وساطة هشة بين طهران وواشنطن: حدود الدور الياباني بعد تعثر الدبلوماسية الأوروبية

منذ رفض أميركا المصادقة على “اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة” المعروفة أيضًا بـ”الاتفاق النووي” بين إيران ودول مجلس الأمن الخمسة زائد ألمانيا، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، ثم الانسحاب منها في مايو/أيار 2018، والعلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية تواصل التأزم الذي وصل إلى حدود لم تشهدها العلاقات منذ عقود، لتبقى تراوح في حالة يمكن وصفها بحالة الـ”لا حرب واللا سلم“.

كان من نتاج العقوبات الأحادية الأميركية تدهور الاقتصاد الإيراني، وتراجع الصادرات النفطية بصورة تتجاوز ضغط دورة العقوبات الاقتصادية التي سبقت التوقيع على الاتفاق النووي. تلت العقوبات الأميركية والضغط الذي نتج عنه تهديدات متبادلة بين طهران وواشنطن وعملية تصعيد عسكري في منطقتي الخليج ودول المشرق من خلال سلسلة هجمات عسكرية استهدفت مواقع عسكرية أميركية وأهداف دول حليفة. اتهمت دول ومراقبون إيران بالوقوف وراء هذه الحوادث وهو الأمر الذي تنفيه الأخيرة. كانت تلك الحوادث دافعًا لضغوط دول عدة لفتح قنوات للتواصل والوساطة، سواء إقليميًّا أو دوليًّا. يناقش هذا التقرير مبادرة الوساطة الأوروبية التي تقودها فرنسا وجهود اليابان في فتح قناة تواصل بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، ويرصد حدود الدور الإسنادي الذي تلعبه طوكيو لصالح الوساطة الأوروبية.

1. الوساطة الأوروبية وأسباب تعثرها إلى الآن 

تحركت فرنسا لنزع فتيل الأزمة النووية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بعد فشل مساعي الثلاثي الأوروبي، أي فرنسا وبريطانيا وألمانيا، في إقناع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالبقاء في الاتفاق. ونتج عن عدم وفاء أوروبا بجزء من التزاماتها ضمن الاتفاق النووي في 2019 ومسعى الولايات المتحدة الأميركية لتقويض الاقتصاد الإيراني نفاد صبر طهران وتقليص التزاماتها النووية وزيادة نشاطاتها منذ يوليو/تموز 2019(1)، وهو ما ألحقته طهران بخطوة أخرى، في سبتمبر/أيلول 2019، ثم في نوفمبر/تشرين الثاني 2019(2)(3)، مع خطوات أخرى محتملة قد تفصح إيران عنها وتنفذها في 2020.

ولإيجاد مخرج للأزمة، جاءت الخطوة الأولى من الجانب الأوروبي في عام 2019، وتناقلت وسائل الإعلام أخبارًا عن محاولة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فتح قناة تواصل مباشرة بين الرئيس حسن روحاني والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر الهاتف، ولكنه فشل فضلًا عن فشل مسعاه لعقد لقاء بين الأخير ووزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في أغسطس/آب 2019(4). وأما الخطوة الثانية، فكانت صفقة وصل وفد إيراني إلى باريس لمناقشتها في بداية سبتمبر/أيلول 2019، وتضمنت تقديم 15 مليار دولار لإيران كخط ائتمان مقابل عودة طهران للوفاء بالتزاماتها النووية في الوقت الذي تجمد فيه عوائد صادرات النفط الإيرانية في المصارف العالمية، ولكن لم تكلل المحاولة بالنجاح إلى الآن(5). وأما الخطوة الثالثة فكانت محاولة إطلاق مفاوضات متعددة الأطراف تقوم على مناقشة الأسلحة النووية، والملف اليمني، والأمن الإقليمي، والملاحة البحرية، والعقوبات على إيران لتشمل إيران، وأوروبا، والولايات المتحدة الأميركية، والصين، ودولًا في الإقليم(6)، وهي ذاتها مبادرة “الأربعة أعمدة” التي اقترحها ماكرون، في أبريل/نيسان 2018، في زيارة لواشنطن قبل انسحاب ترامب من الاتفاق النووي(7). وتتعدد الأهداف الأوروبية من الوساطة ومحاولة نزع فتيل الأزمة، لتشمل ما يتعلق بسياساتها العابرة للأطلسي، سياستها المحلية وأمن أوروبا الاقتصادي.

ويشكِّل انهيار الاتفاق انتكاسة دبلوماسية في العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من جهة وبين أوروبا وإيران من جهة أخرى، وتوسع فجوة عدم الثقة بين أوروبا والبلدين وتجعل من التعاون حول ملفات سياسية وغير سياسية منفصلة عن الملف النووي مع كل من واشنطن وطهران أكثر صعوبة. اقتصاديًّا واستراتيجيًّا، حملت حوادث ضرب الناقلات النفطية في الخليج في الخليج، منذ صيف عام 2019، تهديدًا لأمن الملاحة وبالتالي أمن الإمدادات النفطية لأوروبا. ومن جهة أخرى، فإن حربًا بين إيران والولايات المتحدة الأميركية ذات امتدادات إقليمية تهدد بإطلاق موجات ضخمة من الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط وتركيا إلى أوروبا. وستزيد موجات الهجرة من الاستقطاب السياسي في الداخل الأوروبي من جهة، ومن جهة أخرى ستؤدي لتأزيم العلاقات الأوروبية-التركية أكثر.

وأيًّا ما كانت قوة الدوافع الأوروبية لنجاح وساطات فرنسا بين إيران والولايات المتحدة الأميركية فهي ليست العامل الوحيد المؤثِّر في إمكانيات نجاح مساعي الوساطة. وفيما يتعلق بإيران، فهناك عوامل تقلِّل من فاعلية مساعي الوساطة الأوروبية، وأهمها:

أولًا: هناك عدة محددات داخلية تقرر إمكانية البدء في مفاوضات جديدة، وأهمها الإجماع المحلي على أهمية رفع العقوبات أولًا، وهو ما لم يستطع الفاعلون الأوروبيون تحقيقه حتى الآن، ليسمح ببدء مسار تفاوضي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية.

ثانيًا: بينما تعكس سياسات إيران وخطابات مرشدها عدم ثقة كبيرة تجاه أوروبا فإن عدم قدرة أوروبا على الوفاء بوعودها الاقتصادية لإنقاذ الاتفاق النووي كإطلاق القناة المالية للتجارة “إينستكس” (INSTEX) يعمق من أزمة الثقة التي تشوب علاقة الطرفين(8).

ثالثًا: من أجل محاولة إقناع ترامب ببقاء الولايات المتحدة الأميركية في الاتفاق النووي قبيل انسحابها منتصف عام 2018، توافق الثلاثي الأوروبي مع الولايات المتحدة الأميركية على تبني سياسات أكثر تقاربًا تجاه الملفات الأمنية التي تتعلق بإيران في الإقليم. ووفقًا لتقرير لمنظمة “مجموعة الأزمات الدولية”، التقي مفاوضون من الثلاثي الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية أربع مرَّات، بين فبراير/شباط وأبريل/نيسان 2018، اتفق فيها الثلاثي الأوروبي مع الولايات المتحدة الأميركية على مواقف محددة فيما يتعلق بدور إيران في الإقليم وبرنامجها للصواريخ الباليستية وتعزيز جمع المعلومات الاستخبارية عن برنامج إيران النووي لإقناع ترامب بالبقاء في الاتفاق(9).

2. الدور الياباني ودوافعه

مع ازدياد التصعيد في الخليج، انضمت اليابان إلى جهود فتح قنوات التواصل بين إيران والولايات المتحدة الأميركية لنزع فتيل الأزمة بينهما. بدأت جهود اليابان المعلنة، في يونيو/حزيران 2019، بزيارة رئيس الوزراء الياباني إلى طهران ولقاء المرشد الإيراني، علي خامنئي، لتسليم إيران رسالة مكتوبة من الرئيس الأميركي، ترامب. قررت اليابان لاحقًا، في أكتوبر/تشرين الأول، إسناد مبادرة الوساطة الفرنسية ورفع خط الائتمان من 15 إلى 18.4 مليار دولار(10). مؤخرًا، زار الرئيس، حسن روحاني، اليابان، في ديسمبر/كانون الأول 2019، ضمن جولة آسيوية وهي الأولى من نوعها لرئيس إيراني منذ عام 2000، إلا أن لقاءه برئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، يعد الثالث خلال 2019(11). وهناك توقعات بكون زيارة روحاني تتعلق بجهود فتح قنوات التواصل وإسناد الوساطة الأوروبية المتعثرة وذلك إلى جانب ملفات أخرى ناقشها آبي كضرورة التزام طهران بالاتفاق النووي، وإبلاغ قلقه من تعامل السلطات مع الاحتجاجات في طهران، والإفراج عن مستحقات مالية إيرانية في المصارف اليابانية، وإطلاع روحاني على خطط طوكيو الأمنية في الخليج(12).

وتتوزع الحوافز اليابانية للإسهام في نزع فتيل الأزمة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بين حوافز اقتصادية، وجيو-استراتيجية، وأمنية نجملها في التالي (لا يعكس الترتيب التالي أهميتها النسبية بالضرورة):

الحافز الاقتصادي: تعتمد اليابان على منتجي منطقة الخليج لاستيراد النفط الخام والغاز الطبيعي المُسال بصورة تجعل التصعيد العسكري في الإقليم ذا خطورة على أمن الإمدادات من الخليج لليابان ومن ثم أمنها الاقتصادي. ولذلك، يصب خفض التصعيد الإيراني-الأميركي بوساطة يابانية في تحقيق استقرار أمن اليابان الاقتصادي. وفقًا للإدارة الأميركية للطاقة، شكَّلت السعودية، والإمارات، وقطر، والكويت، وإيران 34%، 25%، 8%، 8%، 5% على التوالي مصادر واردات النفط الخام اليابانية في 2015 (13). أي شكلت واردات النفط اليابانية من الخليج في ذلك العام 80% من مجموع وارداتها. ويعكس إحصاء يورده تقرير لمعهد “أوكسفورد لدراسات الطاقة” ازدياد الاعتمادية اليابانية على منتجي الخليج في 2016؛ إذ زوَّد منتجو “منظمة أوبك” في منطقة الشرق الأوسط اليابان بما يصل إلى 87.2% من احتياجاتها من النفط(14)(15). وأما في مجال الغاز الطبيعي المُسال، فقد شكَّلت كل من قطر، والإمارات، وعُمان 15%، 6%، 3% من مجموع واردات اليابان في عام 2016. وهو ما يعني أن مورِّدي الخليج شكلوا 24% من الواردات اليابانية في ذلك العام من الغاز الطبيعي المٌسال، أي ربع الاحتياج الياباني تقريبًا. ووفقًا للإدارة الأميركية، شكلت المواد البترولية والغاز 42% و23% من مجموع الاستهلاك الياباني للطاقة في 2015.

الحافز الجيو-استراتيجي: ترغب اليابان في مناوأة تمدد مبادرة “الحزام والطريق” الصينية في الشرق الأوسط من خلال زيادة بصمتها الاقتصادية في الإقليم ومنطقة الخليج (16). إذا نجحت اليابان بالشراكة مع دول أخرى في نزع فتيل الأزمة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية ومن ثم المساهمة في رفع العقوبات الأميركية في النهاية، فسيكون لليابان نصيب من الاستثمار في إيران التي باتت الصين تتمتع بنفوذ اقتصادي فيها لقلة البدائل المتوفرة لإيران، على الرغم من تقدير بعض المراقبين عدم تمتع إيران بأهمية كبيرة بالنسبة للصين من الناحية الاقتصادية. وترغب اليابان في لعب دور اقتصادي في مشروع ميناء تشابهار الإيراني الرابط بين الهند وأفغانستان (المنافس لميناء جوادر الباكستاني المدعوم صينيًّا) بالتوازي مع تقارب ياباني-هندي في مواجهة الصين(17) . وأما في مجال الطاقة، فإذا استطاعت اليابان معاودة استيراد النفط الإيراني والاستثمار في قطاع النفط في إيران، فإنها قد تتمتع بموقف تفاوضي أفضل حول السعر قبالة منتجي النفط الآخرين من المنتجين العرب في الخليج وقد تحصل على تنازلات نفطية/استثمارات في سياق مساعي بعض هذه الدول إبعاد اليابان عن غريمتهم إيران.

الحافز الأمني: مدفوعة برغبة متصاعدة بلعب دور أمني في منطقة الخليج، بضغوط أميركية، وربما مزاحمة الوجود البحري المتزايد للصين في محيط منطقة الخليج أيضًا، أعلنت طوكيو أنها تنوي إرسال “قوات حماية ذاتية” للخليج ولكن بهدف التحقيق والبحث(18). ومن خلال مناقشة طوكيو لخططها العسكرية في الخليج مع إيران في سياق متصل بتيسيرها التواصل بين إيران والولايات المتحدة الأميركية فإنها تطمح إلى المضي قدمًا في تمرير أجندتها الأمنية بأقل قدر من التوترات مع طهران. وقد أعلنت طوكيو بعد زيارة روحاني عن إرسال قوات لها للخليج لحماية مصالحها بشكل منفصل عن المبادرتين البحريتين الأميركية والأوروبية في الخليج(19).

أ- فرص نجاح مسعى الوساطة اليابانية

هناك ثلاثة مقومات تتعلق باليابان قد تؤثر على مسعاها لتيسير التواصل بين إيران والولايات المتحدة الأميركية ولعبها دور إسناد للوساطة الأوروبية (ولا يعكس الترتيب التالي أهميتها النسبية بالضرورة):

الميراث التاريخي للعلاقات الثنائية: تتمتع اليابان وإيران بعلاقات ثنائية توصف بأنها “ودية” منذ تأسيسهما لعلاقات دبلوماسية في 1929. في ستينات القرن الماضي كانت إيران ثالث أكبر مورِّد للنفط لليابان. وفي أثناء الحرب الإيرانية-العراقية، اتخذت طوكيو موقفًا محايدًا لفترة ترافقت مع محاولة وساطة بين البلدين (أُفصِّلها أكثر في النقطة التالية). اضطرت طوكيو لتغيير مواقفها المبدئية تحت ضغط من واشنطن إلا أنها رفضت المشاركة عسكريًّا في عمليات في الخليج(20). وفي إطار الأزمة النووية الخاصة بإيران، لم تتخذ طوكيو مواقف “صقورية” تجاه إيران في الأمم المتحدة. وأما في سياق الأزمة السورية، أبعدت طوكيو نفسها عن المعارضة السورية بعد “عسكرة” الأخيرة إلا أن طوكيو التزمت بخط غربي تجاه الحكومة السورية بفرض عقوبات(21) . فبالرغم من وجود تحالف تاريخي بين اليابان والولايات المتحدة الأميركية، قد تيسِّر مواقف طوكيو التي يمكن وصفها بـ”الناعمة” تجاه طهران من مساعي اليابان الدبلوماسية.

ميراث وساطات سابقة: لطوكيو تاريخيًّا سجل إيجابي في المشاركة في وساطات تهدف لحل نزاعات منذ منتصف القرن الماضي. مثال لذلك يتضمن الدور الفعال الذي لعبته طوكيو في الوساطة لحل نزاع إقليمي بدأ في 1963 كانت كل من ماليزيا، وإندونيسيا، والفلبين طرفًا فيه بسبب ضم ماليزيا جزرًا في جنوب شرق آسيا ضمن رقعتها الجغرافية(22). وأما في سياق منطقة الخليج، فقد سعت اليابان إبَّان الحرب العراقية-الإيرانية إلى الوساطة بين الطرفين لوجود مصالح اقتصادية في البلدين (كانت اليابان تستورد 10% من نفطها من إيران، أما العراق فكان أكبر سوق لشركات الإنشاء اليابانية وسوقًا كبيرة لتصدير آلاتها)(23) .

درجة التوازن: تقيم اليابان علاقات أكثر “ودية” مع إيران مقارنة بالثلاثي الأوروبي، وأغلب الظن أن طهران ترى في طوكيو طرفًا دوليًّا أكثر نزاهة وتوازنًا مقارنة بأوروبا فيما يتعلق بالملف النووي. وهذه المقومات التي تتميز بها اليابان من حيث سمعتها في العلاقات الثنائية الودية وسمعتها كوسيط تعد مهمة في فتح وإبقاء قناة دبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. ولكن نجاح اليابان في دورها الإسنادي لأوروبا سيعتمد على عدم تصور إيران أن طوكيو تشترك في لعبة “الشرطي السيء والشرطي الجيد” التي ترى أن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا يستخدمانها ضدها. إذا استطاعت طوكيو الإبقاء على مواقفها وصورتها أمام طهران كلاعب دولي متوازن فإنها قد تحقق مكاسب دبلوماسية.

ب- مقاربات إيرانية للدور الياباني

على الرغم من رفض آية الله خامنئي تلقي رسالة ترامب، في يونيو/حزيران 2019، عبر آبي، إلا أن قبول طهران باليابان كقناة تواصل قد يكون نابعًا من الدوافع التالية: أ(على الرغم من عدم انفصال المسعى الياباني عن الأوروبي في حل الأزمة بين إيران وأوروبا، إلا أن طهران لا ترغب في ازدياد نفوذ أوروبا بوجودها كطرف وحيد في رأب الصدع الإيراني-الأميركي. ب) شراء طهران المزيد من الوقت بقبول فتح أكثر من قناة حتى تحقق مكاسب جيوسياسية في الإقليم تمكِّنها من المفاوضة بأوراق أقوى. ج) أغلب الظن أن طهران ترغب في الإبقاء على قنوات متعددة للتواصل مع واشنطن وذلك لأن هناك قنوات تواصل توفرها عواصم إقليمية مهددة بالإغلاق لأسباب قد تتعلق بخلافة الحكم (مسقط) أو أسباب جيوسياسية وأمنية (الدوحة، وبغداد، وإسلام أباد). د) رغبة طهران في أن تعاود شركات طوكيو الاستثمار وزيادة حجم التجارة غير النفطية بين البلدين (الشكل رقم 1).

الشكل رقم (1)

المصدر: منظمة تنمية التجارة الإيرانية (24)
المصدر: منظمة تنمية التجارة الإيرانية (24)

وتوجد عدة مقاربات إيرانية لدوافع ونتائج زيارة روحاني لطوكيو، في ديسمبر/كانون الأول 2019. يرى مثلًا سيد محمد حسين ملائك، كاتب وسفير إيران السابق في الصين وسويسرا، أن زيارة الريس روحاني لليابان لا تتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين وأن أبعادًا أخرى تهيمن على هذه الزيارة. ويحلِّل ملائك هذه الزيارة في خمس نقاط(25):

أولًا: إذا كانت اليابان قد أرسلت لإيران دعوة للزيارة فهذا يعني أن لدى الولايات المتحدة الأميركية خطة تفاوضية جديدة.

ثانيًا: أن سفر روحاني لليابان هو رسالة يريد الرئيس أن يرسلها للعالم ومفادها أنه تم تحريك مؤامرة كبيرة بعد رفع سعر المحروقات ولكن الدولة تغلبت عليها والآن عادت بكامل قوتها في السياسة الخارجية وأن قبول دولة في المعسكر الغربي لمسؤولين رفيعي المستوى يعني أن مسائل كحقوق الإنسان وغيرها لم تكن مانعًا للتواصل.

ثالثًا: يشير ملائك إلى تقرير لـ”الرأي اليوم” نقل فيه خبر مفاوضات بين الطرفين حول إفراج طوكيو عن 19 مليار دولار كمستحقات إيرانية محجوزة. يقول ملائك إنه إذا صح الخبر فإن الإفراج عن هذا المبلغ سيكون مقابل ضمانة إيرانية كبرى للولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه يستبعد ذلك الأمر.

رابعًا: إن خط الائتمان الذي عرضته اليابان بالشراكة مع أوروبا لا يمكن أن يكون بمخالفة الإرادة الأميركية.

خامسًا: إن إيران ترغب في التفاوض في ظل حملة “الضغط الأقصى” الأميركية ولكن الذهاب إلى نيويورك من أجل هذا سيكون ذا كلفة وله عائد ضعيف. والمشهد الداخلي في إيران يؤشر إلى الحاجة لتأمين الجبهة الداخلية أولًا. في حالة صحة هذا السيناريو، فإن هناك مفاوضات أولية وإن الرئيس يتولاها بنفسه عوضًا عن وزير الخارجية في هذه المرحلة.

وأما جلال خوش تشهره، الكاتب الإصلاحي وعضو البرلمان السابق، فيرى أن زيارة الرئيس روحاني إلى طوكيو تشير إلى تراجع حدة التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأميركية ويدلِّل على ذلك أيضًا بعملية تبادل السجناء بين البلدين. يرى خوش تشهره أن هذه الزيارة لليابان ستكون مفتاحًا مهمًّا لتحسن العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية؛ إذ يرى أنه بينما هاجم ترامب المساعي الأوروبية لرأب الصدع بين إيران والولايات المتحدة الأميركية فإن “التدخل” الياباني تلقَّى دعمًا من الولايات المتحدة الأميركية(26).

على خلاف تحليل ملائك الذي يبدو أنه داعم بحذر لزيارة روحاني وتحليل خوش تشهره المتفائل، فإن صحفًا وشخصيات في المعسكر المحافظ-الأصولي لم تكن راضية عن الزيارة. يعكس ذلك الاتجاه مثلًا مقال نشره مركز بحوث “برهان” للكاتب کياوش کلهر ونقلته صحيفة “كيهان” المعروفة بقربها من مؤسسة المرشد(27). يمكن تلخيص مواضع انتقاد مقال كلهر لحكومة روحاني والإعلام الموالي لها في النقاط الثلاثة التالية:

أولًا: إن الإعلام الموالي للحكومة الإيرانية الحالية يضخِّم من احتمالات دخول إيران والولايات المتحدة الأميركية في مفاوضات ويروج لها. وبينما صرحت وزارة الخارجية الإيرانية وصرح مسؤولو اليابان بأن هذه الزيارة تتعلق بمناقشة خفض التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، فالإعلام الموالي يتحدث عن تمهيد الزيارة لتوافق أكبر يتعلق بمفاوضات نووية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية.

ثانيًا: إن الحكومة الإيرانية تستخدم ملف المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية كأداة في سياستها الداخلية في محاولة تغيير توازنات البرلمان ودعم قائمة “الأمل” البرلمانية.

ثالثًا: إن الحكومة الإيرانية ترسل رسالة لإدارة ترامب باستعدادها للتفاوض في وقت خاطئ بسبب الاحتجاجات في الشارع الإيراني، وإرسال هذه الرسالة يفيد بأن إيران تمر بظروف صعبة وتؤدي إلى تقوية حملة “الضغط الأقصى”.

3. عوامل مؤثرة في نجاح مساعي الوساطة ومخرجاتها

إن احتمالات قيام اليابان بالوساطة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بشكل مستقل وحقيقي عن أوروبا ضعيفة وذلك لأنها لا تملك أدوات مؤثرة في سياق هذه الأزمة تمكِّنها من لعب هذا الدور. قد تستطيع اليابان لعب دور وساطة بشكل أكثر فاعلية في منطقة الخليج لارتباط الدول العربية فيها بعلاقات اقتصادية تتسم بـ”الاعتمادية المتبادلة” مع اليابان ووجود ميراث من التعاون الاقتصادي مع إيران. قد تتمكن طوكيو من الاعتماد على سمعة دبلوماسيتها وحزمة حوافز للقيام بالوساطة بين إيران والدول العربية في الخليج.

إذا أدَّت مساعي اليابان إلى فتح وإبقاء قنوات تواصل غير مباشرة/مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية وجهود الوساطة الأوروبية المدعومة يابانيًّا إلى مفاوضات، فإن هناك عدة احتمالات لشكل مخرجاتها في حالة نجاحها. في دراسة لمعهد “تشاتام هاوس”، أجرى كل من الباحثيْن، سنام وكيل ونيل كويلام، استطلاع رأي شمل صانعي قرار ومحللين من إيران، والولايات المتحدة الأميركية، والثلاثي الأوروبي، وروسيا، والصين، والسعودية، والإمارات، وإسرائيل، حول السيناريو المحتمل لمخرجات مفاوضات مستقبلية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. رأى 16% من المشاركين أن صفقة كبرى بين إيران والولايات المتحدة الأميركية ممكنة، واختار 32% سيناريو اتفاق نووي معدل، وذهب 23% إلى أن حدوث اتفاقات على ملفات منفصلة هو الأكثر احتمالًا، وأخيرًا، رأى 27% من المشاركين أنه لن يحدث اتفاق بين الطرفين. يعتمد تحقق أحد هذه السيناريوهات (أو أكثر من واحد) على المحددات الثلاث الأساسية التالية، إلى جانب محددات وعوامل أخرى:

تفضيلات الوسطاء: إذا استطاعت اليابان من خلال شراكة مع/دعم من الثلاثي الأوروبي دفْعَ إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى مفاوضات فإن تفضيلات طوكيو وعواصم الثلاثي الأوروبي بشأن الموضوعات ذات الأولوية قد تكون مؤثرة على أجندة المفاوضات ومخرجاتها. في هذه الحالة، ستكون أجندة المفاوضات نتاج تفاهمات بين جميع هذه الأطراف، ما لم تنضم إليهم أيضًا قوى عربية في الخليج (انضمام دول خليجية سيكون أكثر احتمالًا في سيناريو الملفات المنفصلة إذا كانت ذات طابع إقليمي يخص الأمن).

الانتخابات الرئاسية الأميركية: هناك شبه إجماع بين المحللين على أن الانتخابات الأميركية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ستكون ذات تأثير كبير في قرار التفاوض الإيراني، أي إن طهران ستنتظر أولًا إن كان ترامب سيُنتخب لفترة ثانية أم لا لاتخاذ قرار التفاوض. كما أن جهود الكونجرس لعزل الرئيس ترامب قد يكون لها تأثيرات ملموسة على سياسة واشنطن ككل تجاه الملف الإيراني.

ديناميكيات الداخل الإيراني: هناك ثلاثة ملفات تؤثِّر على مستقبل القرار الإيراني حيال الدخول في مفاوضات وهي رؤية طهران للاستقرار الداخلي، ونتائج الانتخابات البرلمانية (فبراير/شباط 2020)، ومستقبل خلافة المرشد؛ إذ ستؤثر غلبة قوى في البرلمان الإيراني محافظة/أصولية أو معتدلة/إصلاحية على قرار المفاوضات كما أنه إذا تمت خلافة المرشد خلال عام 2020 قبل الانتخابات الأميركية فإن تفضيلات المرشد الجديد ستكون ذات تأثير حاسم على وجهة إيران في الملف النووي والمفاوضات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*تامر بدوي، باحث مصري مختص في الشأن اإليراني، وهو زميل مقيم في منتدى الشرق.

مراجع

(1)  فاطمة الصمادي، “بعد الخطوة التصعيدية الإيرانية: هل من أفق للمحاولات الأوروبية لإنقاذ الاتفاق النووي؟”، مركز الجزيرة للدراسات، 11 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر/كانون الأول 2019)، https://bit.ly/36eqS6b. 

(2)  “Iran expands uranium enrichment in new breach of nuclear deal,” DW, September 26, 2019, “accessed December 27, 2019”.https://bit.ly/2QbfsdP. 

(3) Francois Murphy, “Iran exceeds heavy water limit in latest nuclear deal breach: IAEA,” Reuters, November 18, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://reut.rs/35alZd9 

(4) Farnaz Fassihi and Rick Gladstone, “How Iran’s President Left Trump Hanging, and Macron in the Hall,” The New York Times, September 30, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://nyti.ms/2F9uuKU. 

(5) David E. Sanger, al., “France Dangles $15 Billion Bailout for Iran in Effort to Save Nuclear Deal,” The New York Times, September 2, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://nyti.ms/2rJrVMH. 

(6) Arsalan Shahla, “Iran’s Rouhani Upbeat on European Plan to Save Nuclear Deal,” Bloomberg, October 2, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://bloom.bg/37q7i7u. 

(7) “How Europe can Save the Iran Nuclear Deal,” the International Crisis Group, May 2, 2018, “accessed December 27, 2019”.https://bit.ly/36f2fGD. 

(8) ما توصف بـ”لعبة الشرطي الجيد والشرطي السيء” التي تلعبها أوروبا وأميركا في التعامل مع إيران هي وجهة نظر سمعها الباحث من العديد من المحللين السياسيين والأكاديميين الإيرانيين في ورش عمل في أوروبا على مدار العامين السابقين عن كيفية تعامل أوروبا مع إيران في ظل عدم تحقق وعود أوروبا بإنشاء قناة مالية خاصة بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، ودومًا يستخدم الكتَّاب الإيرانيون توصيف “العصا والجزرة” في تعامل أميركا وأوروبا مع إيران.

(9) “How Europe Can Save the Iran Nuclear Deal,” 3.

(10) “Japan, France Offer Loan for Iran’s Full JCPOA Compliance,” the Financial Tribune, October 20, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://bit.ly/36dXJZ5. 

(11) Sachi Sakanashi, “Japan balances Tehran and Washington, the Atlantic Council,” December 24, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://bit.ly/2Qd4zIP. 

(12) Ibid.

(13) “Japan, the US Energy Information Administration,” eia.gov, February 2, 2017, “accessed December 27, 2019”.https://bit.ly/2QbqfVt. 

(14) Loftur Thorarinsson, “A Review of the Evolution of the Japanese Oil Industry, Oil Policy and its Relationship with the Middle East,” the Oxford Energy Institute, February 2018, “accessed December 27, 2019”. https://bit.ly/2F956oG.

(15) يرى مؤلِّف ورقة “معهد أوكسفورد للطاقة”، لوفتور ثورارينسون، أنه إذا سعت الحكومة اليابانية، ممثَّلة في وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة والشركة الوطنية للنفط والغاز والمعادن، للضغط على الشركات الخاصة المستورِدة للنفط لتوزيع وارداتها واستيراد نفط أقل من السعودية والإمارات فستقاوم هذه الشركات لأن البدائل لن تكون اقتصادية (مثل منتجي نفط غرب إفريقيا). يرى ثورارينسون أيضًا أن ازدياد استثمارات الشركات الخاصة اليابانية في قطاع الطاقة في الشرق الأوسط سيؤدي إلى دور متزايد لهذه الشركات في عملية صنع القرار في طوكيو. إذا كان ذلك التدخل سيؤدي إلى زيادة عسكرة الدور الياباني في الإقليم كما يؤشر قرار اليابان إرسال قطع عسكرية للخليج (ديسمبر/كانون الأول 2019) فإنه يدعم أكثر توصيف للسياسة الخارجية اليابانية في الشرق الأوسط بأنها “واقعية مركنتالية”. للقراءة عن التوصيف السابق ذكره، راجع:

Yukiko Miyagi, “Japan’s Middle East policy: ‘still mercantile realism’,” International Relations of the Asia-Pacific, Vol. 12, Issue 2, (May 2012): 287–315.

(16) لفهم أبعاد ونطاق التنافس الياباني-الصيني على المنطقة، راجع مثلًا:

Yoram Evron, “Implications of China’s Belt and Road Initiative for Japan’s Involvement in the Middle East,” Contemporary Review of the Middle East 5, no. 3, (September 2018): 199–214.

(17) Mari Nukii, “Japan–Iran Relations since the 2015 Iran Nuclear Deal,” Contemporary Review of the Middle East 5, no. 3, (September 2018): 222.

(18) Sachi Sakanashi, “Japan balances Tehran and Washington,” op, cit.

(19) “Japan to send warship, aircraft to Middle East to protect vessels,” Aljazeera, December 26, 2019, “accessed December 27, 2019”. https://bit.ly/35dV2oQ. 

(20) Srabani Roy Choudhury, “Japan and the Middle East: An Overview,” Contemporary Review of the Middle East 5, no. 3, (September 2018): 190.

(21) Ibid, 192.

(22) انظر مثلًا:

Marvin C. Ott, “Mediation as a Method of Conflict Resolution: Two Cases,” International Organization 26, no. 4 (1972): 595-618.

(23) Thorarinsson, “A Review of the Evolution of the Japanese Oil Industry,” 29.

(24) “مصدر بيانات الشكل رقم 1، مستقاة من “گزارش کشوري ژاپن” (تقرير دولة اليابان)، المكتب التجاري لدول آسيا، تير 1398، (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر/كانون الأول 2019)،https://bit.ly/2QCGk5J. 

(25) سيد محمد حسين ملائک،” رئيس جمهور در توکيو به دنبال چيست؟ سفر روحاني به ژاپن و چند برداشت” (إلى ماذا يسعى رئيس الجمهورية في طوكيو؟: سفر روحاني لليابان ودلالاته)، ديپلماسي ايراني، 23 آذر 1398 / 14 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر/كانون الأول 2019)، https://bit.ly/2F6IWU1.

(26) جلال خوش چهره، “تبادل زندانيان واستقبال واشنگتن از ميانجيگري ژاپن نشانه چيست؟ فاصله ايران وامريکا تا گفت‌وگو” (تبادل المسجونين وترحيب واشنطن بالوساطة اليابانية يشير إلى ماذا؟: المسافة بين إيران وأميركا للحوار)، ديپلماسي ايراني، 19 آذر 1398 / 10 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول 27 ديسمبر/كانون الأول 2019)،https://bit.ly/2ZEK6iV. 

(27) کياوش کلهر، “آفتابي از توکيو طلوع نخواهد کرد” (الشمس لن تشرق من طوكيو)، انديشکده برهان، 1 دي 1398/22 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر/كانون الأول 2019)، https://bit.ly/2QawYyU.

 

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/12/191231131928657.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M