاطلاع الدائم على أبرز الأحداث والتحولات في مسار القضية السورية.

من محددات المصالح الصينية في سوريّة

لدى بكين عدة ملفات تسعى للتعامل معها والانطلاق نحو تطبيق استراتيجية طويلة المدى في سوريّة تسمح لها بتمرير مصالحها ومن أبرز تلك الملفات:

استراتيجية “الحزام والطريق”

أعلنت بكين عام 2013، عن خطة جيو-استراتيجية مستمدة من طريق الحرير التجاري في القرن التاسع عشر والذي ربط الصين ببقية دول العالم، وتهدف الاستراتيجية إلى توسيع التجارة العالمية من خلال إنشاء شبكات من الطرق والموانئ والمرافق الأخرى عبر بلدان عديدة في آسيا وإفريقيا وأوروبا([1]). لذلك تولي الصين أهمية كبيرة لموقع سورية الجغرافي كجسر في قارة آسيا يصل عبر المتوسط إلى قارة أوروبا وشمال إفريقيا، لذلك لم تخف بكين رغبتها في المشاركة الفعالة بإعادة إعمار سورية بعد انتهاء الحرب وهي بوابة واسعة للحصول على عدة امتيازات اقتصادية داخل الأراضي السورية يتم من خلالها بناء مشاريع تضمن مصالحها وخصوصًا على سواحل المتوسط التي تعتبر نقطة انطلاق نحو الغرب، وهي تدرك أن تحقيق ذلك سيتم بالشراكة مع الجانب الروسي الذي يمتلك قاعدة حميميم العسكرية التي ستشكل حاجز حماية أمني للطريق الاقتصادي الصيني الذي سيتم بناؤه في سورية.

وبالنسبة لنظام الحكم في سوريّة، فقد أعلن وليد المعلم صراحة رغبة حكومته في أن تكون البلاد جزءًا رئيسيًا من استراتيجية “الحزام والطريق”، وهو تمهيد واضح لمنح الصين امتيازات كبيرة في الأراضي السورية مقابل استمرار دعم بكين لبقاء نظام الحكم والتأثير في المسار الدولي لتثقيل كفة الأخير بأي حل سياسي قادم. وما يؤكد تصريحات وليد المعلم المعلومات التي حصل عليها مركز “برق” عبر مصادر خاصة أفادت أن “نظام الحكم في سورية قام بإرسال أحد الشخصيات المؤثرة إلى الصين لمناقشة ملف التنقيب عن الآثار من قبل شركات صينية في مدينة طرطوس وصافيتا الساحليتين”.

الاستراتيجية العسكرية في مواجهة الجماعات الإرهابية

من أهم القضايا التي قد تؤدي إلى زيادة فاعلية الصين العسكرية في سورية؛ بسبب وجود الحزب الإسلامي التركستاني بمحافظة إدلب والمصنف من قبل الصين على أنه إرهابي، ويضم المقاتلين “الأويغور” المنحدرين من إقليم “شينغيانغ” في الصين، والتي تسمى بتركستان الشرقية، تم ضمها إلى دولة الصين عام 1949، أما تركستان الغربية فهي تضم دول تركمانستان، كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان، وقيرغيزستان.

دخل المقاتلون الأويغور إلى سورية لقتال قوات نظام الحكم فيها وانضموا إلى جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام”، وأعلنوا عن وجودهم عام 2015 عبر ثلاثة إصدارات مرئية قاموا بنشرها، وشاركوا بفاعلية في معارك تحرير مشفى جسر الشغور بريف إدلب الجنوبي الغربي في ذات العام بالتعاون مع جيش الفتح آنذاك الذي ضم جبهة النصرة وحركة أحرار الشام وعدة فصائل مقاتلة أخرى.

كما انضم عدد منهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية وشاركوا معه في عمليات عسكرية خاضها شرق سورية، وأعلنوا عن وجودهم في صفوف التنظيم من خلال إصدار مرئي أُعلن فيه عن “اعتبار الصين من أهداف الجهاديين”([2]). وبناء على ما سبق اتخذت بكين تدابير وإجراءات تعسفية بحق القاطنين بإقليم شنغيانغ بذريعة مكافحة الفكر المتطرف ومنع الراغبين منهم بالانضمام إلى تنظيمات إرهابية، لكن هذه الإجراءات بقي تأثيرها داخل حدود الدولة.

أما عن الجهود الخارجية للحد من نشاط العناصر المتهمة بالتطرف وخصوصًا في سورية، فقد قام الأدميرال الصيني جوان يوفي عام 2016 بزيارة إلى دمشق “التقى خلالها مسؤولين من النظام، بهدف دعم برامج تدريب لقوات نظام الحكم، وتقديم المساعدات الإنسانية من قبل الجيش الصيني”([3]). في حين أوضحت مصادر إعلامية عام 2015 “إرسال الصين لسفينة عسكرية إلى سورية، تحمل على متنها العديد من مستشارين عسكريين صينيين”([4]). بالمقابل نفت حكومة بكين صحة هذه المعلومات.

