فراس إلياس
تشكَّلت الملامح الأولى للجيوبوليتيك الشيعي مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، والذي استند إلى طبيعة النظام الثيوقراطي الديني بقيادة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله الخميني، ويمكن القول في هذا الإطار بأن الثورة الإيرانية من جهة، ونشوء حزب الله اللبناني من جهة أخرى، قد وضعا الجغرافيا السياسية الشيعية في صدارة المشهد السياسي الإقليمي والدولي، كما أعطت الخطابات الدينية-الثورية التي كان يرددها الخميني، والشعارات السياسية التي كان يرفعها قادة الحرس الثوري، قوة دفع كبيرة للمجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي لتستشعر وجودها السياسي، والهدف من وراء ذلك هو تشكيل حركة شيعية عابرة للحدود الوطنية مرتبطة بدولة القلب المذهبي/إيران.
إن الجيوبوليتيك الشيعي هو حالة معبِّرة للمجتمعات الشيعية بطبيعة جيوسياسية، فهو تعبير عن الجغرافيا الشيعية المؤثرة في علاقات القوة الدولية، عن طريق الدفع بالمجتمعات الشيعية إلى الارتباط بالمركزية الإيرانية، ومن ثم تشكيل قوة دولية صاعدة، كما عبَّر عن ذلك محمد جواد لاريجاني، من أن إيران قطب دولي يسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي على أساس التعددية القطبية، أي إن الجيوبوليتيك الشيعي هو بالأساس مشروع جيوستراتيجي إيراني، يعكس طبيعة الافتراضات الجيوبوليتيكية التي نادى بها المفكر الاستراتيجي، هالفورد جون ماكيندر (Halford John Mackinder) في نظريته الجيوستراتيجية: قلب الأرض (The Heartland Theory)، وهي فكرة استعارتها الثورة الإيرانية لتشكيل مركزية شيعية في العالم الإسلامي، تستند بالأساس إلى إيران باعتبارها “دولة أم القرى”، ونظامها السياسي القائم على نظرية ولاية الفقيه المطلقة.
إن تشكيل حركة شيعية عابرة للحدود الوطنية وتعظيم المجالات الجيوستراتيجية للجيوبوليتيك الشيعي بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، أجبرت إيران على تسخير مقدراتها الوطنية لتحقيق وجود خارطة شيعية متمايزة عن الخارطة السنية في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من النجاحات الكبرى التي حققتها الاستراتيجية الإيرانية في جغرافيا ممتدة من أفغانستان حتى شمال إفريقيا، وذلك بفعل محركات فعلها الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي والأيديولوجي، إلا أنها واجهت تحديات كبرى عطَّلت الجيوبوليتيك الشيعي بعض الشيء، والتي يأتي في مقدمتها الدور الإيراني في تصاعد حدة الصراعات الطائفية والمذهبية، والمنافسة الجيوبوليتيكية لإيران في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من أن المشروع السياسي الإيراني هو مشروع استراتيجي من حيث الشكل، إلا أن جوهره هو مشروع عقائدي يهدف إلى احتواء العالم الإسلامي بدوله ومجتمعاته، سعيًا لبناء المجال الحيوي الإيراني.
تتمثَّل أهمية هذه الدراسة في كونها محاولة لإعادة قراءة الافتراضات الاستراتيجية الإيرانية المتعلقة بالجيوبوليتيك الشيعي، عبر البحث في طبيعة وواقع الأدوار الإيرانية، وانعكاسات ذلك بالنهاية على محصلة الفعل الاستراتيجي الإيراني، بما يتماشى مع دواعي تحقيق رؤية واضحة لطبيعة الأدوار الإيرانية الشاملة، لاسيما وأن إيران تُعَدُّ من القوى الأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط، وانعكاس طبيعة هذا التأثير على الخارطة الجيوستراتيجية الدولية.
وفي ضوء ذلك تنطلق إشكالية الدراسة من تساؤلات رئيسة عدة، وهي:
– كيف تَشَكَّل الجيوبوليتيك الشيعي اليوم؟ وكيف شَكَّل ضرورة لبناء المجال الحيوي الإيراني؟
– هل يُشَكِّل الجيوبوليتيك الشيعي ضرورة استراتيجية-دينية لإيران، أم إنه مجرد حالة براغماتية لتوظيف المجتمعات الشيعية في خدمة أهدفها وسياساتها؟
في ضوء الإجابة على هذه التساؤلات المركزية، تذهب فرضية الدراسة إلى إعطاء نظرة شاملة عن الاستراتيجية الإيرانية في محاولة لاستكشاف كل الجوانب الصريحة والضمنية التي تُشَكِّل ملامح الاستراتيجية الإيرانية في إطار الجيوبوليتيك الشيعي.
ومن أجل التوصل إلى فهم واضح للمقتربات العامة التي تُشكِّل افتراضات الجيوبوليتيك الشيعي، اعتمدت الدراسة على المنهج التاريخي للبحث في الدور الذي لعبته أيديولوجيا الثورة الإسلامية في بلورة الجيوبوليتيك الشيعي، ومنهج التحليل النظمي من خلال التطرق إلى الأنساق النظرية والفكرية التي أسهمت في بروز هذا الجيوبوليتيك. وأخيرًا المنهج الوصفي، وذلك عن طريق البحث في السياسات الإيرانية في إطار هذا الجيوبوليتيك، وقد فرضت مجالات الدراسة وأبعادها هذا التعدد المنهجي.
وخلصت الدراسة إلى أن الظاهرة الشيعية لها أبعاد مختلفة، وأحد هذه الأبعاد المهمة هو البعد الجيوبوليتيكي، وبما أنها في السياق الجيوسياسي، فإن العناصر الرئيسة الثلاثة: الجغرافيا والسياسة والسلطة متأصلة في طبيعتها، وعند تقييم الجيوبوليتيك الشيعي يجب أيضًا مراعاة هذه العناصر الأساسية الثلاثة، من أجل التوصل لصورة واضحة حول فكرة المجال الحيوي الإيراني.
وفيما يتعلق بالعنصر الأول وهو الجغرافيا، فنجد أنها مترابطة، ومتماسكة، ومليئة بالقدرات والموارد المختلفة. ومن ناحية أخرى، فإن جغرافيا المناطق الشيعية هي تلك الجغرافيا الخاصة بإيران والمجتمعات الشيعية، وهذه الجغرافيا توفر الأساس لدور مركزي إيراني في المحيط الخارجي، والتعبير عن ردود فعل مناسبة في إطار هذا المحيط. أما العنصر الثاني المتعلق بالسياسة، فهنا تجدر الإشارة أولًا إلى أن التشيع منذ البداية كانت له أفكار وعقائد سياسية محددة؛ إذ خلقت مثل هذه العقائد نوعًا من الثقافة السياسية في أتباع الأيديولوجية الشيعية، وبعبارة أخرى أدت هذه العقائد إلى تنمية الدور السياسي الشيعي الذي تم إحياؤه في العقود القليلة الماضية، وبرز الشيعة كحليف سياسي على الساحة الإقليمية والدولية، وخاصة في إيران، في حين يأتي العنصر الثالث وهو السلطة؛ إذ يربط الشيعة مفهوم السلطة بأدوارهم السياسية؛ حيث يسعى الهيكل السياسي الشيعي إلى استعادة السُّلطة المفقودة، فضلًا عن ذلك يرتبط الدور السياسي للشيعة بهياكل السلطة ويتأثر بها، ويمكن رؤية ظاهرة التسييس الشيعي بوضوح في ظاهرة الثورة الإيرانية، عندما تمكن الشيعة من تشكيل حكومة في إيران، وبرزوا كممثل رسمي على الساحة الدولية، ومع صعود الشيعة في إيران وتشكيل نظام الجمهورية الإسلامية، دخلت المجتمعات الشيعية في علاقات القوة الدولية، ولعبت دورًا حاسمًا في علاقات القوة الإقليمية والدولية.
كان الاهتمام الأساسي للثورة الإيرانية عام 1979، والتي ترمز إلى التسييس الشيعي، هو بناء هيكل سياسي له امتدادات جغرافية خارج حدود إيران السياسية، ومن ثم نقل الحركة الشيعية السياسية/الدينية في إيران إلى الآخرين، عبر عملية النمذجة والأدلجة السياسية، وكانت أولى النماذج السياسية هي في العراق ولبنان، وتحويلها إلى حركات سياسية تستند إلى المذهب لاكتساب السيادة والسلطة، ليس فقط في العالم الإسلامي، ولكن في العوالم الدينية الأخرى. وبمعنى آخر، سعت إيران إلى التأثير في الحركات السياسية الدينية والشعبية التي حدثت في أجزاء مختلفة من العالم في العقود الأخيرة، ومع ذلك، فإن بعض هذه الحركات في العالم الإسلامي السُّني قد حددت موقفها ضد البنية الشيعية، في حين تماهى بعضها الآخر معها، انطلاقًا من وحدة الهدف والمشروع.
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات العامة عن الجيوبوليتيك الشيعي، ومنها:
– ينطوي المفهوم العام للجيوبوليتيك الشيعي على مجموعة من المقومات المادية والمعنوية والفكرية، رسمت عن طريقه إيران طبيعة أدوارها وسياساتها، فما بين السياسي والعسكري والاقتصادي، تدخل مقومات المكانة والتاريخ والجغرافيا، كقنوات أَثْرت العقلية الاستراتيجية الإيرانية بالعديد من الخيارات والمجالات، التي استطاعت عن طريقها أن تنفذ للعديد من مجالات الجيوبوليتيك الشيعي.
– أسهم الجيوبوليتيك الشيعي في عملية انطلاق موجة التسييس المعاصر، المبني على الهوية الدينية، وهي إحدى الوظائف الجيوسياسية التي أداها الشيعة في الوقت الحاضر.
– سَعْي استراتيجية الجيوبوليتيك الشيعي إلى زيادة محاولات التأثير، وتوسيع دائرة نفوذ المناطق الشيعية، انطلاقًا من إيران، كاستراتيجية قابلة للتطبيق لتوحيد المجتمعات الشيعية، وإكسابها مقومات القوة والسيطرة.
– الهدف النهائي للجيوبوليتيك الشيعي تشكيل حكومة إسلامية عالمية، ترتبط ارتباطًا عضويًّا بحكومة الولي الفقيه في إيران.
– شهد الجيوبوليتيك الشيعي ثلاث مراحل تطورية منذ تشكيله: المرحلة الأولى هي البروز السياسي للشيعة ووعيهم الذاتي بانتصار الثورة الإيرانية التي كانت لها هوية مذهبية. بمعنى آخر، في هذه المرحلة الزمنية اكتسبت الثورة الإيرانية شعبية شيعية في العالم الإسلامي. أما المرحلة الثانية فكانت تشكيل منظمات سياسية قائمة على الصحوة الإسلامية في أعقاب الثورة الإيرانية، مثل العراق ولبنان والبحرين. المرحلة الثالثة هي دور الشيعة في الهيكل السياسي للدول، والذي جاء بتحسين تفكير الشيعة وتنظيمهم تدريجيًّا، حتى تمكنوا من الوصول إلى السلطة في بعض البلدان، كما حصل في العراق بعد عام 2003، في حين لا تزال باقي المجتمعات الشيعية تكافح سياسيًّا وعسكريًّا لتقوية موقفها في بلدان المحيط والمجال والشتات الشيعي.
– إن التطورات التي حدثت في العلاقات الإقليمية بعد احتلال العراق، فرضت مراجعات لمفاهيم وفرضيات الفلسفة السياسية الإيرانية وركائز مشروعها الإقليمي، وذلك عن طريق التحول إلى فرضيات الجيوبوليتيك الشيعي، عبر التمسك بالأسس الفكرية للنظرية الخمينية، أي إنتاج عالم إسلامي يحتكم لنظرية ولاية الفقيه الإيرانية.
– ينطوي التاريخ الإيراني منذ نشأة إيران الفارسية وبناء استراتيجيتها الخارجية وحتى عصرنا الراهن، على سلسلة من الحلقات التوسعية في الشرق الأوسط، وبروز ما يسمى الإمبراطورية الفارسية الموازية للإمبراطورية الرومانية والعثمانية في مرحلة لاحقة، واستهدفت هذه الحركات التوسعية تحقيق المصلحة القومية العليا المتمثلة بثلاثية “الثروة، المعتقدات، القوة”. وترافقًا مع ذلك، هناك نظريات التوسع الجيوبوليتيكي، إلى جانب المتغير القيمي والديني عبر شعارات تصدير الثورة ونصرة المستضعفين ومحاربة الاستكبار وغيرها، وكذلك المتغير الاجتماعي والسياسي والفلسفي، وترسيخ مبدأ المصلحة الدائمة بدلًا من الصداقة أو العداء الدائم في علاقاتها الإقليمية والدولية، وإن كل هذه المتغيرات المذكورة أثَّرت في إدراك صانع القرار الإيراني للتوسع الخارجي عبر طروحات الجيوبوليتيك الشيعي.
– سعت استراتيجية الجيوبوليتيك الشيعي إلى تقوية الارتباطات الدينية والسياسية مع المجتمعات الشيعية، وتوثيق العلاقة مع حلفاء إيران الإقليميين، وتقديم الدعم لهم بالوسائل كافة، وقد جاء بروز تنظيم الدولة عام 2014، كفرصة لتنفيذ أجندتها ومشاريعها الاستراتيجية، وبذلك زادت من قنوات تأثيرها في الشرق الأوسط سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا.
رابط المصدر:
http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/12/191205100629432.html