عندما أعلن الرئيس ترامب انسحاب الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا، تخلّى بذلك عن القوات الكردية التي حاربت إلى جانب الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» لصالح تركيا ومهّد الطريق لاحتمال عودة “النسخة الثانية” من تنظيم “داعش“. وبصرف النظر عن الأبعاد الأخلاقية والإنسانية لهذا القرار، أظهرت التطورات اللاحقة أنه كان قراراً متهوراً. فقد جاء ككارثة أظهرت إلى جميع أعداء الولايات المتحدة وحلفائها أنه لا يمكن الاعتماد إلى حد كبير على القوة العظمى الوحيدة في العالم كونها متقلّبة على نحو غير مسؤول. وربما الأسوأ من ذلك كان القرار غير مترابط مع الأسس الاستراتيجية لإدارة ترامب الواردة في “استراتيجية الأمن القومي” الأمريكية لعام 2017. وكان من المفترض أن يكون التنافس بين القوى العظمى هو برنامج العمل السائد اليوم، ولكنّ التحركات في سوريا كانت بمثابة تنازل واضح لكل من روسيا وإيران.
وفي خضمّ الصخب العام ضاع النظر في الآثار المحدّدة لقرار ترامب. ويمثّل العراق دراسة حالة جيّدة. فعلى الرغم من حديث ترامب عن الانسحاب من الشرق الأوسط ككلّ، تبقى الولايات المتحدة منخرطة في العراق في المستقبل القريب. وبالفعل، سيتم نقل عدد من القوات الأمريكية من سوريا إلى العراق، مع استمرار الولايات المتحدة في تقديم دعمها لجهود مكافحة الإرهاب التي تقوم بها بغداد. وعلى الرغم من أن الالتزام الأمريكي تجاه البلاد – وتجاه الشرق الأوسط على نطاق أوسع – أصبح أكثر غموضاً على المدى الطويل في ظل الأحداث الأخيرة، إلا أنه يجدر دراسة الرهانات الجيوسياسية في العراق، خاصة فيما يتعلق بروسيا، لكي يتم بشكل أوضح فهم الكيفية التي يتم تعرض هذه الرهانات للخطر من خلال الخطوة الأخيرة التي اتخذها ترامب.
هناك عناصر للقوة الناعمة والقوة الصارمة تتّسم بها الاستراتيجية الروسية في العراق، وكان لها تأثير ملموس لفترة من الوقت. فالكرملين يقوم بعقد صفقات وبناء علاقات في مجال الطاقة، والهياكل الأمنية، والمشهد الإعلامي في البلاد، ومع الحكومة أيضاً. وعندما استضاف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف نظيره العراقي محمد علي الحكيم في موسكو في كانون الثاني/يناير 2019، قال: “نحن مهتمون جداً بزيادة علاقاتنا التجارية والاقتصادية والاستثمارية”. وحول زيارة لافروف للعراق قال السفير العراقي في روسيا حيدر منصور هادي إن زيارة الوزير الروسي لا تُظهر فقط اهتماماً بتطوير علاقات أفضل مع العراق، بل “بتسوية الأوضاع في المنطقة” أيضاً. وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها لافروف إلى بغداد وإربيل هذا الشهر، قال إن روسيا والعراق يشاركان الرأي نفسه حول سوريا.
لقد تجاوز إجمالي استثمارات روسيا في مجال الطاقة في العراق 10 مليارات دولار، نتيجةً لسنوات من جهود الكرملين للعودة إلى العراق بعد حرب عام 2003، حين قامت الحكومة الجديدة في بغداد بإلغاء العديد من عقود الطاقة المبرمة مع روسيا في عهد صدام حسين. وفي شباط/ فبراير 2008، شطبت موسكو الجزء الأكبر من ديون العراق من فترة الحقبة السوفييتية البالغة 12.9 مليار دولار مقابل عقد اتفاق في مجال النفط بقيمة 4 مليارات دولار شمل الوصول إلى “غرب القرنة 2″، أحد أكبر حقول النفط في العالم.
