– التابع والمتبوع
تناولت آيات شريفة عديدة الجدال والنقاش الذي يجري بين التابعين (الأمة) والمتبوعين (القيادة) ويلقي كل طرف باللائمة على الطرف الآخر ويحمله مسؤولية ما يجري عليهم من عذاب وشقاء ، وعادة تُصرف الأنظار على أن المقصودين هم الكفار والمشركين من القيادات وعوام الناس ، وهذا وإن كان أحد مصاديقهم إلا أن حصر التفسير بأولئك يحتاج الى دقة ، خاصة إذا لم تكن هناك قرينة في تلك الايات تدل على ذلك ، وقد استخدمت بعض الآيات الكريمة صيغة (الذين استكبروا) للمتبوعين أو القادة و (الذين استضعفوا) أو (الضعفاء) للتابعين .
وبما أن (الكفر) الذي ورد في بعض الآيات التي تناولت الجدل بين (الذين استكبروا) و (الذين استضعفوا) لها عدة معاني لا تقتصر على الكفر العيني الإلحادي فهذا يعني أن الكفر في هذه الايات ممكن أن تكون بمستويات أخرى مثل كفر النعمة وغيرها – كما بينا في حلقات ماضية – خصوصاً وأن استخدام لفظ (الذين استكبروا) و (الذين استضعفوا) يريد أن يلفت الانتباه الى صفة الاستكبار عند القيادات والاستضعاف عند الأمة ، فحتى لو كان المقصود من الآيات الشريفة تلك هو القيادات الكافرة فلأنها مستكبرة وليس لأنها كافرة ولأن الأتباع مستضعفون سواء هذا الاستضعاف بسبب استكبار قياداتهم أو بسبب اتباعهم لتلك القيادات من دون شروط أو أسس ومعايير شرعية فأصبحوا أذلاء أُسراء كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام : (أطع من شئت تكن أسيره)
وعليه نفهم أن المراد من المستكبرين هم كل المتبوعين والقيادات المستكبرة المزيفة التي تولت مقاماً ليس أهلاً لها إما حباً للدنيا والسلطة والجاه أو حسداً من أن يتولاها من هو أهل لها فتتركهم الأنظار متوجهة إليه أو جهلاً بما يجب عليه فعله من الناحية الشرعية ، وأما المستضعفون فهم أولئك الأتباع الذين اتبعوا قيادات مزيفة أو منحرفة أو جائرة من دون أي أساس شرعي ولا أي حجة أو دليل على ذلك الانقياد ، وقد اتبعوهم إما لغاية ومصلحة حزبية أو سياسية أو حتى دينية أو لمصلحة شخصية أو منصب أو جاه ، أو جهلاً بشروط القيادة الواجب اتباعها تقصيراً لا قصوراً .
وقد لا تنحصر هذه القيادات بالقيادات السياسية والاجتماعية بل قد تشمل القيادات الدينية ، لأن القرآن أطلق صفة (الذين استكبروا) على القيادات الدينية التي واجهت المصلحين ، فاعتراضهم كان لعلة دينية لا علة سياسية أو اجتماعية ، نعم ربما تكون العلة الحقيقية سياسية واجتماعية لكن الدخول لتحقيق هذه العلة كان بغطاء ديني ، لأنهم لو استخدموا العنوانين السياسي والاجتماعي لما استمعت لهم الأمة لأن المصلحون جاءوا بعنوان ديني وليس سياسي أو اجتماعي .
– الفتنة
تناولنا في حلقة ماضية من حلقات (مفاتيح تفسيرية مبسطة للقرآن الكريم ) موضوع القتل في القرآن ، وبيّنا أن القتل قتلان جسدي ومعنوي ، فالقتل الجسدي معروف هو قتل الإنسان وإماتته ، أما القتل المعنوي هو قتل دين الإنسان وعقيدته وسمعته من دون قتله ، وهذا ما يمكن أن يكون مصداقاً للفتنة ، لأن من مصاديق الفتنة هو نخر الشيء من الداخل ويبقى مظهره مقبولاً ، فكثيرة هي محاولات زرع الفتنة في الساحة الإسلامية وكثير منها قد نجحت للأسف وبعضها فشلت بجهود المصلحين والعاملين الرساليين الذين يدافعون عن الإسلام والمسلمين من هذه الهجمات ، وأوضح تلك الهجمات الغزو الثقافي الذي يتعرض له مجتمعنا الإسلامي ، فنرى الإنسان المسلم صائماً مصلياً حاجاً لبيت الله ولكنه لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن هناك سلوك جمعي بأن (لا إكراه في الدين) وبالتالي كل يسير على ما تشتهيه نفسه ويأخذ بالأحكام الشرعية ما ارتاحت لها نفسه أما ما تلفظه فيعارضها حتى لو كانت صادرة من الله سبحانه بحجة المدنية وأن الدين لله والوطن للجميع !!!
هناك كثير من المفاهيم والشعارات سوَّقت إلينا – وابتلع كثير منا للأسف هذا الطعم – ظاهرها حب الإنسان والحياة مثل حقوق الإنسان وحقوق المرأة وغيرها ولكن باطنها الفتنة يراد منها قتل الدين في نفوس المسلمين ، لذا صدح القرآن الكريم بصراحة (والفتنة أكبر من القتل) و في موضع ثاني (والفتنة أشد من القتل) ، فلا نهتم كثيراً بمواجهة القتل أكثر من اهتمامنا بمواجهة الفتنة ، فرغم أن قتل المؤمن كبير عند الله وعند المسلمين إلا أن هذا المؤمن مصيره الجنة إن شاء الله ، أما قتل الدين والعقيدة فسيفرغ الإنسان من قيمته الروحية والعقائدية وإذا استمر الإنسان بلا دين او بدين مزيف فسيكون خطره على المجتمع الإسلامي كبيراً وإذا كانت خاتمته على هذا الوضع سيكون مصيره النار والعياذ بالله ، وهذه النتيجة بالتأكيد أسوأ من الأولى وتستدعينا الى محاربة الفتنة أشد وأكبر من محاربة القتل .
فـ(الجهاد) هذا المصطلح الإسلامي القرآني الرائع الذي تُصان به المجتمعات الإسلامية قد شوِّه من قبل بعض العصابات التكفيرية المنحرفة التي لبست الإسلام بالمقلوب – على حد تعبير أحد مراجع الدين – فأصبح الجهادي هو الإنسان السيء الذي لا إنسانية له ولا دين ، وأصبح الجهاد عند طوائف أخرى من المسلمين لتحقيق غايات سياسية وأصبح السياسيون المعروفون بالفساد ينادون بالجهاد رغم أننا لم نرَ منهم اي موقف سياسي يدل على إسلاميته أو تدينه خوفاً من أن يقال أنه إسلامي ، الآن صار ينزل لساحة القتال ببدلته العسكرية ويحضر الاجتماعات السياسية بها لأن (الجهاد) أصبح موجة لا بد من ركوبها وإلا سيغرق وتذهب جهوده الدنيوية السابقة أدراج الرياح ، لماذا لم نر من هؤلاء السياسيين (المجاهدين) في سابق الأيام دفاعاً عن الفتنة التي تعصف بالمسلمين ؟! لماذا لم يتخذوا موقفاً يحفظ دين أبنائهم واحفادهم ؟! لماذا لم يشرّعوا قانوناً يمكن أن يصونوا به دين أتباعهم الذي اتبعوهم اتباعاً أعمى ؟! أين جهادهم الأكبر ؟! …..
هذا كله فتنة ونبهنا القرآن منها وأرادنا أن نهتم بمواجهتها أكثر من الاهتمام بمواجهة القتل .