د. احمد عدنان الميالي
بعد احتجاجات استمرت لأكثر من شهرين، انصبت مطالب المحتجين على إعادة صياغة النظام السياسي العراقي عبر تعديلات دستورية تضمن إرساء شكل السلطة السياسية بما لا يسمح للفوضى السياسية الحاصلة الآن، ولا يسمح للقوى السياسية أن تستحوذ على المجال السياسي ومخرجاته، ويضع مصدات للفساد السياسي والإداري والمالي المستشري داخل العملية السياسية ومفاصل الدولة والمجتمع.
ويجد أغلب المحتجين أن النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي ضالتهم المنشودة، إضافة إلى ذلك، صياغة قانون انتخابات عادل يسمح للقوى المستقلة والأفراد بالولوج للسلطة ومفوضية انتخابات مستقلة استقلالا حقيقيا تعمل على ضمان ذلك، إضافة إلى مطالب أخرى راهنة كتشكيل حكومة مؤقت تعمل على ضمان إجراء انتخابات مبكرة بعد أن يحل مجلس النواب نفسه، وأيضا محاكمة للفاسدين والمتورطين بسوء إدارة أزمة التظاهرات، كل هذه المطالب أكدتها المرجعية الدينية في خطبة الجمعة، لكن هل فعلا المشكلة تكمن بالنظام السياسي والدستور؟ أم بالطبقة السياسية التي أساءت استعمال السلطة المنبثقة منهما؟.
يتفق كل المختصين بالأنظمة السياسية والدستورية أن أفضل أنواع الأنظمة السياسية هو النظام البرلماني، فهو المعبر الحقيقي عن إرادة الشعب ويعطي مساحة واسعة من الحريات ويفتح مديات متعددة للرقابة والتوازن بين السلطات ويرسخ بشكل حقيقي مبدأ التداول السلمي للسلطة ويزيد من وعي المواطن وثقافته السياسية.
ولكن حينما تصل طبقة سياسية مزودة بلقاح الاستبداد والفساد والطائفية والقصور السياسي وتعدد الولاءات، لا يمكن أن تحول هذه الملامح الايجابية للنظام البرلماني إلى سياسات وآليات تنعكس على المجتمع، بل تعمل بشكل آلي على تحويل هذه المزايا إلى الطبقة السياسية وتضع حواجز منيعة ضد العامة من اختراق هذه الحواجز للانتفاع والإطلاع على ما يحصل داخل الغرف المغلقة، والهامش الديمقراطي في النظام البرلماني يسمح في إلقاء المسؤولية على الآخرين والتملص منها واختراع حجج ومخاطر وتهديدات للبقاء وعدم الانجاز، أي تحويل كل ميكانزيمات النظام البرلماني الايجابي إلى ميكانزيمات النظام الطائفي المبني على المحاصصة وتوزيع المكاسب والمغانم على الفرقاء السياسيين، ليكون هذا النظام الذي يحكم بالقوة بشرعية انتخابية قد تكون غير نزيهة، قريبا من خصائص النظام الاستبدادي مما يشكل أزمة نظام مفتعلة بإرادة الطبقة السياسية، لا أزمة من النظام ذاته.
نعم يحتاج الدستور العراقي إلى تعديلات جوهرية لكل الثغرات التي اختبرتها الممارسة السياسية مع تكييفات قانونية قادرة على مواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها العراق بعد 16 عام من تغيير النظام السابق، وحسم العديد من المواد العالقة والقابلة للتأويل ومنها المادة 76 المتعلقة بتفسير الكتلة النيابية الأكثر عددا لجعلها منسجمة مع النظام الانتخابي المقترح إقراره، الذي يفضي إلى اعتماد آلية النظام الفردي لأعلى الأصوات ذو الدوائر المتعددة في المحافظة الواحدة لحسم إشكالات تشكيل الحكومة وقبلها تكليف رئيسها، وأيضا حسم المادة 65 من الدستور المتعلقة بمجلس الاتحاد ليكون النظام برلماني فعلا، لا نيابي فقط، والنظر بمسألة الفيدرالية ومجالس المحافظات وقضية العلاقة بين الإقليم والسلطة الاتحادية والمحافظات وإعادة رسم هذه العلاقة بما ينسجم والواقع السياسي الحالي، ومنها المادة 140 والمواد 111 إلى 115، وكذلك إعادة النظر بالمادة 81 والمادة 61 و 64 المتعلقة بتوضيح آليات استقالة الحكومة وسحب الثقة منها ودور رئيس الجمهورية والمدد الدستورية وماهية بدائل عدم الالتزام بتلك المدد وماذا يحصل، وأيضا تثبيت وضع حكومة تصريف الأعمال وتكييف وضعها الدستوري والقانوني، والأهم من ذلك كله رفع الفيتو الوارد في المادة 142 الخاصة بتعديل الدستور ورهنه بإرادة ثلثي ناخبي ثلاث محافظات وجعل التعديلات الدستورية بأغلبية النصف زائد واحد لجميع ناخبي محافظات العراق ليتحول الدستور العراق من دستور جامد إلى دستور مرن حيوي بالإمكان تعديله حسب المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
هذه التعديلات ضرورية لسحب بساط عجز الطبقة السياسية الحالية عن تطبيق الدستور كما هو، فهي تستغل الثغرات فيه من جهة، وتنتهكه من جهة أخرى، ولم تقدم تنازلات أو حلول، فبعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي عجزت عن اختيار شخصية مستقلة يتوافق عليها الشعب، فكل الأسماء التي طرحت في وسائل الإعلام أو القنوات الخلفية للأحزاب هي شخصيات سياسية ذات ولاء لمن يرشحها حيث حاولت طرح شخصيات محسوبة على الأحزاب الممسكة بزمام السلطة والدفع بمن يضمن مصالحها ويكفل الحفاظ على نفوذها، كما تعثر إقرار قانون الانتخابات المنشود رغم انه يتضمن فقرات لا تنسجم ومطالب المتظاهرين ولا تحاكي الواقع السياسي وتبقي على الطبقة السياسية ذاتها في العملية السياسية بدل من قطع الطريق أمامها، وهذا يثبت أن هذه الطبقة بعيدة عن نبض الشارع، إذ تم كسر نصاب الجلسة المخصصة لإقرار قانون الانتخابات والانسحاب منها، وتحوّلت عملية البحث في تشريع القانون المنشود وإقراره، إلى بحث حزبي حول الطريقة التي يتم من خلالها ضمان الحفاظ على مكتسبات الأحزاب السياسية وحمايتها من أيّ ضرر قد يطالها بموجب أي قانون انتخابي جديد.
إذن فأزمة النظام السياسي لم تكن وليد شكل الحكم والسلطة المقننة بالدستور، بل أزمة أداء الطبقة السياسية التي حولت طبيعة هذا النظام إلى نظام قائم على أساس المحاصصة الطائفية والسياسية والتوافقية مستغلة الثغرات الدستورية والقانونية لتغطية العجز في إيجاد حلول ومعالجات للإحباطات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية لتستأثر بالسلطة والمصالح عبر التشبث بالهويات والمذاهب والخوف من الآخر ووضع الهاجس الأمني شماعة لعدم تقديم أي شيء لتكون خانة ممارسة الفساد والسكوت عنه بديلا عن خانة الإنجاز والنجاح.
راهنت هذه الطبقة السياسية على فكرة خنوع وقبول العراقيين بهذا الواقع، بعد إدخالهم بالمتاهة الطائفية واعتقدت أنهم لم يحركوا ساكنا وأنهم سيدخلون في غيبوبة عن الوضع السياسي ولن يطالبوا أكثر من كهرباء وماء وفرص عمل، لكن مشاهد ساحات التظاهرات ألغت هذا الانطباع تماما وبرز في العراق جيل جديد أنهكته الأزمات وافترسته الطائفية والفساد ليعيد من رحم الخراب فرصة إعادة تشكيل عراق جديد مما صعق القوى السياسية بعد أن تيقنوا استقامة الأمر لهم فأخذتهم الدهشة من جرأة وتمرد هذا الجيل، وتضامن شرائح المجتمع كافة معهم ليخرق الصمت وتسقط الخطوط الحمر التي وضعوها على شماعة النظام السياسي، في حين أن من قطع أوصال الوطن وشوه صورة النظام السياسي وانتهك الدستور والقانون هي الطبقة السياسية الحاكمة منذ عام 2003.
إن المتظاهرين على وشك أن ينجزوا انتصارا جديدا على تلك الطبقة السياسية بعد نصرهم المتمثل بسقوط الحكومة ومفوضية الانتخابات، يتمثل بإسقاط قانون الانتخابات المعمول به حاليا والذي كان سببا في هيمنة الأحزاب على السلطة، وتشريع قانون انتخابات جديد يجبرهم على إجراء انتخابات مبكرة، يفرز قوى سياسية جديدة قادرة على تجاوز أزمات النظام السياسي المفتعلة، ولكن هل سيرضخ هؤلاء ويسلمون السلطة؟ أم سيناورون ويلتفون على المطالب ليبقوا في صدارة العملية السياسية؟.
رابط المصدر: