لماذا لم يعد هناك أينشتاين

شادي عبد الحافظ

حسنًا، هناك حقا مشكلة، سوف أبدأ في عرض جوانبها الكارثية بعد قليل، لكن قبل الخوض في تأملها دعني أولاً أوضح أنني لا أقصد أينشتاين تحديدًا، فأينشتاين نفسه –مثله مثل موزارت و شيكسبير– قد صُنعت حول عبقريته هالة من القداسة المرتبطة بالفانتازيا وأفلام الخيال العلمي أكثر من الواقع، فتصوراتنا الحالية عن أينشتاين لا تعبر عن أينشتاين ذاته، عن هذا الباحث الدؤوب الذي بذل كمًا عظيمًا من الجهد والتركيز في سبيل العمل على موضوع محدد.

ما أقصده إذن هو التساؤل الهام للغاية عن فقداننا على مدى أكثر من مائة عام لثورة معرفية كتلك على يد شخص ما، قفزة نظرية كالنسبية أو الكوانتم. في الحقيقة، يمكن القول إن الأجواء في مجتمع الفيزياء، والوسط العلمي كله، رغم المكتشفات العظيمة الأخيرة، قد أصبحت بائسة أكثر من ذي قبل. دعني أبدأ في عرض أربعة مما أظن أنه مجموعة من الأسباب الجوهرية للإجابة على السؤال عنوان المقال.

انشر، ثم انشر، ثم انشر

يقول بيتر هيجز، الحاصل على نوبل في الفيزياء 2013 للجارديان منذ أيام قليلة، إنه لم يكن ليتوقع وجود البوزون هيجز في ظل المناخ الأكاديمي الحالي الذي يغيب عنه الهدوء و السلام، في خضم معترك هائل من التنافس بين الباحثين ومؤسساتهم. أضف أنه في استفتاء ضخم بدورية نيتشر أكتوبر الماضي، وبعد تحليل النتائج ونشرها، أكد الباحثان برنارد ماهر ومايكل أنفراس أن درجة التوتر والضغط في أوساط البحث العلمي قد ازدادت كثيرًا بسبب ارتفاع درجة التنافس، بينما انخفضت كميات الإنفاق الحكومي على البحث العلمي في العديد من الدول. الآن يخشى الجميع فقدان وظيفته فقد يصل آخر إلى النتائج قبله، وربما يُغلقون مكتبه و يتحول فيما بعد لغرفة أرشيف، ياللرعب!

لقد أصبح الباحثون الصغار محملين بمهام عديدة بجانب البحث؛ كمسؤوليات التعليم والأمور الإدارية وضرورة الخروج للترويج لأبحاثهم والبحث عن تمويل. بل إن 38% فقط من وقت عمل الباحث حسب الدراسة يكون للبحث العلمي؛ مما يقضي على ما نعرفه عن الإبداع، وهل يحتاج لإبداع في العلوم شيئًا آخر غير التركيز؟!، كيف يمكن أن نحصل على ذلك بينما يشتعل التنافس يومًا بعد يوم في الوسط العلمي، ويزداد الضغط على باحثي الدكتوراه الصغار، لا للبحث العلمي، لكن للنشر فقط؟.

حينما يتحول العلم إلى وظيفة ذات مهام إدارية يتوقف الإبداع عن العمل. في حوار قريب معه يقول أندري جيم الحاصل على نوبل في الفيزياء 2010 إنه لم يستشعر سعادة العمل في الفيزياء ويبذل جم جهده فيها إلا حينما أصبح باحثًا مستقلاً.

نعم، إن الضغط المطرد على الباحثين للنشر من أجل الحفاظ على استقرارهم الوظيفي يدفع بهم للاهتمام بعدد الأبحاث أكثر من الاهتمام بالبحث العلمي ذاته، لا اهتمام إذن بفكرة البحث عن المعرفة كهدف، ولا يمكن الاستمتاع بالتعلم في أجواء كتلك، ولا بضرورة العمل لفترات طويلة على أفكار بعينها لتنضج أكثر، النشر العلمي إذن هو مهمة إدارية أخرى كمهام موظف في الشهر العقاري. لكن، أود هنا التعمق قليلًا في أسباب أظن أنها أكثر جوهرية وعمومية من ذلك.

قطف الثمار قبل النضج

أتذكر جيدًا ذلك المشهد؛ أدريان روموف ابن الـ 9 سنوات والموهوب للغاية في لعب البيانو وفي العلوم، الذي سوف يدخل للجامعة بعد سنتين فقط، لكنه قبل ذلك قرر أن يجرب حظه في America’s Got Talent ويعزف لهم مقطوعة ساحرة في لقائه الأول معهم ليصبح نجم مجتمع في ليلة وضحاها.

أدريان لم يلتفت بعد ذلك لدروس البيانو والعلوم، لكنهم سحبوه لعالم الشهرة، ليقدم نفس العرض في أكثر من مكان ثم ليدور العالم من فلوريدا لطوكيو مقدمًا نفس المقطوعة، فالمنتجون يخشون أن يقدم أدريان أي شيء جديد آخر قد يقلل الإقبال عليه خاصة مع طابعه الغريب. بعد عامين من تكرار نفس النوتة الشهيرة يخفت نجم روموف ويصبح مملًا، لا أحد يريده الآن فهم يريدون «الجديد» دائمًا.

دعنا نلخص تلك الحكاية المكررة في بعض الأسطر: في البداية يظهر أحدهم بفكرة بديعة، في الوسط العلمي أو خارجه. باحث ما، في جامعة ترغب في بعض الشهرة، يظهر بفكرة ساحرة تستحق بعض العمل المركز عليها لتصبح عملاً رصينًا. يلتقط تلك الفكرة إعلامي شهير فيعرف فورًا أنها فرصته ليصنع نجم مجتمع جديد، يطلقون عليه بعد قليل لقب Next Einstein في الدايلي ميل ونيوساينتست وصفحة 9Gag.

يظهر مع أوبرا وريتشل راي وديفيد ليترمان وفي برنامج ET ليقف بجانب كيم كارديشيان في حفلة لمجلة الفوج، يظهر في تيدكس ويتحدث عن توقعات لم تكن لتحدث دون جهد. هنا يلتقطه ناشر ما، ثم يخرج لنا كتابه الأول، ثم الثاني الذي هو نسخة من سابقه مع عنوان هلامي مختلف. يظهر في البرامج الصباحية ليذكرنا للمرة الألف بحجم الكون ووظيفة البوزون هيجز.

هنا يزداد الضغط عليه، يحضر المزيد من الحفلات والمؤتمرات والندوات الطويلة المملة، بعد قليل يصبح موضة قديمة، ثم يُهمل ككتاب فيزياء جسيمات يعود تاريخ نشره لسنة 1935، يكتئب، لقد ضيّع بالفعل من الوقت والتركيز ما كان يجب أن يقضيه في العمل على فكرته وتطويرها، يحاول العودة لأجواء الشهرة بفكرة جديدة لامعة لكنه يفشل من أثر ضغط ذاته عليه، انتهى.

واحدة من أكبر المشكلات المعاصرة في الوسط العلمي وخارجه هي التسرع، فنحن نرغب دائمًا في قطف الثمار قبل نضجها لنحقق مكسبًا أسرع. يحدث ذلك في البرامج الإمتاعية وفي الجامعات بنفس القدر، بالفعل نحصل على إنتاج سريع لكننا لا نحصل على أينشتاين في المقابل. الثمرة التي أخذت من الوقت والجهد والسلام ما يكفي لكي تصبح شيئًا يستحق أن يصنع تغييرًا حقيقيًا.

معضلة إيلون ماسك

مع ضغط الحياة في مجتمع تحكمه حركة رأس المال والشهرة بشكل يصبح أكثر توترًا كل يوم، تتحول أمنيات المراهقين المستقبلية نحو إيلون ماسك وليس نحو أينشتاين. هو لا يريد أن يصبح كأينشتاين أو فاينمن، لكنه يريد أن يصبح رائدًا للأعمال كجيتس أو جوبز أو ماسك.

ماسك – على العكس من جوبز وجايتس – هو النموذج الأكثر قربًا لمحبي العلم، فهو يصنع سيارات تسلا الكهربائية وصواريخ يمكن إعادة استخدامها، ويظهر في كل وسائل الإعلام تقريبًا ليصرح بأن الكون كما نعرفه ما هو إلا محاكاة حاسوبية. في مقابل تلك الأجواء الأكثر إثارة و المسكونة بالملايين والمليارات وأحلام الثراء السريع، تواجه الفيزياء النظرية أزمة واضحة في الاهتداء إلى طريق جديد.

لقد ظهرت نظرية الأوتار منذ ما يقرب من 30 عامًا والتف حولها الكثير من الباحثين الصغار ولازلنا في حالة من الضبابية. العديد والعديد من الأبحاث لكن لا تقدم نوعي. يقول جون الياس عالم الفيزياء النظرية بسيرن لـ هاليت جارليت في حوار حول أزمة الفيزياء النظرية:

«لا نزال نمر بفترة من الضبابية، في السابق كنا غير متأكدين بشأن كيفية إكمال نظرية النموذج القياسي. والآن، بعد اكتشاف هيجز بوزون، نعلم أنها مكتملة إلى حد كبير، لنتمكن من التركيز على أسئلة تتجاوزها، المادة المظلمة، مستقبل الكون، بداية الكون، وأمور صغيرة كهذه».

الآن يهرع الباحثون من الفيزياء النظرية للتجريبية، أو يتركون الفيزياء ككل ويتجهون للكيمياء أو البيولوجيا. تُرى، في ظل أجواء كتلك، كيف يمكن أن يكون اختيار مراهق للاستمرار في الجامعة؟!

إحدى أشهر الدراسات في تلك النقطة نشرت في الجورنال الأسترالي لمعلمي العلوم عن انخفاض الإقبال على تعلم العلوم والرياضيات في المرحلة الثانوية في مقابل ارتفاع مطرد في الإقبال على تعلم إدارة الأعمال. يقول التقرير، إنه رغم ارتفاع أعداد الطلاب في نفس المرحلة الدراسية بين عامي 1992 و 2012 بـ 16% إلا أن إقبال الطلبة على تعلم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا انخفض بشكل درامي. في 2012 ازداد عدد الطلاب عن 1992 بمقدار 30800 طالب بينما انخفض عدد الطلاب في أقسام الفيزياء بـ 4000 طالب والكيمياء بـ 8000 طالب والبيولوجيا بـ 12000 مقارنة بأرقام سنة 1992. بحث بسيط في جوجل سوف يعطيك فكرة سريعة عن كم التدني المهول في إقبال المراهقين على العلم في الولايات المتحدة وأوروبا.

لا، ليس فقط نظام التعليم

ليي سمولن، الفيزيائي الشهير، في مقال لا زال صداه يتردد إلى الآن رغم أنه نشر في مجلة Physics Today منذ ما يقرب من 10 سنوات بعنوان «لماذا لم يعد هناك أينشتاين؟»، يؤكد أن المشكلة الرئيسية التي تواجه الباحثين الصغار هي نظام التعليم بما يحتويه من برامج بحث خاطئة لا تتمكن من تمييز الموهوبين عن غيرهم.

بالفعل تلك مشكلة هامة، فآليات التمييز بين الطلبة لا تزال تندرج حول القدرة على الإنتاج، عدد الأبحاث، بينما تستحق الأفكار الأصيلة والمختلفة وقتًا أطول في التأمل والعمل عليها، خاصة تلك التي تود ربما أن تخترق برنامج البحث العلمي القائم لآخر جديد، ثورة علمية بتعبير توماس كون.

كذلك تواجه تلك الأفكار المختلفة كمًا لا بأس به من المقاومة في الوسط العلمي، تاريخ ذلك النوع من الرفض طويل ومطرز بالعديد من الأمثلة الشهيرة، تكون النتيجة الكارثية إذن هي عكس ما نود تحقيقه من نتائج: الضغط على الموهوبين والتخلص منهم والإبقاء على القادرين على الاستمرار في «العمل الروتيني».

ربما أحب أن أضيف هنا أن أحد الإشكاليات في نظام التعليم هي الإجبار المتزايد للطلبة على العمل في فريق. للوهلة الأولى يبدو ذلك مفيدًا لعملية إنتاج أفكار جديدة عبر تبادلها وصقلها بالحوار، لكن تحويل ذلك لروتين ضروري يدفع ببعض الطلبة الموهوبين للتخلص من أفكارهم المختلفة والثورية والتي قد تسبب جدلاً في فريق العمل خشية اللوم، أو حتى اقتناعًا بأنها أفكار لا تستحق الصياغة. هنا يضغط المجموع على الفرد، والمجموع مرتبط بالحاجة لخطة عمل يسير وفقها أما الإبداع فهو –كما أرى– حالة من الخوض ضد خطط العمل.

رغم ذلك، لا أعتبر ما قاله سولمن هو الإشكال الرئيسي الذي يواجهنا حينما نسأل عن: لماذا لم يعد هناك أينشتاين؟ لقد واجه أينشتاين، وفاينمن، وبور نفس المشكلات، بل وتحدث أينشتاين كثيرًا عن تلك النقطة المتعلقة بالوقوف ضد التيار والشجاعة في مواجهة النظم التعليمية السائدة. لذلك، قد لا تكون تلك الإجابة الكاملة عن السؤال، قد تكون الإجابة أكثر كارثية من ذلك، قد تكون ببساطة أنه: لم يعد أحد يود أن يصبح مثل أينشتاين!

لقد انتهى ذلك النوع من الأمنيات وامتزج مع أمنيات أكثر بهرجة لها علاقة بالخلاص من العلم النظري الممل والصعود فوق هضبة الشهرة والثروة. تلك إذن ليست مشكلة نظام تعليمي أو وسط علمي فقط، إنها مشكلة نظام العصر بأكمله.

 

المراجع

  1. 20-year decline in year 12 science and maths participation, study finds
  2. Why U.S. Students Don’t Major in Science
  3. Young scientists under pressure: what the data show
  4. هل تمر الفيزياء النظرية بأزمة؟
  5. https://www.youtube.com/watch?v=wGJ4SCuy3Ao
  6. Peter Higgs: I wouldn’t be productive enough for today’s academic system

 

رابط المصدر:

https://www.ida2at.com/why-there-is-no-einstein/

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M