لا يمكن لأية دولة في العالم أن تعيش منعزلة عن سياق العولمة الجارف الذي يخترق الحدود والسيادات، ولذلك تدخل في علاقات مع الجوار الإقليمي والعالمي في إطار منظَّم أكثر ما يميزه حساب المكاسب والخسائر التي تنعكس على كافة قطاعات الدولة الحيوية. وعلى هذا الأساس ينطلق عمل التقييم لأي نشاط حكومي، وترتكز منهجية التدقيق في اتباعه لأنجع الطرق التي تسمح باتخاذ القرارات الصائبة بعد دراسات وافية تأخذ بعين الاعتبار نقاط الضعف والقوة في القطاعات جميعها وخاصة الاقتصادي منها الذي يمثِّل القطاع الأكثر حيوية الآن في سياق التفاعل والاعتماد المتبادل مع العالم.
انطلاقًا من هاتين النقطتين، فإن إشكالية البحث تسعى للإجابة على سؤال محوري بالنسبة للحالة الجزائرية، وهو: إلى أي مدى تم احترام سياقات التفاوض وربط الاتجاه للتوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 2005 بأبجديات التقييم العلمي للاقتصاد الجزائري وتحديد نقاط القوة والضعف فيه تحسبًا لانعكاسات محتملة إذا تم التوقيع على تلك الاتفاقية؟ وهل تم التدقيق في مكاسب الجزائر وخسائرها المحتملة إذا وقَّعَت على مثل تلك الاتفاقية اعتمادًا، بصفة خاصة، على تجربتي تونس والمغرب السبَّاقتين إلى الدخول في سياق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي؟
لمقاربة هذه الإشكالية وتحليل أبعادها، ركزت الدراسة على العناصر التالية:
– السياسات العامة: أسس واقعية لمقاربة ناجعة.
– العلاقات الجزائرية-الأوروبية: السياق التاريخي، رؤية وتقييم.
– الاقتصاد الجزائري: نقاط القوة والضعف.
– مضمون سياق الشراكة المعروض من الاتحاد الأوروبي.
– الجزائر واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي: الواقع الاقتصادي وتقييم الأداء التفاوضي.
– تقييم الأداء الحكومي من خلال اتفاقية الشراكة.
– آفاق الاتفاقية ووضع أسس لسياسات عامة رشيدة.
سعت الدراسة إلى البحث في سياسة عامة تفاوضية لإقرار اتفاقية شراكة حيوية بين الجزائر وقطب اقتصادي كبير هو الاتحاد الأوروبي تأسيسًا، بصفة تراكمية، على الحالة الانكشافية التي يوجد فيها الاقتصاد الجزائري بفعل الضعف الهيكلي الناجم عن سياسة الريع النفطي، من ناحية، والحالة المزرية التي خرج بها من العشرية السوداء بعد تدخل الجيش لإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1991.
وقد تم تصور تلك التراكمية الانكشافية اعتمادًا على عناصر مهمة تنطلق من حقيقة العلاقات الجزائرية-الأوروبية، في سياقها التاريخي، ثم دراسة الوضع الاقتصاد الجزائري من حيث ضعفه وتنافسيته وتنوُّعه وجاذبيته للاستثمارات الخارجية ونسبة انخراطه في سياق العولمة، وصولًا إلى قراءة في تقارير دولية من حيث نسبة الحرية في التعاملات/المعاملات الاقتصادية الجزائرية.
وخصلت الدراسة إلى أن الجزائر دخلت المفاوضات لإقرار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي دون أدنى دراسة لأوضاعها الاقتصادية بل ودون التدقيق في نقاط القوة والضعف فيه مما يدل على غياب حوكمة رشيدة للاقتصاد، وهو أمر يمكن الإشارة إليه في تسيير شؤون البلاد منذ سنوات الاستقلال الأولى، حيث تم اتخاذ قرار بالإبقاء على جميع الملفات في أيدي جماعة واحدة استحوذت على مقدرات الجزائر، وتتمثل في “المنظومة الاستبدادية” بكل حذافيرها تعمل في إطار ضبابي تحقيقًا لمصالحها العليا، وهي البقاء في الحكم من خلال تلك المنظومة بــ”نخبة” -يمكن تسميتها فريقًا أو جماعة لتضمُّن مصطلح النخبة معنى الصفوة- بمميزات لا نجدها في المشرفين على شؤون البلاد.
إن مجرد النظر في مسار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي (أوروبا عمومًا) يطلع على مدى تجذر المنظومة الاستبدادية؛ إذ لا يعقل أن تربط علاقات بين الطرفين دون أدنى حساب للمكاسب والخسائر إلا ما كان متصلًا ببقاء تلك “النخبة” في الحكم مما يضفي على جميع أعمالها عدم الرشادة المطلقة. إن عملية تقييم الأداء التفاوضي بأوضاع متردية على شاكلة تلك التي عليها الاقتصاد الجزائري المختل هيكليًّا، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الحكم بأن السياسة العامة المنتَهَجة منتِجة للفشل، وهو رهان تلك المنظومة باعتبار الجدلية القائمة الآن في العالم العربي وفي الإدراك المرسَل من قِبل القائمين على تلك المنظومة إلى العالم الخارجي والمواطنين على حد سواء، والتي ترتكز على: إما الاستقرار بتلك المنظومة مهما بلغت الخسائر والتنازلات للقوى الدولية، وإما الانطلاق في مغامرات “الانتفاضات” مثل التي حملت تسمية “الربيع العربي” والمنتهية حتمًا بأحد السيناريوهات المحتملة (أو النتائج الماثلة أمامنا): فوضى، وتفكك لأوصال الدولة، والجمود السياسي، وفشل الدولة بل احتمال زوالها، وانقلاب أو حرب أهلية.
رابط المصدر:
http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/10/191015071337794.html