لورا تايسون/ليني ميندونكا
بيركلي ــ على مدار نصف قرن من الزمن، تبنت الشركات الأميركية (والعديد من الشركات الأخرى في جميع أنحاء العالم) مبدأ أولوية المساهمين، والذي ينص على أن مسؤولية الشركات الوحيدة هي زيادة الأرباح إلى أقصى حد. لكن هذا المبدأ يواجه تحديا الآن من قِبل رؤساء الشركات أنفسهم، حيث أعلنت رابطة المائدة المستديرة للأعمال بالولايات المتحدة العام الماضي أنها ستتبنى نهجا قائما على أصحاب المصلحة لا يركز فقط على المساهمين ولكن أيضا على العملاء والموظفين والموردين والمجتمعات، باعتبارهم جميعا عناصر أساسية في الأداء التجاري.
عندما ينضم كبار رجال الأعمال الأميركيين إلى نظرائهم من حول العالم هذا الشهر في اجتماع الذكرى السنوية الـ 50 للمنتدى الاقتصادي العالمي، ستجري مناقشة كيفية إضفاء معنى واقعي وملموس على مفهوم رأسمالية أصحاب المصلحة، الذي طُرح لأول مرة من قبل مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب، في سبعينيات القرن الماضي. واستعدادا لاجتماع هذا العام، اقترح شواب “بيان دافوس” جديدا يحدد المفاضلات المحتملة بين اهتمامات مختلف أصحاب المصلحة، ويبحث طرق الحد منها أو استبعادها من خلال الهدف المشترك المتمثل في خلق قيمة طويلة الأجل.
انقض المنتقدون على كل من بياني المائدة المستديرة للأعمال والمنتدى الاقتصادي العالمي، رافضين ما جاء فيهما باعتباره “خطابا فارغا” أو مشهدا من فيلم ساحر أوز. وانتقد آخرون مهزلة النخب التي تتحدث فيما بينها وليس مع من يلحقون بهم الأذى. وبرغم وجود بعض الشكوك التي يمكن تبريرها، إلا أنه توجد بالفعل علامات واعدة على حدوث تغيير في سلوك الشركات. حيث بدأ كل من المنتدى الاقتصادي العالمي والمائدة المستديرة في تطوير مخططات تهدف إلى تطبيق رأسمالية أصحاب المصلحة.
في نهاية المطاف، ستظل المصلحة الذاتية على المدى البعيد هي ما يدفع التزامات الشركات. لكن العملاء هم محرك نمو الإيرادات الإجمالي، ولطالما تم الاعتراف بهم دائما كأصحاب مصلحة أساسيين في مجال الأعمال. على سبيل المثال، مع تزايد عدد المستهلكين الذين بدأوا في البحث عن سلع وخدمات “خضراء”، بدأت الشركات في الاستثمار في فرص نمو جديدة موجهة نحو الاستدامة.
الموظفون ذوو المهارات هم أيضا من أصحاب المصلحة الأساسيين في الشركات، ومع تأزم أسواق العمل، فهم يطالبون بتعويضات ومزايا عادلة فضلا عن فرص زيادة المهارات وإعادة التدريب. كما يطالبون بتطبيق الشفافية فيما يتعلق بالأجور والترقيات، وتوفير أماكن عمل تتسم بالتنوع وشاملة لجميع الموظفين، واحترام حقوق الإنسان والبيئة في جميع مراحل سلاسل التوريد للشركات. كما يبحث عدد متزايد من العمال الشباب عن أصحاب عمل لديهم “هدف” وقادرين على توليد أرباح.
في الوقت ذاته، ارتفع الاستثمار المدفوع بالاعتبارات البيئية والاجتماعية والمتعلقة بالإدارة (ESG) إلى 30 تريليون دولار في السنوات الأخيرة، ويمثل الآن ثلث الأموال الخاضعة للإدارة المهنية. كما تستخدم صناديق التقاعد، وهي تمثل أكبر عملاء مديري الأصول، تصنيفات ESG على نحو متزايد لتوجيه قرارات المَحافظ الاستثمارية. حيث تتوفر أدلة متزايدة على أن قوة الأداء على مؤشر ESG ترتبط بزيادة عائدات الأسهم من حيث الميل والزخم.
لكن ربما تكون الدوافع الأقوى وراء تصاعد دعم الشركات لرأسمالية أصحاب المصلحة هي تراجع الثقة في الأعمال التجارية وما يصاحبها من صعود الشعبوية. حيث ينتقد المواطنون بشدة ما يعتبرونه نظاما اقتصاديا “مزورا”. فقد اتسعت فجوة التفاوت في الدخل والثروة في العقود الأخيرة بسبب ركود دخل الطبقة المتوسطة، وأصبحت أسواق العمل أكثر استقطابا. كما أدت الأزمة المالية لعام 2008 وما أعقبها، إلى جانب التكاليف المتزايدة والضرورات الملحة التي تفرضها مسألة تغير المناخ، إلى تقويض ثقة الجمهور في العولمة ورأسمالية السوق.
تذكرنا هذه الظروف إلى حد كبير بالفترة التي سبقت العصر التقدمي للإصلاح في مطلع القرن العشرين، عندما عمل صناع السياسات على تفكيك الاحتكارات، وتقديم تدابير حماية جديدة للموارد الطبيعية، وتعزيز الديمقراطية القائمة على المشاركة. اليوم، يشعر قادة قطاع الأعمال بالقلق لأسباب مفهومة من أن المواطنين سوف يضغطون من أجل عصر جديد من السياسات التقدمية التي ستحد من حريتهم في العمل. ولاحتواء هذه الجهود أو التأثير عليها، تسعى الشركات إلى إيجاد طرق لإظهار التزامها تجاه البلدان والمناطق والمجتمعات التي تعمل فيها.
ومن ثم، فمن المرجح أن يصاحب خطاب أصحاب المصلحة المتعددين في مجتمع الأعمال تغييرات حقيقية في سلوك الشركات، حتى لو كان السبب الوحيد هو الحماية الذاتية. لكن التغييرات التي تفرضها الشركات على نفسها لن تكون كافية. لذلك سيكون من الضروري اتخاذ إجراءات حكومية لضمان بقاء رأسمالية السوق الديمقراطية مستدامة سياسيا وبيئيا على المدى البعيد. ومن المهم بصفة خاصة اعتماد سياسات تهدف إلى تشجيع المنافسة، ومكافحة تغير المناخ، واحتواء أوجه التفاوت وانعدام المساواة، ودعم المؤسسات الديمقراطية.
قد تبدو الإجراءات السياسية مستحيلة على المستوى الفيدرالي في الولايات المتحدة، حيث تثبط الانقسامات الحزبية والإيديولوجية عملية وضع السياسات. لكن التغيير قادم على مستوى الولايات، لا سيما في كاليفورنيا. حيث يظهر تقرير جديد صادر عن كلية أندرسون للإدارة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، أنه حتى مع تباطؤ النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في عام 2020، ستظل كاليفورنيا متفوقة على البلاد ككل.
في الوقت ذاته، تتجاوز ولاية كاليفورنيا أهدافها الطموحة المتعلقة بتغير المناخ، وتعتمد تدابير جديدة للاستفادة من صندوق معاشات الولاية في تخفيف آثار تغير المناخ. فقد أصبح بناء القدرة على مواجهة آثار تغير المناخ الآن أولوية عاجلة. كما تشير حرائق الغابات وانقطاعات الكهرباء في الآونة الأخيرة إلى الحاجة إلى استثمارات كبيرة في شبكة الكهرباء التابعة للدولة والبنية التحتية الحيوية الأخرى.
تقوم كاليفورنيا أيضا بدور قيادي من خلال وضع تشريع جديد لدعم العمال المستقلين (وهو إجراء طموح بدرجة كافية لإثارة طعن قانوني في المحكمة الفيدرالية). وإلى جانب 23 ولاية أخرى، دفعت كاليفورنيا باتجاه تحقيق زيادة كبيرة في الحد الأدنى للأجور. الآن، ثمة حاجة إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات لمعالجة ارتفاع معدلات التشرد وارتفاع تكاليف الإسكان، وهي مشاكل تعزى إلى حد كبير إلى نقص بناء المساكن الجديدة. والحق أن الخطوات المبكرة التي اتخذتها الشركات الكبرى لمعالجة هذه المشكلة هي خطوات مشجعة، لكنها حتى الآن لا ترقى لمستوى التحدي.
وهنا أيضا، ستكون سياسة الحكومة أمرا ضروريا. فكما أشار المستثمر وارن بافيت مؤخرا، “يتعين على الحكومة أن تضطلع بدورر تعديل نظام السوق”. ويؤكد لنا التاريخ صحة كلامه. فقد أدت الفترات السابقة من التمرد الشعبوي إلى تحقيق إصلاحات سياسية مهمة أعادت الاستقرار والثقة في الرأسمالية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
مع دخولنا عام 2020، من الواضح أن الأمر يقتضي موت “رأسمالية المساهمين فقط” لتجديد الرأسمالية بما يتناسب مع الاقتصاد السياسي الحالي، الذي يبدو كمزيج خطيرمن رأسمالية العشرينيات وسياسة الثلاثينيات. لنأمل أن نكون قد تعلمنا الدروس الصحيحة من الماضي. والآن، حان وقت السعي إلى تحقيق رأسمالية ديمقراطية مستدامة وصالحة لجميع أصحاب المصلحة.