وفي عام 2012، دخلت شركتَي “لوك أويل” و”غازبروم نفط” الروسيتين سوق الطاقة في “كردستان العراق” وفازتا بعدد من العقود. وبعد ثلاث سنوات، ومع بدء شركات الطاقة الأمريكية بتقليص وجودها جزئياً [في العراق] بسبب المخاوف الأمنية، قامت «حكومة إقليم كردستان» بدعوة المزيد من الشركات الروسية. ووقّعت شركة النفط الروسية العملاقة “روزنفت” التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات في عام 2014، عقوداً نفطية مع كلّ من بغداد و«حكومة إقليم كردستان». كما قدّمت موسكو قرضاً لـ «حكومة إقليم كردستان» بقيمة 3.5 مليار دولار، يتم سداده مستقبلاً لشركة “روزنفت” عن طريق النفط. وأعاد هذا التمويل شريان الحياة المالي لـ «حكومة إقليم كردستان» في عزّ مشاكلها ووفّر لها درجة من النفوذ تجاه بغداد التي تريد السيطرة على مبيعات نفط «حكومة إقليم كردستان»، ولكن عليها الآن التعامل مع “روزنفت” بشأن هذه المسألة. بالإضافة إلى ذلك، اشترت الشركة الروسية حصة كبرى في خط أنابيب نفط تابع لـ «حكومة إقليم كردستان» يصل إلى تركيا ووافقت على بناء خط أنابيب موازٍ للغاز. وبالنسبة لموسكو، تُعتبر الطاقة أداة للسياسة الخارجية إلى حد كبير، ويكون للسيطرة على خط أنابيب تداعيات استراتيجية طويلة الأجل، ليس لـ «حكومة إقليم كردستان» وبغداد فحسب، بل لتركيا أيضاً.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2013، بدأت موسكو بتسليم الأسلحة إلى العراق كجزء من صفقة أسلحة بقيمة 4.2 مليار دولار، أعيد إحياؤها بعد انسحاب العراق منها في العام الذي سبق، بسبب مزاعم بالفساد. وفي أوائل عام 2014، أرجأت واشنطن تسليم طائرات مقاتلة من طراز “أف-16” وطائرات هليكوبتر من طراز “أباتشي” إلى العراق بسبب مماطلة الكونغرس من جهة، وعدم تزامن العملية البيروقراطية الطويلة للبرنامج مع الوضع الفوري على الأرض من جهة أخرى. وفي هذا الصدد، ناشد رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي بوتين الذي وفّر بسرعة 12 طائرة مقاتلة إلى بغداد، دون أيّ قيود. ووصلت الدفعة الأولى من طائرات “أف –16” في تموز/ يوليو 2015، وأعقبتها المزيد من الطائرات على مرّ السنين. ولكن الأمر الأكثر أهمية هو احتياج العراقيين أيضاً في أوائل عام 2014 إلى قيام الولايات المتحدة بتوجيه غارات جوية ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنّ البيت الأبيض أرجأ القيام بذلك حتى آب/ أغسطس من العام نفسه. وخلال المحادثات التي أجريتُها في بغداد الشهر الماضي، لا يزال العراقيون يتذكرّون السرعة التي وصلت فيها الأسلحة الروسية في وقت كانوا بأمسّ الحاجة إليها. وقد ساعد تسليم موسكو السريع للأسلحة في تشكيل تصوّر لبوتين كشخص ساعد العراق في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية».
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2015، بعد أيام من إعلان موسكو تدخلها في سوريا، افتُتح في بغداد مركز جديد لتبادل المعلومات الاستخباراتية، ضمّ موظفين روس وإيرانيين وسوريين، بمشاركة أفراد من «حزب الله»، بهدف توفير معلومات استخباراتية عن الغارات الجوية التي تستهدف مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الواقع، لم يحقق المركز شيئاً في هذا الصدد، لكنه نجح بدلاً من ذلك في إعطاء موسكو سبباً مشروعاً للحفاظ على وجود استخباراتي لها في العراق.
وبالكاد تبدو موسكو وكأنها الجهة المهيمنة في العراق، ولكنّها تبنت تصوراً بأنها، بخلاف الولايات المتحدة، لا تعِد بالكثير – ولكنها، عندما تعطي وعوداً تفي بها. ومنذ كانون الأول/ ديسمبر 2018، بدأ التخطيط لإعادة فتح المركز الثقافي العراقي-الروسي في بغداد، الذي أغلقته موسكو في عام 2003. وفي هذا السياق، تسهم قناة “آر تي العربية” في تشكيل صورة إيجابية عن الكرملين، ويعتبر العراقيون هذا المنفذ الإعلامي مصدراً مشروعاً للمعلومات. ومن بين ادعاءات قناة “آر تي العربية” أن روسيا قاتلت تنظيم «الدولة الإسلامية» بصورة مستمرة. كما تُظهر موسكو نفسها أيضاً كدولة تهتم بحقوق الإنسان من خلال إعادة أطفال المواطنين الروس الذين انضموا إلى التنظيم في العراق وسوريا [إلى روسيا]. وفي الوقت نفسه، علّقت الحكومة العراقية بث قناة “الحرة عراق” الممولة من قبل الولايات المتحدة بعد أن بثّت ادعاءات بالفساد الذي يكتنف رجال الدين.
وتوفّر موسكو لطلاب الجامعات العراقية عدداً صغيراً من المنح الدراسية للدراسة في روسيا، ولاحظ لافروف أن “عشرات الدبلوماسيين من العراق يشاركون في دورات تدريبية خاصة في “الأكاديمية الدبلوماسية” بوزارة الخارجية الروسية”. وفي هذا السياق، وقّع وزير التعليم العالي العراقي قصي السهيل مذكرة تفاهم في أيلول/ سبتمبر لزيادة المنح الدراسية الروسية للعراقيين وتوسيع نطاق التعاون. يُشار إلى أنّ العراقيين يميلون بشكل عام إلى تفضيل الدراسة في الغرب، إلاّ أنّ التكاليف الباهظة والعقبات البيروقراطية غالباً ما تقف في طريقهم. بالإضافة إلى ذلك، تلقّى العديد من كبار الضباط في الجيش العراقي، ممن لديهم خبرة في العراق ما قبل عام 2003، تدريبات في الاتحاد السوفيتي، خلافاً للجيل الأصغر سناً الذي عمل بشكل أساسي مع الولايات المتحدة.
وتواجه موسكو منافسة في العراق من إيران، لكنّ الروس يميلون إلى محاولة التعاون مع إيران بدلاً من العمل تجاه أهداف متعارضة. وقد وحّدت معاداة أمريكا والمعارضة المشتركة للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط كلا البلدين لسنوات، غير أنّ البلدين لم يكونا متّسقان على هذا النحو لقرون، ولكن الحرب في سوريا، على وجه الخصوص، رفعت الشراكة إلى مستويات غير مسبوقة.
كما تعمل بغداد على توسيع نطاق التواصل مع الصين كجزء من جهد أوسع نطاقاً لتمويل إعادة الإعمار. ومع استمرار تزايد شهية بكين للطاقة، فستوجه أنظارها نحو الشرق الأوسط بصورة متزايدة. ووفقاً للأرقام العليا، تُعد تجارة روسيا الثنائية مع العراق التي تبلغ 1.7 مليار دولار ضئيلة مقارنة بالأعمال التجارية التي تقوم بها بغداد مع بكين والتي تبلغ قيمتها 30 مليار دولار. ومع ذلك، حينما يتعلق الأمر بتطوير الأمن والطاقة، يلجأ العراق إلى موسكو بدلاً من بكين.
وبالنسبة للكثير من الأمريكيين، ثمة شعور عميق بالإرهاق من العراق. وما لا يدركه الكثيرون هو أنه على الرغم من مشاكل البلاد، إلّا أن بعض الحريات المكتسبة بشق الأنفس قد ترسخت منذ سقوط صدام، الطاغية الوحشي الذي أُعجب علانية بجوزيف ستالين. ويواجه العراق اليوم العديد من التحديات الرهيبة، ولكنّ العراقيين لا يخشون طرح أسئلة صعبة على حكومتهم في المنتديات العامة، وهو أمر شاهدْتُه بنفسي خلال رحلتي الأخيرة. ومن الصعب أن نجد ذلك في أي دولة في الشرق الأوسط الكبير، باستثناء إسرائيل وربما تونس. وفي تطور إيجابي آخر، تُظهر استطلاعات الرأي أن الطائفية في العراق قد تراجعت في السنوات الأخيرة، مع تزايد عدد المواطنين الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم عراقيون أولاً.
تجدر الإشارة إلى إنّ الانسحاب الذي أعلنه الرئيس ترامب يلحق أضراراً جسيمة بمصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير، ولكنّ واشنطن لا تزال قادرة على الانخراط في العراق – ويجب عليها أن تفعل ذلك، ليس فقط لضمان الأمن ومواجهة النفوذ الإيراني (الذي ما زال يُعد ذو أهمية للبيت الأبيض كما يُفترض)، بل النفوذ الروسي أيضاً، حيث تُعتبر روسيا واحدة من المنافسين الصاعدين المحددين في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية.
ولن يكون هذا الانطلاق سهلاً، ولكن إذا استمرت الولايات المتحدة في عدم إعطاء الأولوية للعراق، فمن المؤكد أن يضيع هذا الانطلاق أمام المد الاستبدادي المتصاعد الذي يجتاح المنطقة. يجب أن نتذكر أولاً، الحقيقة البديهية القائلة بأن ما يحدث في الشرق الأوسط نادراً ما يبقى في الشرق الأوسط.
رابط المصدر: