قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي
محمد علي جواد تقي
مقدمة
هناك فرقٌ كبير بين مفردة “السلم”، ومفردة “الأمن”، وفي معظم الاحيان نلاحظ أن الناس يستريحون أكثر الى المفردة الثانية، ويعدونها من أسياسيات حياتهم، وهي انعكاس لمطلب نفسي مغروز في الانسان، لان نقيض الأمن؛ الخوف، أما السلم فيغيب عن ذهن الكثير من افراد المجتمع، والسبب أن الأمن ليس للناس دورٌ مباشر في تحقيقه، إنما هو من مهام الدولة والقيادة السياسية، بينما السلم يكون للناس مدخلية في نشره كثقافة وسلوك فيما بينهم، من خلال العفو والتسامح وغضّ الطرف، ليتحقق بذلك السلم الأهلي الذي يتحدث عنه سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي.
لنقرأ، ثم نستمع معاً:
السلم الأهلي لا يأتي بالمجان
“نتكلم عن العلاقات الاجتماعية القائمة على السلم الذي يعطينا نتائج محمودة، وإن كان تطبيق هذا السلم في بداية الأمر صعباً، لان السلم بحاجة الى ضبط النفس، ويحتاج الى عفو و إغماض، ويحتاج الى مقدرة نفسية يتصرف فيها الانسان حسب ميزان الحَسَن، وحسب الذي هو أحسن، وهو ما جاء في قوله تعالى ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))، بمعنى أن الثقة التي هي أحسن ليست شأن كل انسان، انما يتحقق مع غاية الغضّ، ومع غاية الصبر، لاسيما في المواقف الصعبة.
من جانب يكون الانسان ميالاً الى الانتقام باللسان والقلم وغيرها ممن يلحق الأذى به، ومن جانب آخر، يتعين عليه الاهتمام بهدفه في الحياة، وأن يضع نصب عينيه أن الانتقام يسبب ضياع الهدف، وليس كلامنا في تنفيذ عملية الانتقام او عدمها، انما المهم في تسليط الضوء على مفهوم السلم الذي يمثل عدم الانتقام، أو العفو، أحد مصاديقه، الانتقام وعدم الانتقام، لذا نجد الانبياء والأئمة يجنحون للسلم، ليس فقط في وقت تعرضهم للظلم والقمع والاعتقال، بل وفي ذروة قوتهم واقتدارهم، كما حصل في فتح مكة بين النبي الأكرم، وكفار قريش، وفيما بعد؛ بين أمير المؤمنين، ومعارضيه ومن كفره وسلّ السيف بوجهه”.
ما الذي يهدد السلم الأهلي؟
من جملة العوامل؛ يقف الغضب في مقدمتها مهدداً الاجواء السلمية في العلاقات الاجتماعية، وهو حالة نفسية تتولد من تراكم الفشل في الحوار البناء مع الذات، ثم الفشل في بناء علاقات حسنة مع الآخرين.
ربما يلاحظ الناس من البعض الغضب باللسان، وبالسلوك، وحتى بقسمات الوجه دون أن يمسه أحد بسوء، فهو يستبق المبررات بغضبه وحنقه على الآخرين، وكون المشكلة ذاتية، يصعب اقتراح حلول خارجية لها، بل أي تدخل خارجي، كأن يكون؛ النصح، او الارشاد، و حتى باللسان اللين والمنطق الجميل، ربما يعطي نتائج عكسية عندما يجد البعض أن هذه محاولة – وإن كانت غير مقصودة- لإماطة اللثام عن مواطن الفشل والثغرات الكامنة في هذه النفس المأزومة، لذا يكون التمسك بحالة الغضب أكثر.
تحول الغضب الى عنوان ثابت للسلوك الفردي يجعل السلم الأهلي في مهب الريح، وبدلاً من التسامح والعفو وغضّ الطرف، يكون الغضب والانتقام هو طريق معالجة المشاكل فيما بين افراد المجتمع، لاسيما وأن العقل لن يكون له مكان وسط الانفعالات الشديدة، فتأتي القرارات متسرعة ومدمرة، كما هو الحال في حالات الانتقام والثأر بسبب مشاكل معينة، أو كما نلاحظه من حالات انتقام من المجتمع على يد افراد او جماعات لما يعانوه من تهميش وإقصاء، بل وتحقير.
واذا اردنا حلاً لمشكلة الغضب المتفشي، لابد من العودة الى المنشأ، لذا نلاحظ سماحة الامام الشيرازي يسلط الضوء على آلية ذاتية لكبح جماح الغضب، فيوصي بالتغيير الذاتي في ضوء بصائر القرآن الكريم، فحالة ضبط النفس، ولجم مشاعر العداء والخوف، كلها حالات قابلة للتنمية النفسية حتى يكون الانسان ذو “مقدرة نفسية يتصرف فيها وفق ميزان “الحَسَن”، و”الأحسن”، كما يقول سماحة الامام الشيرازي، مستشهداً بالآية الكريمة: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))، (سورة فصلت، 34)، فالمعيار هنا؛ ليست النتيجة السريعة بالتشفّي من الطرف المقابل، بقدر ما أن الأهم؛ البحث عن الأحسن لمواجهة الفعل السيئ، وليس رد السيئ بمثله.
ويؤكد سماحته على أن المهمة لن تكون سهلة، بيد أنها ليست مستحيلة إن عزم صاحبها عليها، وعندما يتخذ قراره الحازم بالتزام الصبر وغضّ النظر اذا لحق به أذى او ضرر، وهذا لا يعني –بأي حال من الاحوال-الاستسلام أمام الظلم والطغيان السياسي، وايضاً الاقتصادي، ولا التساهل مع الأخطاء في الشارع، إنما المهم لجم جماح الغضب بالصبر، وضبط النفس، و الاعصاب لإفساح المجال للعقل حتى يستعيد قوته وسيطرته على مجريات الامور.
نموذج عملي
عندما تقول للشخص الغاضب: “لا تغضب”، بماذا سيجيبك؟
هل سيغير حالته الى الهدوء فوراً، والاعتذار عما بدا منه؟!
حالة الغضب التي ينفر منها المجتمع تحتاج الى نموذج عملي يدلّ الغاضبين على كيفية ضبط النفس، ثم تبيين الفوائد على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي عندما يتحدث عن خطورة الغضب في ضياع الاهداف في الحياة، والانزلاق في متاهات الفوضى، وللحؤول دون ذلك، ثم يدعو سماحته الى الجنوح الى السلم، كما فعل الانبياء والأئمة، عليهم السلام، -يقول سماحته- تطبيقاً للآية القرآنية: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)) (سورة الأنفال، 61).
إن السلم الأهلي الذي صنعه النبي الأكرم، ومن بعده؛ أمير المؤمنين، للأمة، واجه تحديات جمّة، أبرزها مثيرات الغضب، بل والانتقام من المخطئ والمجرم، لذا ذاب الغضب في تلك الحقبة الذهبية من تاريخ الاسلام في الاهداف العظيمة والحضارية في صنع مجتمع آمن ومتماسك، مثال ذلك؛ الانتقام من قاتل حمزة، والنبي الأكرم، لن يكون ملاماً على ذلك بعد فتح مكة، بيد إن إخلاء سبيل القاتل كان له مردود أكبر وأعظم بكثير من مجرد تطبيق القصاص على ذلك العبد المأجور، فهو مات على كل حال، ولكن؛ لو كانت موتته بانتقام الرسول وتشفياً مما لاقاه من الحزن على عمه، كان سيغيب العفو عن ثقافة المجتمع الاسلامي، و يرغب على الانتقام والثأر على طول الخط.
والى جانب هذه القدوات الحسنة، بامكان اطراف عديدة في المجتمع ترسيخ حالة السلم وكبح جماح الغضب في النفوس، مثل؛ الأسرة والمدرسة، وايضاً المؤسسات الثقافية والدينية التي من شأنها تنمية هذه الحالة في النفوس، والتأكيد على اهميتها القصوى في توفير الحياة التي يبحث عنها الجميع، ثم تبيين مخاطر الغضب وإطلاق نزعات الانتقام والثأر على السلم والاستقرار في المجتمع.
إن تنشئة الطفل في كنف الأسرة، وفي محيط المدرسة على أن يكون مسالماً لا عدوانياً، وأن لا يغلب غضبه، عقله وسلوكه، سينتج للمجتمع وللأمة افراداً ليسوا مسالمين وحسب، بل وبنائين ومنتجين، يحبون العلم والمعرفة وميالين الى الابداع والتطور، متجاوزين التفاوت الطبقي الذي يعصف احياناً ببعض المجتمعات، او وجود بعض الاختلاف والتفاوت في مستويات الذكاء وايضاً في القدرات والامكانات فيما بين الابناء، وحتى نتخلص من كل ما يهدد السلم الأهلي من أفعال الافراد او الجماعات المملوءة غضباً وحقداً من حيث لا تشعر.