مسلم عباس
من اهم منطلقات الاحتجاجات الشعبية هي المطالبة بوطن يحفظ كرامة الانسان، وهو مطلب وان كان شديد العمومية الا انه يحمل في طياته ايجاد دولة مؤسسات على الطراز الغربي الحديث، دولة علمانية تبعد الأحزاب الدينية وتحارب حتى المؤسسة الدينية بطريقة مخففة عبر أساليب مختلفة.
واذا ذهبنا بعيدا في التفصيل نجد ان الدولة الحديثة التي يتم المطالبة بها تتضمن عدة مرتكزات، هي ضرورة وجود قوانين عادلة والتطبيق المتساوي لها، ووجود سلطة قوية لتطبيق القانون، مع سلطة للرقابة، بالاضافة الى الرقابة البرلمانية والاعلامية والشعبية، ويجمع كل هذه المرتكزات الثقافة الشعبية.
في تفصيل القوانين العادلة يكفي النظر الى الدستور العراقي الذي يصنف المواطنين الى فئات ومكونات وطوائف، ويخصص امتيازات لنواب البرلمان، اما اهم قانون يسمح بانتخاب المجلس التشريعي (مجلس النواب) فهو اكثر اشكالية من الدستور، اذ ياخذ مجلس النواب على عاتقه تشريع القوانين الاخرى التي تنظم حياة الناس وتؤسس للدولة الحديثة، فالخطوة الاولى لبناء الدولة كانت خاطئة.
اذا كان القانون الاول غير رصين، ولا يتعامل مع الشعب وفق المواطنة انما وفق المكونات والطوائف، ويركز على هذه المفردة في اكثر من مرة، فان تطبيقه لا يمكن ان يحقق العدالة المجتمعية، بل سياخذ امر المكون الطائفي او القومي، وبالنزول الى قانون الانتخابات تذهب الدولة في ثقب اسود من الاخطاء والانحيازات التي تسمح بصعود شخصيات سياسية محددة يراد لها ان تشغل مسؤوليات كبيرة.
نعبر الى الخطوة الثالثة وهي وجود سلطة لتطبيق القانون، فمن هي السلطة اليوم؟ الحكومة واجهزتها، وهي ممنوعة من تطبيق القانون لانها تولد من رحم البرلمان في تقليد غريب لا يوجد في الدول الحديثة، فقد نجد ان الحكومة والوزراء يعينهم البرلمان وهذا طبيعي، لكننا اليوم امام اعضاء في البرلمان بالاضافة الى صلاحياتهم الواسعة يتدخلون في امور تعيين اجهزة الحكومة الرسمية وتعيين صغار الموظفين والمدراء.
الى هنا يتبين اننا امام مشكلة جوهرية وهي ازمة الرقابة، فالبرلمان الذي جاء من رحم قانون غير عادل ودستور غير عادل، وحكومة لا تصون ما تبقى من عدالة في الدستور، هل يمكن لهذا البرلمان ان يراقب؟ وهل يمكنه ان يكون امبنا في ادائه وتنفيذ واجباته؟ الواقع يقول ان برلمان العراق غير مؤهل لهذه المهمة، وهو المتسبب الاول فيما وصلت اليه البلاد من ازمات وتراكمات في الفشل.
ما تبقى امام العراق من امل للحفاظ على كيان الدولة هو الشعب عبر رقابته وصرامته في نقد اداء السلطات التنفيذية والتشريعية، لكن حبل الوصل مقطوع، وهو وسائل الاعلام التي يتحتم عليها نقل ما يجري في اروقة السلطة الى الشعب، لان وسائل الاعلام نفسها مملوكة لجهات مستفيدة من تازيم الاوضاع بشكل دائم.
وبما اننا نفقد وسائل الاعلام النزيهة القادرة على تشكيل الوعي المجتمعي، فانها تقوم بتشويه الثقافة نفسها، وتحريف الوعي، وتزييف الحقائق، ما يجعل رقابة المواطنين على نوابهم في البرلمان عملية شبه مستحيلة، فالاصل في الرقابة انها تاتي من خلال المعلومات، واذا فقدت المعلومة لم يعد للرقابة معنى الا في اطار التنظير المثالي.
المهمة الاصلاحية لتحويل العراق الى دولة حديثة ليست سهلة اطلاقا، والطريق طويل للوصول الى الخطوة الاولى نحو الاصلاح، هناك دستور يجب تعديله، وهناك قوانين اخرى يجب اعادة النظر بها، ولاسيما القانون الاهم وهو قانون الانتخابات، وهناك تنظيم لاختصاصات السلطات وضرورة الفصل بينها، وما بعد كل هذا يجب ان تكون هناك وسائل اعلام نزيهة قادرة على تصوير ما يجري بكل امانة ونقله الى الجمهور.
لكن هل نحن قادرون على صناعة الاصلاح وفق هذه الخطوات؟ المعطيات تقول ان التدخل الخارجي، وقوة الاحزاب والجماعات المسلحة، فضلا عن غياب وسائل الاعلام يجعل من كلمة الاصلاح نوع من احلام اليقظة ولا يمكن التفاؤل اكثر مما نرى اليوم من فوضى وغياب لدور الدولة وجنوحها نحو الانهيار الكلي.
رابط المصدر: