د. قحطان حسين طاهر
التظاهرات مؤشر على حدوث تطورات سلبية وإيجابية في آن واحد, السلبية تتمثل في أن أداء الحكومة السيء وصل إلى درجة لا يمكن استمرار السكوت عليها من قبل الشعب، والإيجابية تتمثل في أن الشعب بدأ يعي دوره الحقيقي في مراقبة وتقويم أداء الحكومة والعمل على مواجهة الانحدار المتفاقم في البلد كمحصلة لسلوكيات الطبقة السياسية الفاشلة.
فالتظاهرات السلمية ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في البلدان المحكومة بنظام سياسي أنحرف بعيدا عن المسار الذي يؤدي إلى إنجاز وتحقيق الخدمات والرفاهية والحياة الكريمة لعموم الفئات الاجتماعية.
وعند مناقشة موضوع التظاهرات، لابد من بيان مفهومها السياسي أولاً. فالتظاهر هو أحد أشكال المشاركة السياسية في تصحيح أخطاء النظام السياسي، وذلك من خلال التجمع الجماهيري المنظم المستند إلى رؤية واضحة وأهداف مشروعة يتم التعبير عنها بوسائل مقبولة وحضارية ومؤثرة وفعّالة.
لكن معظم التظاهرات مهما كانت طبيعتها وأهدافها غالبا ما تواجه عقبات قد تحول دون تحقيق أهدافها وغاياتها السامية، وهذه العقبات لا تقتصر فقط على الآليات الحكومية في التعامل السلبي مع المتظاهرين، بل أحيانا تنشأ العقبات وتكبر نتيجة لإتباع المتظاهرين ولو فئة قليلة منهم أساليب غير مدروسة أثناء قيامهم بعملية التظاهر، الأمر الذي يعقد المشهد ويدخله في نفق المجهول، لذلك فأن مجرد قيام التظاهرات واشتداد قوتها لا يعني أن الحكومة ستستجيب لمطالب المتظاهرين على الفور، بل أنها تحاول التسويف والمماطلة وكسب الوقت وحتى العمل على التحكّم بمسار التظاهرات وبطرق شتّى على أمل انسحاب المتظاهرين من خلال إقناعهم باستجابة شكلية غير حقيقية لمطالبهم الجوهرية.
ومن الطبيعي أن تشهد أي تظاهرات بعض الأعمال والممارسات غير المقبولة نتيجة الحماس والإندفاع الثوري عند بعض المتظاهرين، وهذه الأعمال وأن كانت قليلة في حجمها لكنها قد تؤثر بتداعياتها سلبيا على مستقبل التظاهرات، وهنا أصبح لزاما الانتباه إلى هذه المسألة من قبل القائمين على التظاهرات والعمل على التقويم المستمر لمسار التظاهرات وتحصينها من السلوكيات التي قد تضعف من زخم التظاهرات وتقلل من تأثيرها، وحسب رأيي المتواضع فأن التظاهرات لتكون فاعلة ومؤثرة وتحظى بتأييد واسع وثابت، فلا بد من الأخذ بنظر الاعتبار المسائل التالية:
1- تنظيم التظاهرات والتخطيط للقيام بها لتكون خالية من أي ممارسات غير مقبولة، والتنظيم مهم جدا من حيث الزمان والمكان والوسائل والآليات وكذلك الشعارات المرفوعة والأهداف المتبناة، ويفترض التنظيم من قبل التنسيقيات يجب ان يتم بطريقة تستوعب وتحترم آراء المتظاهرين لضمان عدم حصول الفوضى والتشتت والاختلاف بين المتظاهرين، وعلى المتظاهر ان يلتزم بالخطة الموضوعة كي يكون العمل جماعي ومؤثر.
2- أن توحيد مطالب التظاهرات والتركيز على المشترك منها الذي تتفق عليه أغلب الفئات الاجتماعية، سيسهم في إرغام السلطات (ولو على مضض) على الاستجابة لها طالما أن الجميع يتبناها ويدافع عنها، بينما يؤدي تعدد المطالب وفئويتها وتشتتها إلى صعوبة التفاعل الإيجابي معها من قبل السلطات.
3- التظاهر هو سلوك سياسي ذو بعد اجتماعي يجب أن تتم ممارسته بوعي وفق نظام وآداب عامة ممكن تسميتها بآداب التظاهر -إذا جاز لنا ذلك-، فالالتزام بآداب التظاهر العامة من قبيل السلمية والابتعاد عن العنف والانفعال والتهوّر، والركون إلى العقل والالتزام بالجانب الحضاري للتظاهر، فضلا عن عدم الاعتداء على الأجهزة الأمنية أو الممتلكات العامة والخاصة وعدم تعطيل المصالح العامة، إذ أن التظاهر من أجل الإصلاح يجب أن يعتمد على آليات صالحة وليست مرفوضة، فأن هذا الالتزام من شأنه إعطاء صورة مشرقة ناصعة عن المتظاهرين وسيزيد من حجم التعاطف والتأييد الجماهيري لها، وسيضع السلطات في مأزق كونها ستدرك حجم الرفض الكبير لسياساتها الفاشلة فتضطر إلى التجاوب مع المتظاهرين خانعة ذليلة، والقول بأن السلطات لا تستجيب للتظاهرات المنضبطة يستدعي الرد بأن التظاهرات بوسائل عنيفة توفر تبريراً للسلطات لقمع التظاهرات.
4- إذا صحّت الفكرة القائلة أن اختيار قيادة واضحة للتظاهرات ستؤدي إلى إضعافها ومن ثم تلاشيها كون أن هذه القيادة ستتعرض للتهديد أو التصفية أو حتى الإغراء أو المساومة..الخ، فأن التظاهرات لا يمكن أن تستغني عن النصح والإرشاد والتوجيه والتقويم كي لا تفقد السيطرة على تطور الأحداث التي قد تؤزم وتعقد المشهد، فالمرجعية الرشيدة وآراء العقلاء والحكماء من أبناء المجتمع من الممكن أن تمثل مصدراً موثوقاً لبث النُّصح والإرشاد للمتظاهرين.
5- من الممارسات التي يجب الابتعاد عنها والتي تحمل في ثناياها خطورة التأزيم المجتمعي، هي تخوين الآخر المختلف في الرأي مع المتظاهرين واتهامه بالعمالة أو بصفات غير مقبولة تمس كرامته، فالاختلاف في الرأي والموقف والمصالح بين أفراد المجتمع حالة طبيعية يجب احترامها، وطالما أن الرأي المختلف لا يشكل خطرا أو تهديدا للمصلحة العامة فيجب احترامه، لان عدم احترام الرأي الآخر والإساءة إليه قد يؤدي إلى استفزاز صاحبه ودفعه إلى مناهضة التظاهرات والمتظاهرين وهذا من شأنه خلق الأعداء والمناوئين لحركة التظاهر في وقت تحتاج التظاهرات إلى أكبر عدد من المؤيدين.
6- التصعيد في التظاهرات مطلوب أحياناً لزيادة الضغط على السلطات وإجبارها على الاستجابة للمطالب، لكن يجب ان يتم هذا التصعيد بشكل منضبط ووفق إجراءات مسيطر عليها لكي لا تنفلت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، كما انه من المهم الابتعاد عن قواعد اللعبة الصفرية عند إدارة التظاهرات ضد السلطات، لان إرسال رسائل لكل أركان السلطة بأن نهايتهم ستكون على أيدي المتظاهرين وسيتم تصفيتهم والانتقام منهم أشدّ الانتقام، سيدفع هؤلاء إلى الدفاع عن وجودهم ومكتسباتهم باستخدام شتى الوسائل ومنها وسائل القمع والإكراه غير المشروعة وستكون النتائج كارثية على كل الأطراف وسيخسر الجميع.
7- عندما تندلع تظاهرات شعبية كبيرة في بلد هو محل اهتمام دولي واسع مثل العراق، فأن ذلك سيشجع كثير من الحكومات خصوصا المجاورة وتلك التي لديها مصالح في العراق، إلى العمل بقصد التأثير في مسار هذه التظاهرات وتوجيهها بما يخدم مصالحها، ونتيجة لتداخل وتناقض المصالح الدولية في العراق فأن إعطاء فرصة لهذه الدول للتدخل في الشأن العراقي سيؤدي إلى صراع على النفوذ والتأثير وسينقسم الشعب على أثره إلى أكثر من فريق كل فريق يؤيد دولة معينة وبالنتيجة سينتقل الصراع ما بين الدول إلى صراع مجتمعي تتحكم به اطراف من خارج الحدود وتصبح مفاتيح الحل بأيادي خارجية تضع مصالح دولها فوق مصالح الشعب العراقي، لهذا يجب على المتظاهرين الحذر من الدعوة إلى التدخل الخارجي لإنقاذ الشعب العراقي من ظلم وفساد السلطات، وحتى المنظمات الدولية الفاعلة مثل الأمم المتحدة هي في حقيقتها تابعة أو منقادة لدول فاعلة وقوية في النظام الدولي ولا يمكن أن تعمل في العراق إلاّ بتوجيه وتحكّم من هذه الدول..
وخلاصة القول، إن تقويم مسار التظاهرات وتصويب ما يطرأ عليها من ممارسات غير مقبولة، هي عملية ضرورية لإدامة زخم التظاهرات وتعزيز مقوماتها بما يضمن فرض رؤية المتظاهرين على السلطات وإجبارها على التفاعل الإيجابي معها وفق الأطر القانونية الواضحة.
رابط المصدر: