العراق بين مشروعين

د. احمد عدنان الميالي

تتقاذف على العراق مشاريع عديدة منذ عام ٢٠٠٣ ولغاية الآن، غالبية هذه المشاريع لا تسعى إلى استقراره وبناءه وتقويته، وأبرز هذه المشاريع مشروعين واضحين: أولهما المشروع الأمريكي، وثانيهما المشروع الإيراني.

منذ عام ٢٠١١ تراجع المشروع الأمريكي في العراق في حين استطاع المشروع الإيراني أن يكون هو الفاعل والمؤثر، حاولت الولايات المتحدة إعادة تثبيت هذا المشروع بشكل موازي مع بقاء إيران في العراق ما بعد عام ٢٠١١، عبر بوابة التنظيمات الإرهابية المتمثلة بداعش وتشكيل ما يعرف بالتحالف الدولي واستثمار تراجع القدرات العسكرية العراقية خاصة في مجال الجهد الجوي وتراجع التماسك الاجتماعي تجاه الدولة في المناطق التي احتلت من قبل تنظيم داعش.

سارعت إيران للرد على محاولة أوباما فرض منطق التقاسم بالنفوذ أو التعايش مع فرضية بقاء المشروعين عبر إستراتيجية كادت أن تُثبت إلا وهي إستراتيجية تقسيم العراق وإقامة دولة سنية في غرب العراق وشمال شرق سوريا وربما دولة كُردية في شمال العراق بموازاة وجود دولة شيعية في بعض مناطق الوسط وكل مناطق الجنوب، ونجحت إيران بدعم مشروعها المتماهي في تلك الفترة مع طروحات المشروع الوطني الرافض لتقسيم العراق ودعمت الجهد العسكري العراقي في مناطق الشمال والغرب وتمركزت مصالحها وحددت اهدافها ودعمت فصائل المقاومة وأطرتها قانونيا تحت مظلة الحشد الشعبي.

بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض غير نمط التعامل مع هذه الإستراتيجية بسرعة، وحسم مواجهة تنظيم داعش مع تصعيد المواجهة بذات الوقت مع إيران في المنطقة ولهذا قرر البقاء والتمركز في العراق وإنشاء قواعد عسكرية ضخمة وزيادة عديد القوات القتالية والساندة على الاراضي العراقية وبدأ ينتهج أسلوب المواجهة غير المباشرة مع ايران والتهديد باستهداف مصالحها في العراق وسوريا ولبنان وفرض عقوبات اقتصادية وقبلها الانسحاب من الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل المشتركة أو 5+1، وتحشيد عربي إقليمي ضد إيران، طالبا بذلك التفاوض معها وفرض شروط جديدة في لعبة الصراع، واستطاع ترامب فعلا أن يشكل ضغوطات قصوى ضد إيران عملت على انهيار عملتها إضافة إلى تقليص مشروعية تحركها الدبلوماسي في إطار العلاقات الدولية والقانون الدولي.

لكن إيران لم تتراجع وقررت الخوض بتجربة استراتيجية مضادة تعمل على انتزاع المصالح في مناطق الصراع لترسيخ النفوذ وإيقاع ضرر في المصالح الأمريكية في تلك المناطق، ومنها العراق تحديدا، فقد حافظت إيران على تأثيرها السياسي والاقتصادي والعسكري في العراق بعد انتخابات عام ٢٠١٨ واستطاع تحالف الفتح من تحقيق شعبية واسعة وحصل على مقاعد مهمة في البرلمان العراقي، إضافة إلى نسجه تحالفا كبيرا من عدة قوى سياسية سُميَ بتحالف البناء وطرح نفسه على أنه الكتلة الأكبر وأغلب قادة هذا التحالف مقربون من إيران او أنهم لا يملكون أجندات مضادة اتجاهها.

كما حصل الحشد الشعبي على أوضاع قانونية وإدارية وميدانية مهمة ومؤثرة وبعد تشكيل الحكومة ومجيء عادل عبد المهدي إلى رئاسة الوزراء قُيمت توجهاته باقترابها من إيران على حساب الولايات المتحدة، خاصة أن الأخيرة طلبت منه تضييق التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني مع إيران إلا أنه لم يفعل ذلك رغم أنه بذات الوقت لم يعمل على تفضيل المصالح الإيرانية على حساب المصالح الأمريكية في قبال تزايد عديد قوات الأخيرة في العراق وزيارات ترامب وبومبيو وبينس إلى تلك القوات دون المرور بالبوابة الحكومية.

ولهذا قرر ترامب عدم التراجع في العراق، رغم أنه قلص من خيارات وجوده في سوريا وأخلى الساحة تقريبا لروسيا وإيران، لكن تمسكه بالساحة العراقية كان واضحا باعتبار العراق عقدة الاتصال بين إيران وسوريا ولبنان وبالتالي تهديد الكيان الصهيوني ودول الخليج وقواعد الولايات المتحدة في المنطقة، ولم يكتفي ترامب بالبقاء والسيطرة على الأجواء العراقية وحدوده بتثبيت وجود تلك القواعد العسكرية وزيادة عديد جنوده لكن قرر تقويض كل المكتسبات الإيرانية في العراق التي أشرنا إليها أعلاه سياسيا واقتصاديا وأمنيا وحتى على صعيد البعد الاجتماعي.

هذه الإستراتيجية اعتمدت على فضاء إعلامي واسع الإنتشار عمل على تشويه صورة إيران الاجتماعية في العراق ومن ثم استهداف بعض القادة الفاعليين السياسيين المقربين منها بلائحة العقوبات الأمريكية ومحاصرة فضاءهم الإعلامي، ثم بدأت عملية الدعم لحكومة عادل عبد المهدي تتقلص امريكيا وتنعدم قنوات الاتصال معها بعد أن طلب منه مكافحة نفوذ إيران والحشد الشعبي لتنتهج خيار الاستهداف العسكري المحدود بقصف مقار وقواعد عسكرية يتموضع فيها الحشد الشعبي وسلاحه ومعداته بطائرات مسيرة إسرائيلية وبضوء أخضر أمريكي.

بالمقابل إيران بدأت تتحرك على منطقة مضيق هرمز وخليج عمان وناورت بطريقة ما عرف بحرب الناقلات واحتجازها واستهدافها للمصالح السعودية والاماراتية والأمريكية والبريطانية ثم حادثة شركة ارامكو النفطية، مما استفز الجانب الأمريكي الذي قرر التحرك بمسارات مواجهة إيران بقوة في العراق وسوريا ولبنان ورهانها على الحراك الشعبي الذي وصل لإيران ذاتها ودعمه ومناصرته وبعدها راهنت على تقويض المقبولية السياسية والاجتماعية لإيران داخل العراق وهذا ما وصل به الحال على الحشد الشعبي وقادته.

لهذا قرر ترامب استهداف مباشر لمقار كتائب حزب الله، وأصدرت الإدارة الأمريكية بيانا رسميا بذلك، استغل الحشد الشعبي هذا الحادث ودعا إلى تشييع لشهداءه قرب المنطقة الخضراء تحول إلى اقتحام للسفارة الامريكية في بغداد والاعتصام قربها، ورغم محاولة امريكا شيطنة ايران بما حصل إلا أن فعل الاستهداف في مدينة القائم غطى على ذلك ونال الحدث رفضا واسعا من القوى السياسية والاجتماعية والمرجعية الدينية، رغم وجود انعطافه لربط اقتحام السفارة الامريكية بالخيار الإيراني ومحاولته تمييع الاحتجاجات المطالبة بالتغيير والإصلاح، لكن تشكل حادثة قتل عراقيين ينتمون الى الحشد الشعبي واقتحام السفارة من قبل مناصريهم منعطفا هاما يعكس فشل الاستراتيجية الامريكية في العراق.

فقد استعاد التيار السياسي والعسكري المقرب من الحشد الشعبي زخمه وحضوره ووجد منفذا لزج مؤيديه في مواجهة النفوذ الامريكي ويوازن الحراك في ساحات الاحتجاج وهذه المشروعية ستغطي عن الاخفاقات السياسية والدستورية التي يمر بها العراق والتي تتحمل هذه القوى جزء كبير منها، فالاستثمار بالأطر الوطنية المرتبطة بالسيادة ومواجهة مخاطر الإرهاب وتحقيق منجزات في المجال الأمني تعد مدخلا مهما لإعادة إحراز المكاسب السياسية.

وفي أضعف الاحتمالات يخدم عامل الوقت ايضا تلك القوى في قبال تقويض زخم المشروع الامريكي الذي اخترق المسار السياسي والاحتجاجي في العراق، هذه المعادلة الجديدة في المواجهة بين طهران وواشنطن تخدم المشروع الايراني بسبب عامل الزمن ودخول الولايات المتحدة مرحلة الانتخابات التي لا تسمح الدخول بحرب مباشرة ضد إيران طالما أن حروب الوكالة غير النظامية لا تستطيع واشنطن إحراز النجاح فيها وتتركها في حالة من القلق في شأن كيفية الرد، وفعلا أعلن ترامب أنه يستبعد الحرب مع طهران في حين يتربص الديمقراطيون به تارة برفض اجتراح حروب ومغامرات في العراق والشرق الاوسط وتارة بالتنديد بمواقفه الرخوة تجاه التدخلات الايرانية في المنطقة وخاصة في ضرب المصالح الامريكية فيها.

لن تكون أمام واشنطن خيارات واسعة في العراق لأنها اضعفت جزء من حلفاءها السنة والأكراد وخذلتهم وجعلتهم يستجيرون بإيران، أما رهانها على وسائل الإعلام وبعض الصحافيين والمدونين ومنظمات المجتمع المدني لا يحقق لها ترسيخ مشروعها، على عكس إيران التي تراهن على الاشخاص لترسيخ المشروع ودعمت حلفاءها الساسة ووسعت من ضم حلفاء من السنة والكُرد.

لدى الولايات المتحدة خيارين فقط للخروج من هذه الأزمة المتصاعدة: أما القتال أو التفاوض. الحرب مع إيران، يمكن أن تكون بداية الانزلاق بمستنقعات لا يمكن أن تخرج منه بسهولة، لهذا من الأفضل التفاوض، هذا يعني محاولة إعادة بناء صفقة نووية مقابل رفع العقوبات الأمريكية. لكن ترامب لا يبدي اهتماما يذكر بالتفاوض أو القتال بجدية.

لقد شن حرباً اقتصادية على إيران بينما لم يفعل شيئاً لكبح تزايد النفوذ الإقليمي لإيران؛ في الواقع إيران تمتلك قدرات لشن هجمات بالوكالة وإدارة صراعات محدودة، لكن أمريكا ليس لديها رد فعال قادر على تحجيم المشروع الإيراني في العراق والمنطقة.

في خضم هذين المشروعين لا يوجد أمام العراقيين إلا خيارا واحدا: هو الرهان على وجود مشروع ثالث وهو المشروع الوطني العراقي الذي يسعى من أجل عراق آمن قوي ومستقر بعيداً عن التأثيرات الخارجية تقوده قوى سياسية جديدة نزيهة تؤمن بالخيار الوطني وتغليبه على المشاريع التي تتسابق على تعزيز نفوذها ومصالحها في العراق، هذا المشروع بدأ يتبلور الآن مرتبطا بالحراك الشعبي السلمي الذي يحاول أصحاب المشروعين المتصارعين في العراق أما ركوبه وتوجيهه أو تقويضه وإنهاءه.

لكن استمرار دعاة وانصار هذا المشروع إذا ما وجهته المرجعية الدينية وبعض القوى غير المتهمة سياسياً بالإمكان استيلاد مكاسب على مستوى الإصلاح والتغيير خاصة أن تشريع قانون الانتخابات وقانون مفوضية الانتخابات واستقالة الحكومة تعد محطات هامة لترسيخ نجاحات المشروع الوطني الذي يحتاج استكمال تلك المحطات بتشكيل حكومة كفاءات يقودها شخصية مستقلة كفوءة تدير ملف الانتخابات المبكرة وتضمن نزاهتها، عدا ذلك سيستمر هذين المشروعين في صراعهما في العراق، مما يعني استمرار الأزمات والمعاناة للشعب العراقي.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/21742

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M