رباح أرزقي
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حاجة إلى إصلاحات اقتصادية أكثر جرأة وعمقا. إذ يُتوقع أن يصل نمو إجمالي الناتج المحلي في المنطقة إلى 0.6% عام 2019، وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بما هو مطلوب لخلق الوظائف الكافية بغرض مواكبة الزيادة السريعة في عدد السكان الذين بلغوا سن العمل. وحتى في البلدان القليلة التي شهدت معدلات نمو أعلى من هذا منذ الربيع العربي عام 2011، لم تنخفض معدلات الفقر، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى إصلاحات ترسخ المنافسة العادلة، وتشجع المزيد من أنماط النمو الاشتمالي.
إن التحول من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق عامل أساسي لمواصلة النمو المطلوب، بيد أن هذا المطمح يُقابل بنوع من الريبة في المنطقة، حيث يلقي الكثيرون باللوم على تحرير السوق في صعود رأسمالية المحاباة، المتمثلة في عدد من الشركات التي تتمتع بعلاقات مع السلطة.
في الواقع، فإن عقودا من هيمنة الدولة، وليست الفترات العابرة من التحرر الاقتصادي، هي التي شجعت احتكار الدولة أو القطاع الخاص من خلال الدعم، والتحكم في الأسعار، ووضع العقبات أمام دخول الشركات إلى السوق والخروج منها.
وحتى عندما فشلت النخب القليلة القوية في استغلال جهود التحرر الاقتصادي، تظل وسائل التصدي لهيمنة الدولة مذمومة – سواء استتبع ذلك إلغاء الدعم، أو ترشيد القوة العاملة في الشركات المملوكة للدولة – وهو ما يتعذر معه إجراء الإصلاحات بالشكل السليم. والشركات الضخمة المملوكة للدولة تبتلع أيضا النصيب الأعظم من التمويل مما يضغط على الشركات الصغيرة والمتوسطة للخروج من أسواق الائتمان، رغم أنها في العادة ما تكون أكبر مصدر لخلق الوظائف المستدامة.
وفضلا عن ذلك، فإن المنافسة غير العادلة الناتجة عن أسواق تهيمن عليها المؤسسات المملوكة للدولة والشركات المرتبطة بها تثبط استثمارات القطاع الخاص، مما يقلص عدد الوظائف ويحول دون نجاح أعداد لا تحصى من الشباب الموهوب.
قد يكون انعدام المنافسة العادلة هو السبب الأساسي في عدم استجابة اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أنه يتعين على البلدان التي تطبق الإصلاحات مجابهة مشاكل أخرى أيضا، مثل ما إذا كان انغلاق الاقتصاد أو انفتاحه هو أفضل وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية.
لقد حان الوقت لاقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كي تركز على وضع حد لاحتكار أسواقها وأيضا على الاستفادة من الطلب المحلي الجماعي لاقتصاداتها بغرض تحقيق نمو يقوم على التصدير إقليميا ودوليا. فأغلب أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صغيرة نسبيا. لكن المنطقة مجتمعة تضم أكثر من 400 مليون نسمة، أي ما يقرب من مثلي سكان أوروبا الغربية. والأكثر من هذا، أنه بينما تشهد أوروبا ركودا فعليا في نمو السكان، تشير التوقعات إلى أن سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيزيدون بمقدار الضعف بحلول عام 2050. لكن إذا كان المضي نحو أسواق إقليمية يبدو منطقيا، فإنه من الصعب تحقيقه. ولطالما فضلت بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شق طريقها منفردة – فالمنطقة هي الأقل تكاملا في العالم، رغم المكاسب الممكنة التي يمكن جنيها من إزالة الحواجز أمام تدفق السلع والخدمات في هذه البلدان.
ومع هذا، فعلى الرغم من أن خطوات كتخفيض الرسوم الجمركية، وتحسين الخدمات اللوجستية، وإنشاء أنظمة للدفع المتبادل بينها يمكن بلا شك أن تساعد في التكامل الإقليمي، فإنها ليست كافية في حد ذاتها لإحداث هذا التغيير. ويأتي في الصميم من انعدام قدرة بلدان المنطقة على التكامل محليا وإقليميا تلك الحواجز المنيعة التي تحول دون دخول الشركات من الأسواق المهمة وخروجها منها – أو كما يصفه خبراء الاقتصاد بانعدام التنافسية. فاقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تفضل دوما الشركات القائمة، سواء الخاصة أو المملوكة للدولة. وافتقارها إلى التنافسية يؤدي إلى المحسوبية وما يرقى إلى مستوى يشبه النشاط الريعي، ويشمل هذا، على سبيل المثال لا الحصر، منح تراخيص الاستيراد الحصرية التي تكافئ الحائزين لها وتثبط التنافس المحلي والأجنبي.
وافتقار الأسواق المحلية للمنافسة ينعكس صداه على المستوى الإقليمي. ويتطلب إطلاق العنان للتكامل المحلي والإقليمي هدم جدران المصالح المكتسبة في بلدان المنطقة. عمليا، يمكن أن يتحول هذا الهدم إلى تشكيل كيانات رقابية تذود عن المنافسة المفتوحة. فإطلاق العنان للطلب الإقليمي المقترن بالتنظيم والممارسة الحرة التي تعزز المنافسة وتقمع الممارسات المناهضة لها يمكن أن يحول دون استمرار الهيمنة الاقتصادية للقلة القوية التي تتحكم في محاولات التحرر، مما ينجم عنه نتيجة مؤسفة هي تشويه فكرة الإصلاح في أذهان المواطنين.
وتشكل الشفافية وإتاحة البيانات جزءا أصيلا من أجندة المنافسة والتنافسية. وتأتي بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤخرة الركب بين نظيراتها من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل من حيث شفافية الحكومات وإتاحة البيانات في مجالات حساسة تقيس تطور أوضاع الفقر، ودرجة المنافسة في القطاعات، وتقدير مستويات الدين المحلي والالتزامات المقترنة بالضمانات الحكومية.
فتدفق الأموال بين البنوك العامة والشركات الحكومية يكتنفه الغموض ويفضي إلى المحسوبية والفساد. ويمكن لشفافية التوريدات العامة أن تساعد في القضاء على هذه المشكلة.
كما أن إتاحة البيانات سيجعل تقييم السياسات ومواصلة الارتقاء بها أفضل. وعلاوة على إتاحة الحصول على البيانات، فإن كفالة حرية التقصي – لاسيما لمراكز الأبحاث – يعد من العناصر المحورية لتعزيز النقاش المحلي حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية تشتد الحاجة إليه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ أنه يكرس بدوره مساندة الإصلاحات وقبولها والتماسك الاجتماعي في المنطقة.
رابط المصدر: