د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
للمواطنة مفهوم إنساني وقانوني اقترن بظهور الدولة بمفهومها الحديث يقوم على أساس المشاركة الفاعلة في الشأن العام في ظل دولة قائمة على احترام القانون ودور المؤسسات العامة، ولقد مرت المواطنة كمفهوم بأدوار من التطور فبعد ان كان الإغريق وفلاسفتهم يضيقون من معنى المواطن إلى الحد الأدنى باستبعاد العبيد والعمال والحرفيين والأجانب، وذهب أرسطو إلى ان المواطن من يساهم في الشأن السياسي بشكل مباشر بشرط ان يكون عدد هؤلاء محدود لذا هو اقترح حصرهم بالذكور المولودين لأب وأم من الإغريق من المقيدين بالقيد المدني والقادرين على إعالة تابعيهم، في الوقت الذي اعتبر الرومان المواطنين متساوون أمام القانون بشرط الاعتراف لهم بصفة المواطنة التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن أو بمنحة من الإمبراطور.
بعدها جاء الدين الإسلامي الحنيف برؤية غاية بالرقي حين كرم الله الناس جميعا بلا أي تمييز إلا بالتقوى فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ * إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وهذا الخطاب الإنساني يرتقي بالمواطنة إلى القمة ويجعل منها مفهوماً موحداً بالنسبة للجميع قائم على أساس تعمير الأرض وحفظ كرامة الإنسان قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، والخطاب القرآني شامل للجميع بالتكريم بلا أي تمييز، ثم كفل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التطبيق السليم لمبدأ المواطنة منذ أن شرع وثيقة المدينة وأعترف بها صراحة أن اليهود أمة لها دينها وإنهم والمسلمين شركاء في النصرة والبر بما أنهم جميعاً تحت مظلة الصحيفة.
وللأسف أن ننكص ونحن في القرن الواحد والعشرون في العراق إلى المفهوم الإغريقي والروماني للمواطنة لتكون المواطنة بمعنى المساهمة بالشأن العام فقط لفئة محدودة ممن أعتاد بعد التغيير السياسي 2003 على تقاسم السلطة كالغنيمة بين السياسيين والمتنفذين والنفعيين، والمطالبين بالعيش الكريم كالشباب الواعي المثقف الذي استخدم الحق الطبيعي والدستوري بالمطالبة بالحقوق فلهم الويلات والماء الساخن هدية الحكومة الموقرة بلا استحياء ترسلها إليهم بيد إخوانهم من أفراد القوات الأمنية، غير مأسوف على دق إسفين عدم الثقة بين المواطن وأخوه في قوات مكافحة الشغب، وما جرى ويجري في ميزان المشروعية ينكص فهو يخالف ما كفله الدستور العراقي لعام 2005 في المادة الثامنة والثلاثين التي نصت على أن (تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب العامة:
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون).
وعوداً على مفهوم المواطنة المشتقة أصلاً من كلمة الوطن الذي يعني فيما يعنيه مكان الولادة إذ يأخذ الإنسان من محل ولادته انتماء روحي وقانوني وسياسي وثقافي، حيث تنشأ علاقة قانونية تتمثل بالجنسية التي تميز المواطن عما سواه، والمواطن هو من يتشارك مع غيره هموم الوطن والمواطنة المشاركة في الحياة إذ يتعاقب الأجيال على إقليم الدولة ذاته، والمعنى المتقدم من الوضوح بحيث هو لا يحتاج إلى شرح أو تفسير، بيد إن السؤال لماذا الطبقة السياسية أو صانعو القرار الحقيقي يكونوا أبعد مما يمكن أن نتصور عن هموم الوطن والمواطن؟ ولماذا التغاضي عن معنى الأخوة في الوطن والمصير المشترك؟ فحين يتظاهر أو يعتصم النخبة من المتعلمين فلك أن تتصور أحوال بقية شرائح المجتمع، وحين يجتمع فئة من الشبان في العاصمة بغداد للمطالبة بتوفير أبسط الحقوق الإنسانية… لك أن تتصور أحوال الحقوق الأخرى السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، ولك أن تتصور مصير الوطن إن استمر الحال على ما هو عليه الآن، أفلا يحق لنا السؤال، ما هي واجبات الدولة إزاء الشعب؟ ومن المسؤول عن توفير سبيل العيش الكريم والحياة الحرة؟.
المواطنة التي نتحدث عنها تعني فيما تعنيه الاعتراف للمواطنين بالدستور والقوانين بالحقوق والحريات العامة والخاصة التي يشترط أن تكون متساوية بالنسبة للجميع، دون أي تمييز ولأي اعتبار قد يتعلق بمكان الميلاد أو ممارسة العمل أو الانتماء السياسي أو العقيدة السياسية، أو هي علاقة إنسانية وقانونية بين الفرد (الشخص الطبيعي) والمجتمع يدين الأول بالولاء للثاني ويتكفل المجتمع للفرد بالحماية، ولابد من تأطير ما تقدم قانونياً بالنصوص التي توضع في الوثائق القانونية الدستورية والعادية، ومن مستلزمات المواطنة الحقة ما يأتي:
أولاً: سيادة القانون على الجميع بلا أي تمييز ولأي سبب كان.
ثانياً: المساواة الحقة بين المواطنين بدون أي تمييز ولأي سبب كان.
ثالثاً: التفاعل الإنساني بين المواطنين الذين يتشاركون العيش وهموم الوطن. فالمواطنة تعني الانتماء المشترك لفئة من الناس لوطن تتأتى من الإقامة المشتركة والشعور الإنساني بضرورة حماية الوطن وازدهاره أي وجوب أن تكون هنالك علاقات إنسانية تتنامى بالشعور المشترك بالهموم الفردية والجماعية على حد سواء فلا يضحى بالفرد لأجل الوطن كما يعبر عن المواطنة في المفهوم الاشتراكي ولا أن نمنح الحرية بلا قيود للفرد على حساب المجموع بالمفهوم الليبرالي بل المواطنة التوازن بين الفرد ومصالحه والمجتمع ومتطلبات سعادته الجماعية، وبهذا تصبح المواطنة مفهوم إنساني يحفظ التوازن بين الفرد والدولة، بيد أن المفهوم المتقدم يغيب دائما عن الطبقة الحاكمة في العراق فهم يطالبون الأفراد بالشعور بالمسؤولية تجاه الوطن وينأون بأنفسهم وأهليهم وأتباعهم عما تقدم إذ ينعمون بخيرات البلاد وجلهم بلا كفاءة أو مؤهل يعتد به ويتعاملون مع حملة الفكر أو المطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية بالتنكيل لإسكات أي صوت يمكن أن يرتفع من شأنه أن يشحذ الهمم ويكشف المستور من فسادهم فيشكل عامل زوال يهدد بقاءهم في عرش السلطة.
ونرى إن السبب الحقيقي الذي يبرر عدم نشوء مفهوم عراقي بالتحديد للمواطنة على غرار المفهوم الليبرالي أو الأوربي أو الاشتراكي أو القومي الذي نلحظه عند بعض دول الجوار هو:
أولاً: حداثة نشأة الدولة التي يراد لها أن تكون مؤسساتية يعلو فيها القانون بعد سلسلة الانقلابات والحروب المدمرة، ومحاولة الحكام بعد العام 2003 ترسيخ جذور الحكم ولو كان ذلك على حسان المواطن فالاعتراف للأخير بالحقوق يلي قيامه بالواجبات، ويلي وجود الدولة واستمراريتها، وبالتالي يجري تصوير الأمر على أن بقاء الدولة أهم من المواطن فهو كالحطب يحترق لتتوقد شعلة الدولة، في حين إن الأمر ينبغي أن يكون معكوساً، فالمواطن يسبق قيام الدولة ويفترض بها أن تقوم لتحقق له السعادة لا الشقاء، والأهم بقاءه وسعادته لا بقاء القصور المنيفة التي يسكنها حفنة من السياسيين المتنعمين هم وأسرهم على حساب شقاء المواطن.
ثانياً: العامل الثاني محاولة الحكام ترسيخ مفهوم مشوه للدولة يقوم على تأكيد رعاية الدولة الأبوية التي تستقطب الشباب للعمل وتلقي بهم فيما بعد وقد خارت قواهم وتحولوا إلى كهول وشيبة لم يعرفوا شيئاً سوى العبودية للمسؤول تحت شعارات زائفة، وتصوير الأمر على إن الفشل الذريع سيلحق بالمواطن إن عمل لمشروعه الخاص، أو انقاد للسفر بحثاً عن الرزق لهذا تم تحطيم الصناعة والزراعة في العراق بشكل مدروس، وبذلك يضمنون أن تحتكر الدولة سبل العيش فيشعر المواطن أن لا سبيل أمامه إلا أن يطرق باب الدولة ليعمل في مؤسسات تعشعش فيها مفاهيم الاستبداد والبيروقراطية المقيتة فينشأ جيل من المواطنين سلبي في كل شيء، بما في ذلك محاولة الوقوف بوجه الاستبداد، أو المطالبة بالإصلاح الحقيقي على الصعيد الوظيفي أو المجتمعي أو السياسي بل أن فئة كبيرة منهم يهمها بقاء الأمر على ما هو عليه لارتباطها بالمنظومة الخاطئة المسيطرة.
ثالثاً: سيادة حالة الفساد السياسي بالدرجة الأولى والإداري والمالي بشكل ملفت للأنظار وتحوله إلى ثقافة مجتمعية تتماهى مع مجاملة الفاسدين في المجتمع وتستقبلهم بالورود وكأنهم فاتحين ثم تصب جام غضبها على من يحاول كسر حواجز الخوف والمطالبة بالإصلاح وتغيير الوضع المأساوي للوطن والمواطن.
وما تقدم تدعمه العديد من العوامل التي تسببت في استمرار حالة المواطنة المقلوبة أو المعكوسة منها (الماضي الاستبدادي الذي عاشه المواطن العراقي، تقلبات الاقتصاد العالمي نتيجة ربط اقتصاد العراق بسعر برميل النفط ما خلف خوفاً مزمناً حتى عند بسطاء الناس ممن لا يعرف القراءة والكتابة أصلاً، حالة الفقر والتهميش التي تعيشها الأسر التي لا تملك حبل وصل بالأحزاب الحاكمة المتحكمة بالقرار، حالة الاستبداد التشريعي الذي يمارسه مجلس النواب بوضع قوانين انتخابية بائسة لا تتيح للمواطن التغيير الحقيقي من خلال صندوق الانتخابات ما أفرغ مفهوم التداول السلمي للسلطة والسيادة الشعبية من محتواها الحقيقي وجعلها مجرد ستار اختفي وراءه الغايات الحزبية الضيقة والمصالح الفئوية التي تفوح منها رائحة مصالح أفراد وأسر بعينها هيمنت على مقاليد السلطة السياسية والدينية في البلد واحتمت بالوطن والمواطن)، وفي النهاية مطلوب من الشباب أن يقتات من فضلات موائد أحزاب السلطة بالتقرب والتزلف لها ليحصل على فرصة عمل لا تتيح له العيش الكريم بقدر ما تبقيه على قيد الحياة فحسب، حياة ملئها الولاء والطاعة لبعض السياسيين المتجلببين بعباءة الدين والوطن.
رابط المصدر: