د. محمد سعيد الشكرجي
بعد التدنّي الخطير لنسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة، تؤكد الانتفاضة الشبابية الحالية على حاجة العراق الى اجراء إصلاحات كبرى في مختلف المجالات. لكن مهما كانت أهمية الإصلاحات، فان مصيرها يعتمد أولاً على أداء البرلمان لواجباته التشريعية والرقابية وحسن تنفيذها من قبل الأجهزة الحكومية ونزاهة السلطة القضائية. لذلك تهتم هذه الورقة بالنظام السياسي وبتعديل الدستور معاً، أي بأزمة النظام وتأثير المحاصصة والفساد الذي تسببت به.
ورغم صياغته القانونية، ينبغي النظر الى الدستور باعتباره وثيقة سياسية تسمى أحياناً قانون القوانين، لكونها بمثابة عقد اجتماعي مؤسس للدولة، أو لمرحلة من حياتها، تستمد منه القوانين شرعيتها. لذلك نتوقع من لجنة اعداد الدستور أن تضم خبراء في مسائل البناء الدستوري للدولة في مجالات القانون والسياسة وأيضاً في الاجتماع والاقتصاد، وأن تستشير أصحاب الخبرة في مجالات عديدة.
وينبغي التذكير هنا أنه إذا كانت القوانين تهدف الى تنظيم المجتمع في مجالات محددة، فان الدستور يُلبّي الحاجة الى إنشاء دولة وتأمين عملها على أسس سليمة، ويمكن تشبيه كتابته بعمل الهندسة المعمارية لترابط عناصر الدولة ببعضها البعض في عملها وفي تأثيرها على حسن الأداء وتحقيق الاستقرار السياسي. نرجو أن تساهم هذه الورقة(1) في اغناء النقاش والمساهمة في حل الأزمة السياسية والاجتماعية الراهنة.
1/ إشكالات النظام السياسي العراقي
الاشكال الكبير: إضافة الى ما احتواه دستور 2005 من خلل في الشكل والمحتوى، تكمن المشكلة الكبرى للدستور والنظام السياسي في العراق في ضعف الوعي الديمقراطي للفئات الحاكمة وانشغال كل منها بتقوية حصتها في السلطة وامتيازاتها فأساءت تطبيق الدستور وفاقمت من ضرر ثغراته ومواقع الخلل فيه. وهكذا أفشلت التوافقية ومحاصصتها مهمة وضع الدولة على السكة وتقوية أسسها الديمقراطية التي تحمي الانسان وتؤمّن، في نفس الوقت، حقّه في الحياة الكريمة وتسببت في تراجع الفكر الديمقراطي في المجتمع، بل والى “إعادة تأهيل” الدكتاتورية لدى الكثيرين! ومع غياب الثقافة الوطنية وغلبة الهويات الفرعية أدى هذا الوضع الى ازدياد ضعف البلد أمام التدخلات الخارجية.
بهدف تحسين أداء النظام السياسي الحالي، نوجز أهم إشكالات النظام الحالي:
1/ اختلاط الأنظمة والمفاهيم:
قدم الدستور نظاماً قائماً على الخلط بين الأنظمة، اذ تبنى النظام البرلماني (المادة 1)، القائم على التوازن بين رئيس الحكومة والبرلمان مع رئيس دولة بصلاحيات رمزية. لكنه اقترب من النظام الرئاسي بمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تنفيذية واعتبره مشاركاً في السلطة التنفيذية (المادة 66)، وأخضعه للمساءلة أمام البرلمان دون إمكانية اعفائه الا في حالات نادرة وبعد ادانته من قبل المحكمة الاتحادية (المادة 61- سادساً أ و ب). كذلك اقتبس من نظام الجمعية إمكانية مجلس النواب اقالة رئيس الوزراء دون تمكن الأخير من حل المجلس في المقابل (المادة 61- ثامنا- ب 3 والمادة 64- أولاً). فنحن اذن بصدد نظام سياسي هجين.
2/ الحكومة الضعيفة:
بناء على ما تقدم، يبدو لنا ان قادة الكتل السياسية كانوا متفقين، عند كتابة الدستور، على محاصصة مناصب الدولة فيما بينهم تحت ذريعة التوافق وأهم مؤشر الى ذلك اضعاف الحكومة لصالح التوازن بين الكتل السياسية “ممثلة المكونات”. اذ لم يكتف بإخضاع رئيسها لضغوط الكتل الممثلة في مجلس النواب، بل منح رئيس الجمهورية حق تقديم طلب بسحب الثقة منه الى مجلس النواب (المادة 61- ثامناً ب- 1).
3/ دولة اتحادية بلا مجلس اتحادي!
رغم تأكيد الدستور على أن الدولة اتحادية (المادة 1)، ترك مهمة تأسيس مجلس الاتحاد الممثل للمناطق الى سلطة أدنى، أي مجلس النواب (المادة 65). يشكل هذا الفراغ “خطأ دستورياً فاضحاً”، لا زلنا نعاني من تبعاته منذ 14 عاماً! حيث اقترن هذا الاجراء بتخبط الدستور فيما يخص العلاقة بين المركز الفيدرالي والمناطق، كما سنرى، وهو ما مهّد لتدهور علاقة المركز بالإقليم وبالمحافظات أيضاً، بحيث يمكن القول ان النظام الفيدرالي العراقي اليوم أصبح أقرب الى كونفدرالية مضطربة ومتصارعة.
4/ المحاصصة والوحدة الوطنية:
رغم أن الدستور عامل العراقيين كمواطنين وحسب، الا أنه مهّد للمحاصصة، كما بينا، مما أدى الى اقصاء أبناء المكونات الصغيرة العدد من المواقع العليا في الدولة والى انتاج ظواهر أخرى، نوجزها كما يلي:
أ/ اضعاف أكبر للحكومة ولمؤسسات الدولة، وتقوية الفساد بفعل تواطؤ الكتل، مع بعضها البعض، على حماية ممثليها في الحكومة وفي مجلس النواب.
ب/ انتاج طبقة سياسية “طفيلية” من مختلف الكتل والأحزاب المتحاصصة بفعل استمرار تشارك أفرادها في امتيازات السلطة ومعها الامتيازات، الخ.
ب/ ساهم أفراد هذه الطبقة في ضرب النظام الديمقراطي في أهم مفاصله، كالفصل بين السلطات بفعل تسلطهم على السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً وقاعدة التناوب على الحكم التي أفرغها القادة السياسيون من محتواها بسبب استمرارهم في مواقعهم عموماً.
ج/ نشر جوّ التنازع بين أطياف المجتمع العراقي من خلال تنازعهم على السلطة كممثلين للمكونات، وما أنتجه ذلك من تهديد لوحدة البلاد ومن تنامي التطرف والإرهاب….
5/ الفوضى النيابية بفعل المبالغة في الامتيازات المادية والتغّيب والانسحابات لضرب النصاب والتصريحات المختلفة، داخل وخارج مجلس النواب، وتدخل رؤساء الكتل في عمل الحكومة من خلال “وزرائهم ووكلائهم، الخ.
5/ الفهم الخاطئ لاستقلالية القضاء: تبنى الدستور مفهوماً مثالياً عن الاستقلالية المطلقة للسلطة القضائية، اذ منعت (المادة 88) أي تدخل “في القضاء وشؤون العدالة”، بينما لا يعني مبدأ الفصل بين السلطات فصلها فعلاً بل التنسيق بينها مع قدرة كل منها على منع التدخل في اختصاصاتها الحصرية(2). لذلك يصح منع التدخل في القضاء، لكن أداء السلطة القضائية، كجهاز، يخضع للمحاسبة من قبل السلطات الأخرى. في الواقع، لم تمنع هذه المثالية محاولات التأثير على أحكام القضاء وضللت الرأي العام حول حقيقة دور الحكومة في تسيير عمل السلطة القضائية في تأهيل القضاة وإدارة السجون وغير ذلك.
وللمقارنة نذكر أن دستور الولايات المتحدة منح رئيس الجمهورية صلاحية تعيين قضاة المحكمة العليا بالتنسيق مع السلطة التشريعية التي تؤسس المحاكم الأخرى وتلغيها. أما الدستور الفرنسي 1958، فقد وضع رئيس الجمهورية على رأس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل نائباً له! وبرر فقهاء الدستور ذلك بضرورة منع ظواهر “تسلط القضاء”(3).
من جهة أخرى، لم يذكر الدستور العراقي دور النيابة العامة (الادعاء العام)، الا بشكل عابر. وربما ساهم ذلك بشكل عام في ضعف عمل الادعاء العام.
2/ التعديلات المقترحة
بناء على ذلك ولحل الأزمة السياسية الراهنة، يجب تعديل الدستور الحالي بشكل جذري بعيداً عن الحلول الترقيعية، وأقدم فيما يلي ايجازاً لأهم ما أقترحه من تعديلات مع ملاحظات تقوم على مفاهيم دستورية تنفع أيضاً في حال التوجه الى كتابة دستور جديد:
+ استكمال النظام الاتحادي: يفرض علينا هذا النظام تأسيس مجلس الاتحاد، ويتألف عادة من ممثلَين اثنين مُنتخَبين عن كل محافظة، لتمثيل مصالح المحافظات في الإطار الاتحادي.
+ إعادة تنظيم علاقة المركز بالإقليم والمحافظات: اجراء التعديلات الضرورية لإعادة تأهيل المركز، فالنظام الاتحادي لا يسمح بتجاوز الأقاليم على سلطة المركز، ويختلف بذلك تماماً عن النظام الكونفدرالي. لذلك ينبغي، على سبيل المثال، تعديل المواد التالية:
– تعديل (المادة 112- أولاً): المتعلقة بإدارة النفط والغاز من الحقول الحالية بحذف (الحالية)، فهذه المهة من اختصاص الحكومة الاتحادية ويمكن فقط ذكر “بعد استشارة حكومات الأقاليم والمحافظات”. الغاء ثانياً، لأن “رسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز” تقع ضمن اختصاص السلطات الاتحادية والتي يشارك فيها ممثلو الأقاليم والمحافظات، سواء في قراراتها الحكومية أو في سلطتها التشريعية والرقابية.
– تعديل المادة (114) بإلغاء الاختصاصات المشتركة لتصبح “اختصاصات المركز بالتنسيق مع سلطات الأقاليم والمحافظات”، وتتعلق بسبع مجالات كإدارة الجمارك ورسم سياسات التنمية والتخطيط وتنظيم مصادر الطاقة الكهربائية ورسم سياسة الموارد المائية، علماً بأن أكثرها أصبح، في واقع الأمر، تحت سلطة الإقليم.
– الغاء المادة 115 التي نصت على أن (كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات..) وعلى أولوية قوانين الأقاليم والمحافظات عند الخلاف مع قوانين الحكومة الاتحادية!!
– المادة (121- أولاً): حول سلطات الأقاليم، تستبدل عبارة (باستثناء ما ورد من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية) لتصبح في “المجالات التي تخص الإقليم وفق هذا الدستور”. الغاء ثانياً (يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم في حال وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الإقليم). أما ثالثاً، فيجب تفعيلها لتأمين التوزيع العادل للأقاليم والمحافظات من الإيرادات المحصلة اتحادياً (مع الأخذ بنظر الاعتبار مواردها وحاجاتها ونسبة السكان فيها).
– نعتقد بضرورة ترشيد مجالس المحافظات للفترة المقبلة لتحسين أدائها ومنع تحولها الى حلبة صراع ومجال لهدر المال العام. وبناء على ذلك تعديل المادة (122- ثانياً)، حول صلاحيات المحافظات بحذف مفردة (الواسعة). وتعديل الفقرة خامساً لتحديد مسؤولية مجلس المحافظة بدل عدم خضوعه (لإشراف أية وزارة…)!