من جهة أخرى، يعتمد الجيش الصيني على الالتزام باستراتيجية دفاعية تحول دون إقدامه على التدخل المباشر في أي مناطق نزاع، لكن التحول الذي حدث في عام 2015 هو السماح بإنشاء قواعد صينية تضمن حماية الأمن القومي المصالح الاقتصادية للبلاد سيما المرتبطة بخطة “الحزام والطريق” لذلك تم عقد اتفاق مع حكومة جيبوتي عام 2017 لإنشاء قاعدة عسكرية صينية فيها، وهو ما يعني احتمال عقد اتفاق مشابه مع نظام الحكم في سورية لبناء قاعدة عسكرية أخرى بالتعاون مع روسيا.

وعليه فإن الحكومة الصينية تدرك أن التدابير داخل حدود الدولة يجب أن تترافق مع خطط لمنع الأنشطة الإرهابية في الخارج لكنها ستحاول قدر الإمكان عدم الانخراط بشكل مباشر عسكريًا لتحقيق ذلك، لكن إذا ارتفعت المخاطر المهددة للمصالح الصينية خصوصًا في هذه المرحلة التي تمارس فيها الولايات المتحدة ضغوطات عليها لعقد اتفاق تجاري يحد من نفوذها الجيو-اقتصادي، فإن الصين ستلجأ إلى إجراءات أكثر فاعلية مقترنة بتحركات عسكرية.

تعزيز التحالف الصيني-الروسي-الإيراني

تطمح الصين لدعم علاقة التحالف الاستراتيجي مع روسيا من خلال إيجاد نقاط تقاطع مصالح مشتركة مع موسكو سيما وأن الأولى تعتبر اقتصاديًا من أكبر مستوردي النفط من روسيا، وعسكريًا تقوم بشكل دوري بإنشاء مناورات مشتركة مع الجانب الروسي كان منها تنفيذ مناورات في البحر الأبيض المتوسط عام 2015 لمواجهة أي تهديدات أو مخاطر تعترض مصالح الدولتين على سواحل المتوسط. لذلك فإن حكومة بكين تنظر إلى العلاقات مع روسيا على أنها محورية؛ لكي تضمن لها انخراطًا محدودًا في سورية مقابل ضمان مصالح اقتصادية طويلة الأمد.

أما حول العلاقة مع إيران فبعد توقف بكين عن استيراد النفط الإيراني مؤخرًا بسبب تجديد عقوبات الولايات المتحدة الأمريكية على طهران، فإنها تسعى لإيجاد بدائل حيوية في علاقتها مع إيران التي تعتبر أحد أهم محدداتها استيراد النفط منها، وقد تكون هذه البدائل تكثيف التعاون مع طهران في سورية عبر دعم سياستهم والاصطفاف بشكل أكثر فاعلية إلى جانب مواقفهم المتعلقة بالقضية السورية، ما سينعكس بشكل فعال على زيادة أنشطة طهران في سورية، وسيكون المقابل بالنسبة للصينيين تعزيز حاجز الحماية الأمني لطريق الحرير المار بسورية من خلال الميليشيات الشيعية المدعومة من طهران.

بالتالي ستكون الصين قد تمكنت من تعزيز الشراكة الاستراتيجية في محور (الصين- روسيا- إيران- سوريّة) إذا ما أرادت التوجه للتعامل مع الملفات السابقة، لكن بالمقابل سيبقى التحرك الصيني مرتبطًا بالتأثير الدولي في مسار القضية السورية. فما خياراتها لإيجاد صيغ تفاهم مع الولايات المتحدة تتيح لها بناء شبكة مصالح واسعة في سوريّة والمنطقة؟ وهل ستزيد الصين من فاعليتها العسكرية في سوريّة لمواجهة النشاط الإرهابي للحزب الإسلامي التركستاني؟

([1]) “مبادرة الحزام والطريق الصينية: “فخ أم فرصة” للدول العربية؟”. بي بي سي، 27-4-2019. https://bbc.in/2L8odoR

([2]) “عناصر في “داعش” من أقلية الإيغور يهددون الصين”. DW، 1-3-2017. https://bit.ly/2ZOsLTw

([3]) “ضابط صيني رفيع يزور سوريا”. وكالة الأناضول، 18-8-2016. https://bit.ly/2WZoI53

([4]) “China’s military advisers heading to Syria to help fight ISIS”, RT. 28-9-2015 https://bit.ly/1Vm2RgD

 

رابط المصدر:

https://barq-rs.com/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%A7%D8%B0/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M