+ تفعيل النظام البرلماني باتجاه تقوية رئيس السلطة التنفيذية: قبل التفكير بالنظام الرئاسي، ينبغي البدء بإعادة تأهيل الحكومة، اذ أن اضعاف هيبة الحكومة، بسبب المحاصصة وتسلط رؤساء الكتل، تسبب في اضعاف الدولة وعدم الخوف من تجاوز القانون. من جهة أخرى، فان الحكومة هي التي تؤمن عمل أجهزة الدولة والسلطة التشريعية وتحمي القضاء وتقوم على تنفيذ أحكامه، الخ، وأن مساءلتها ترتبط بقابليتها على تأدية مهامها. نذكر أهم التعديلات الضرورية في هذا المجال كما يلي:
حول موقع رئيس الجمهورية
– تثبيت الدور الرمزي لرئيس الجمهورية. وقد سمّاه الدستور الألماني “الرئيس الفيدرالي”، وجعله في باب منفصل وليس كما فعل الدستور العراقي (الفصل الثاني: السلطة التنفيذية، الفرع الأول- رئيس الجمهورية)، وقد بينّا خطأ هذا الموقف.
– تعديل المادة (60) بحصر تقديم (مشروعات القوانين) برئيس الحكومة.
– الغاء المادة (61- ثامناً- ب- 1) حول طلب رئيس الجمهورية سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، فمنطوق هذه المادة خطأ واضح، كما ذكرنا آنفاً.
– الغاء (المادة 66) التي تنص على تكون السلطة التنفيذية (من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء) ونلاحظ هنا ذكر مجلس الوزراء بدون رئيسه!!
– الغاء الفقرة (ثانياً من المادة 69) حول اختيار نواب رئيس الجمهورية وحذف أي ذكر لهذا المنصب في مواد الدستور وذلك للقضاء على تخمة المناصب العليا.
– المادة (70- أولاً): تحل مفردة “يختار” محل “ينتخب”، ونلاحظ أن واضعي الدستور تعمدوا اختيار مفردة الانتخاب لإضفاء الأهمية التنفيذية على رئيس الجمهورية، بينما استخدموا مفردة “اختيار” لنائب الرئيس.
حول موقع رئيس الوزراء:
– تعديل (المادة 64– أولاً) للنص على إمكانية رئيس الوزراء حل مجلس النواب عند سحب الأخير الثقة من الحكومة للذهاب الى حكم الشعب من خلال الانتخابات.
– تعديل (المادة 76)، لتصبح “يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة الفائزة بأكثر عدد من الأصوات في الانتخابات بتشكيل الحكومة” لتحديد كونه منتخباً وإبعاد فكرة التحالف بعد الانتخابات.
– تعديل المادة 78 وغيرها بتبني تسمية رئيس الوزراء، ليصبح الرئيس الفعلي للحكومة والمسؤول عن عمل الوزراء. وترفع عبارة (يقوم بإدارة مجلس الوزراء ويترأس اجتماعاته)، لكونها تحصيل حاصل..
– تعديل المادة 80 باستبدال عبارة (يمارس مجلس الوزراء)! بعبارة “يمارس رئيس الوزراء”، ثم إعادة صياغة الفقرة أولاً لتبدأ بعبارة “إدارة الحكومة وعمل الوزراء” محل “الاشراف على…”. إضافة الى ضرورة تضمينها علاقة الحكومة بالبرلمان وتثبيت أسبقية الحكومة في وضع جدول الأعمال.
– الغاء المادة 81- أولاً، اذ لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يقوم مقام رئيس الوزراء، في حال عدم قدرة الأخير على أداء مهامه، فيحل محله أحد الوزراء، كنائبه أو النائب الأول في حال وجود أكثر من نائب.
+ ترشيد الانتخابات:
– إعادة تشكيل المفوضية المستقلة للانتخابات على أسس مهنية بحتة واستبعاد أي ممارسة للمحاصصة في تشكيلها.
– تعديل النظام الانتخابي بتبني نظام الدوائر الفردية وفوز الأول في الترتيب عن كل دائرة، سواء بدور واحد، على الطريقة البريطانية، أو بدورتين، على الطريقة الفرنسية. وذلك بهدف تثبيت الاستقرار السياسي وبساطة احتساب المقاعد.
– الحملة الانتخابية مسؤولية الدولة وعلى نفقتها، فهي تؤمّن المساواة بين المرشحين وتمنع فوضى الملصقات (البوسترات) من خلال حصرها بمنصات محددة وتقوم برفع التجاوزات والمعاقبة عليها. وينبغي سن قانون تمويل الحملات الانتخابية لتحقيق المساواة بين المرشحين، وكنت قد قدمت مسودة قانون بذلك سنة 2010…
– تعديل المادة (49) لتصبح “بنسبة مقعد واحد لكل مائتي ألف نسمة، لتخفيض عدد أعضاء مجلس النواب الى النصف، وذلك لزيادة الفعالية وخفض المصاريف.
– تحديد وترشيد الترشيح لعضوية مجلس النواب لتفادي ما حصل في الانتخابات الأخيرة، وذلك بتشديد الشروط وإضافة شرط التجربة المهنية مثلاً الى الشهادة وأن تكون احداهما، على الأقل، في مجالات مرتبطة بعمل مجلس النواب، كالسياسة والاقتصاد والقانون والإدارة العامة أو إدارة المؤسسات بنجاح لعشرة سنوات، على سبيل المثال. إضافة الى تقديم شهادة صحية، بالخلو من الأمراض، مع فرض أشد العقوبات على أي تزوير للوثائق أو التفاف على قواعد الترشيح.
+ ترشيد عمل البرلمان:
– تبني وفرض التصويت السري لمنع رؤساء الكتل من التحكم بتصويت النواب.
– التشجيع على تماسك الكتل وانهاء حالة “القفز بين القوائم” بكتابة مادة تمنع النواب من ترك ائتلافاتهم الا بعد 12 شهراً من بداية عمل الدورة واشعار رئاسة المجلس خطياً بذلك مع ذكر المبررات، ولمرة واحدة خلال أربع سنوات.
– تعديل (المادة 59) لإلغاء مبدأ النصاب الضروري لعقد الجلسات والذي أصبح نوعاً من الفيتو التعسفي على عمل البرلمان. فالنظم الديمقراطية تفترض صحة الجلسات بدون اعتبار لمدى حضور النواب والمتغيبون هم الذين يخسرون حقّهم في المناقشة والتصويت، علماً بأن النائب المتغيب يخضع للعقوبات الخاصة بالغياب.
– إلغاء امتيازات الرواتب العالية والتقاعد وتشديد الغرامات على الغيابات والطرد بعد حد أقصى منها وتحديد الاجازات المرضية وإلغاء العلاج في الخارج الا لأسباب قاهرة. اذ أن من الطبيعي أن يعاني ممثلو الشعب من تدهور المؤسسات الصحية، مما سيدفعهم أكثر الى العمل على تحسينها، ولا ينبغي للمجلس أن يشكل فرصة لتمتع المرضى برواتب من دون عمل.
– تعديل المادة (63) لوضع حصانة النواب في اطارها الصحيح وذلك باقتصارها على تصريحات النواب ونشاطهم داخل مجلس النواب فقط وفي إطار عملهم، لا خارجه. إضافة الى ضرورة اختيار صياغة تبين ان موافقة رئيس المجلس على رفع الحصانة تصبح تلقائية بعد فترة قصيرة من ورود طلب رسمي من الهيئة القضائية.
+ حول استقلال السلطة القضائية:
– تعديل المادة 88 بحذف عبارة، “أو في شؤون العدالة”، لحصر منع التدخل في شؤون القضاء، كما ذكرناها.
– استحداث عدة مواد للتفصيل في عمل النيابة العامة (الادعاء العام) وتثبيت واجبها في التدخل عند حصول خرق مهم للقانون من قبل أي جهة رسمية أو غير رسمية.
هذه أهم التعديلات التي نقترحها اليوم، عدا الشكلية كالإغراق في بعض التفاصيل وتبويب المواد وحذف عبارة “وينظم بقانون” في المواد التي لا تحتاج لذكرها.
3/ خيار الدستور الجديد
ينبغي علينا التفكير في وضع دستور جديد في حال عدم التمكن من تعديل الدستور الحالي. فإضافة الى ما سبق، تركت التوافقية بصمتها على النظام السياسي منذ تأسيسه، اذ اشترط الدستور اتفاق ممثلي “المكونات” على تعديله. مما يشير الى تجاهل ديناميكية المجتمع والتعسف بحق الأجيال القادمة. فقد اشترطت (المادة 126- ثالثاً) لنجاح التعديل (موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه وموافقة الشعب بالاستفتاء العام) أما نفس المادة- رابعاً، فقد منعت أي تعديل (من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الأقاليم) الحصرية والمشتركة مع المركز (الا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني وموافقة أغلبية سكانه باستفتاء عام). بينما يفرض ترشيد النظام السياسي تعديل الدستور في هذا المجال أيضاً، كما بينا.
من جهتها، فرضت (المادة 142- أولاً) على مجلس النواب، (في بداية عمله، تشكيل لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسية في المجتمع العراقي)، وهذا ما لم يحصل لحد الآن، والتعديل بموجبها شبه مستحيل على كل حال. اذ على اللجنة تقديم تقريرها (خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية… على الدستور). أما نفس المادة ثانياً، فتفرض عرض التوصيات (دفعة واحدة للتصويت عليها، وتُعد مقرة بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس). أما نفس المادة – رابعاً، فتشترط لنجاح الاستفتاء (موافقة أغلبية المصوتين وإذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر). مما يعني أن أي ثلاث محافظات تملك حق الفيتو ضد خمس عشرة محافظة. هكذا وبالإضافة الى انعدام العدالة، أدت مراعاة التوافق والمحاصصة عملياً الى تجميد دستور 2005. أما نفس المادة خامساً، فتستثني (ما ورد في هذه المادة) من أحكام المادة 126 (لحين الانتهاء من البت في التعديلات المنصوص عليها في هذه المادة)!!
بناء على ما تقدم، نلاحظ انسداد أفق الدستور الحالي وفشله في بناء نظام سياسي قويم، لذلك ينبغي التفكير جدياً في إمكانية الغاء الدستور في حال تمسك هذا الطرف أو ذاك بدستور عليل انتهى مفعوله بعد هذه السنوات. وربما يدفع هذا الاحتمال جميع الأطراف الى الاعتدال والاتفاق على تعديل جذري بدل الذهاب الى صياغة دستور جديد. علماً بأن تصاعد الوعي الشعبي بفشل النظام الحالي وانتفاضة الشباب، خريف 2019، تستحقان، في منطق انشاء الدساتير، أن تشكلا منطلقاً لجمهورية ثالثة ودستور جديد.
اختيار النظام الأفضل للعراق
يقوم أي دستور ديمقراطي على اختيار نظام سياسي ملائم للبلد المعني يجيب على حاجتها للاستقرار السياسي. نعرض فيما يلي بإيجاز شديد النظم الديمقراطية الأساسية لنبين مدى ملاءمتها لأوضاع العراق في الفترة القادمة:
1/ نظام الجمعية: نظام حكم مثالي قائم على علوية الجمعية النيابية (مجلس النواب) وتبعية الحكومة له، وقد تضاءل حضوره ولم يستمر الا في سويسرا.
2/ النظام البرلماني، نشأ في إنكلترا ويستمد تسميته من البرلمان المؤلف من غرفتين ويقوم على اختيار رئيس الحكومة من قبل مجلس النواب وعلى توازن القوة بينهما، وذلك خلافاً للفكرة السائدة حالياً في العراق حول علوية مجلس النواب بذريعة أنه يضم ممثلي الشعب. وخلال القرن العشرين، توجهت الدول البرلمانية الى تقوية رئيس الحكومة للحد من تأثير صراعات الأحزاب على الاستقرار السياسي(4). لذلك فهو يصلح للعراق إذا طُبق بعيداً عن المحاصصة، أي بتقوية الحكومة مع تشديد مراقبتها من قبل البرلمان وضبط العلاقة بين المركز والأطراف بما يُعزز وحدة الدولة، ضمن التعديلات التي ذكرناها.
3/ النظام الرئاسي، ابتكره الأمريكان، أواخر القرن الثامن عشر، ويقوم على الفصل الواضح بين السلطات، اذ لا وجود فيه لإسقاط الحكومة ولا لحل المجلس النيابي. ويمسك رئيس الجمهورية بعموم السلطة التنفيذية بصلاحيات واسعة تحدّها بعض الإجراءات وعلى رأسها إمكانية محاكمته برلمانياً وهي عملية صعبة ونادرة، اذ لم تحصل خلال حوالي قرنين ونصف الا ثلاث مرات! بسبب تماسك المجتمع. لذلك قد يصلح النظام الرئاسي للعراق، سنة 2005 أو لاحقاً، لكن تطبيقه الآن قد لا يؤدي الى توحيد العراقيين في ظل رئيس يستفرد بالحكومة، بعد مساهمة المحاصصة المقيتة في تغليب الهويات الفرعية “للمكونات” على الانتماء الوطني مكرسة ضعف الثقافة المشتركة وتخريب عقود من مآسي الحروب والحصار.
4/ أما النظام شبه الرئاسي، فهو نظام برلماني مع رئيس جمهورية قوي بفعل انتخابه المباشر من قبل الشعب. وقد تبنّت فرنسا، هذا النظام الذي اقترحه شارل ديغول، في استفتاء سنة 1962. ويقوم على معادلة متوازنة تصب في صالح رئيس الجمهورية الذي يمثل رمز البلد ويرأس السلطة التنفيذية، يعاونه رئيس وزراء مسؤول أمام البرلمان. كما في النظام البرلماني، يسمح هذا النظام للتيارات الفكرية والسياسية بالتعبير عن نفسها وبالتأثير على عملية اتخاذ القرار ولكنه يخصص لرئيس الجمهورية حق حسم الأمور في قمة السلطة. وهو ما يناسب المجتمع الفرنسي الذي تتصارع فيه التيارات الفكرية والسياسية، مقارنة بالمجتمعين البريطاني والأمريكي. ونحن مقتنعون، منذ فترة طويلة، بتشابه خصائص المجتمع العراقي والفرنسي، من هذه الناحية. لذلك نعتقد بصلاحية هذا النظام للعراق في ظروف ديمقراطيتنا الفتية، في حال عدم الاتفاق على الحل الأبسط والأقل كلفة، أي الإصلاح الجذري للنظام البرلماني الحالي وتعديل الدستور.
النظام المركزي والنظام الفيدرالي: إضافة الى النظام الرئاسي، ابتكر واضعو الدستور الأمريكي النظام الفيدرالي الذي ينظم علاقة المركز بالأطراف، بتأسيس حكومة مركزية قوية تحكم عموم البلد في مجالات السياسة الخارجية والأمنية والاقتصادية والمالية، الى جانب حكومات محلية منتخبة تتمتع بسلطات محددة دستورياً. يصلح هذا النظام للعراق مبدئياً لتحقيق النهوض بواقع البلد في المناطق المختلفة ولاستجابته لطموحات أخوتنا الكرد وأيضاً لكونه أقرب الى روح الديمقراطية (هارولد لاسكي). لكن عدم نضوج الثقافة الديمقراطية في العراق جعل منه وسيلة لتأجيج الصراع بين القيادات أو الزعامات المحلية والحكومة الاتحادية، وساهمت مواد الدستور في هذا الوضع، كما ذكرنا. لذلك نطرح على لجنة تعديل الدستور النظر في تطبيق الفيدرالية مع تعديلات كالتي ذكرناها.
وفي الختام، ملاحظة لا بد منها: لماذا النظام الديمقراطي؟ لا يشكل النظام الديمقراطي نظاماً مثالياً، بحسب المختصين الغربيين أنفسهم، بل هو أقل الأنظمة سوء وحسب، اذ يتضمن أيضاً مظالم ومساوئ. لكن ميزته أنه يسمح عموماً بتصحيح سياساته بفضل حق الاعتراض وحرية التعبير والتظاهر وغيرها من حريات خاصة وعامة، إضافة الى السلطة الرقابية للبرلمان وانتخاب أعضائه ومعهم الحكومة كل أربع أو خمس سنوات. وبالتالي، يسهم في تحرر الانسان وفي تطور الفكر والعلوم وازدهار البلدان.
ان ايماننا بشرعية انتفاضة الشباب الحالية ودورها في تصحيح النظام، يعني قناعتنا بأفضلية النظام الديمقراطي في السعي لتحقيق انعتاق الفرد والمجتمع. فلا يمكن تصور حصولها أو سابقاتها في ظل النظام السابق، ولا أي نظام دكتاتوري، بدون قصف المدن وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، كما حصل في أعقاب انتفاضة 1991، على سبيل المثال لا الحصر.
في الواقع، تؤدي الدكتاتوريات الى اخماد الطاقات الإيجابية لدى شعوبها وتراجع بلدانها في مختلف المجالات، حتى الأنظمة الثورية تستند الى مبادئ إنسانية، في نشوئها، تنزلق تدريجياً من “حكم الجماهير” المُعلن الى أنظمة تمسك بالسلطة وتتسلط على موارد البلد ثم تقمع حرية التعبير فتسقط نتيجة لكل ذلك.
أما الجرائم التي ارتكبتها بعض النظم الديمقراطية بحق شعوب المستعمرات، فلأن هذه الدول الغربية شهدت أيضاً تطور الرأسمالية كنظام صناعي “متوحش”، كما يُسمى في الغرب نفسه. لكن هذا لا ينفي كون النظام الديمقراطي يتمتع عموماً بقدرته العالية نسبياً على تقبل النقد وتصحيح السياسات، كما ذكرنا. وهنا يكمن الاختلاف الأساسي مع الأنظمة الدكتاتورية العصية على التغيير.
* الدكتور محمد سعيد الشكرجي، باحث أكاديمي وسفير سابق، خبير في القانون الدستوري، برنامج للأمم المتحدة سابقاً
……………………………..
هوامش
(1) قدمت هذه الورقة، مع مجموعة أوراق، من قبل هيئة مستشارين متطوعين الى رئاسة الحكومة قبل حوالي سنة ونصف، عنوانها في الأصل: اصلاح النظام السياسي في العراق، تقوية الحكومة وانهاء المحاصصة. وأعيد نشرها اليوم بعد مراجعتها واضافة توضيحات تخص مواد الدستور وتفاصيل أكثر حول خيار تبني دستور جديد…
(2) حول مفهوم مونتسكيو عن الفصل بين السلطات، انظر جان توشار وآخرون: تاريخ الفكر السياسي، ترجمة علي مقلد، ط2، بيروت، الدار العالمية، 1983، ص 311.
(3) انظر شرح الدستور الفرنسي: G. Carcassaonne et M. Guillaume: La Constitution, Préf. G. Vedel, 14 éd, Paris, Ed du Seuil, 2017, pp. 323
(4) ساعد تطور الأحزاب السياسية على تقوية سلطة رئيس الوزراء بامتلاكه التأثير المهم على السلطة التشريعية لكونه أيضاً رئيس الحزب الفائز بالأغلبية النيابة. دفع هذا التطور أستاذ القانون الدستوري المعروف في فرنسا والعالم، موريس دوفرجيه، الى نقد الظاهرة في كتاب ألفه بعنوان “المَلَكيات الجمهورية”، سنة 1973.
رابط المصدر: