كيف تغلًبَ الأمريكيون على شكوكهم؟ موقف البرغماتية من الشك (استجابة البراغماتيين للشك)

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ – المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة:

أدعي أبتداءأ أن آباء البراغماتية، جارلس بيرس ووليم جيمس قد غيّرا معنى كلمة المعرفة وأن هذا التغيير كان جوهر الاستجابة البرغماتية للشك. جادل بيرس بأن مفهوم المعرفة الخاطئة كان مناسبًا للبحث العلمي، وصاغ مصطلح القابلية للخطأ [1]fallibilism كتسمية  لرأيه القائل بأن المعرفة الإنسانية ليست مؤكدة أبدًا، وقابلة للخطأ دائمًا. افترض تحليله زوجين من المفاهيم: الاعتقاد والشك، وأنه من الواجب أن يكون هناك سبب للشك. قام جيمس بتغيير معنى مصطلح الحقيقة وكشف أن الحجج التقليدية للشكية( الريبية) تستند إلى افتراض عاطفي مشكوك فيه (الخوف المبالغ فيه من الخطأ). لقد تحدى البراغماتيون في تركيزهم  على النتائج العملية للأفكار أهم افتراضات الشكية المتعلقة بالمعرفة والحقيقة والأعتقاد والشك. لم تكن  فكرة القابلية للخطأ  شكلاً معتدلاً من الشكوك، فقد كان واضحًا أنها تعبر عن موقف غير شكي.

هناك العديد من الأعمال حول البراغماتية والشك، لكن العلاقة بينهما لم يتم تحليلها بالطريقة التي ترضيني  من ناحية التسويغ أبستيمولوجي في الدراسات الفلسفية. هناك دراسات حول استجابة البراغماتيين للشكك[2] ولكن لم توضع هذه الاستجابة كإستراتيجية لمناهضة الشكية في الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة) المعاصرة.[3] ومع ذلك، يبدو أن بيرس وجيمس قد غيرا، في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين، معنى كلمة المعرفة، وقد قوض هذا التغيير المفاهيمي أطروحة الشك (فإذا كانت المعرفة  قابلة للخطأ فلا يوجد سبب للادعاء بعدم وجود معرفة). كان هذا تغييراً مفاهيمياً هاماً ومؤثراً يستحق التقدير في نظرية المعرفة وتاريخ الشك.

تشارلز س. بيرس: المفهوم الجديد للمعرفة وأسباب الشك

قدم بيرس مجموعة من المفاهيم المهمة لمشكلة الشك: مفهوم القابلية للخطأ، مفهوم المعرفة كمعتقد ثابت، ومفهوم سبب الشك. يذكر بيرس عدة مرات في دراساته ” مصطلح ” القابلية للخطأ”  وهذا يدل على انه من صميم فلسفته العملية، اذ يقول” أعتدت أن أجمع افكاري تحت عنوان ا”لقابلية للخطا.”[4] فقد صاغ بيرس المصطلح الجديد” القابلية للخطأ” وجعله شائعًا. ونقد “المعرفة المعصومة” أو غير القابلة للخطأ، وقدم بعد ذلك وجهة نظره المعاكسة المسماة كما اشرنا ” القابلية للخطأ”. وهي الفكرة التي تعني أن أياً من معتقداتنا قد تكون خاطئة. والمذهب القائل بأن معرفتنا ليست مطلقة أبدًا، أنها تسبح دائمًا في سلسلة متواصلة من عدم اليقين وعدم التعيين”.[5] التطور والاستمرارية في الطبيعة هي القاعدة الأساس لأطروحة بيرس التي مفادها أن الدقة الكاملة واليقين التام لا يمكن تحقيقهما.[6] لقد كتب في عام 1910، “لا أعترف بأي شيء مهما كان كيقين مطلق”.[7] انه يقبل اليقين العملي (في المعتقدات) ولكن ليس اليقين النظري أو المطلق.[8] “لا يمكن للناس تحقيق اليقين المطلق فيما يتعلق بمسائل الواقع. أما الرياضيات التي هي مجرد نظام أسماء ابتكره البشر بغرض العد”،[9] وأن حقائقها محددة بشكل مسبق، فالقابلية للخطأ تتعلق بالأشياء الموجودة بالفعل وليس بالحقائق المسبقة.[10] ومع ذلك الأحكام الرياضية البسيطة عرضة للأخطاء وليست معصومة تمامًا، بمعنى انتماءها إلى فئة تضمن الحقيقة.[11]

وينطبق هذا على الأعتقادات التي تتعلق بمعطيات الوعي أيضا. ” فليست التجربة المباشرة مؤكدة أو غير مؤكدة، أنها لاتجزم بشى”.[12] لا يوجد أي تفكير مستقل عن مشاهدات الحقائق الخارجية، ولا يوجد حدس مستقل من معرفة سابقة، والتفكير دائمًا غير مباشر، ويتم بتوسط العلامات.[13] لذلك، عندما يكون لدينا يقين مطلق فليس هناك مجال للمعرفة.

تحظى فكرة القابلية للخطأ، وفقا لبيرس، بقبول الناس الذين يعملون في العلوم التجريبية. وتجد المؤيدين لها بين المتحمسين لروح العلم على وجه التحديد.[14] تفترض القابلية للخطأ وجود المعرفة وتسعى الى  التحقق والتساؤل عن الحقيقة. إنها “تقترن بإيمان كبير بحقيقة المعرفة”.[15] بينما تمنع فكرة المعرفة المعصومة وأدعاء الدقة المطلقة” طريق التساؤل والأستعلام” بشكل خطير.[16] إن عدم اليقين الحقيقي هو الحافز على الاستقصاء والمنتج للمعرفة.

يعارض بيرس بشكل واضح الشكاك التقليديين. فقد كتب في مقالة بعنوان”بعض عواقب أربع حالات من العجز” نشرت في عام 1868، ضد طريقة التفكير الشكي التي يمثلها ديكارت قائلاً: لا يمكننا أن نبدأ بشك كامل. يجب أن نبدأ  من كل الأحكام المسبقة التي لدينا بالفعل عندما ندخل في دراسة الفلسفة. (…) دعونا لا نتظاهر في الفلسفة بما لا نشك فيه في قلوبنا “.[17] ويعرض ديكارت على أنه مفكر مخادع يتظاهر بأنه لديه شك شامل، بينما هذا  أمر مستحيل في الواقع.[18]

عاش بيرس بعد تشارلز داروين ونظر إلى العالم من خلال نظرية التطور، ومن منظور عالم تجريبي والحياة اليومية. دفعته هذه التجربة إلى تغيير المفاهيم الفلسفية للمعرفة والشك. فيرى إن المعرفة مدفوعة بغرض ومقدرة لتوجيه أعمالنا. وأن الشك الشامل مستحيل لأن كل نوع من التفكير يفترض مسبقاً بعض المعلومات والمبادئ السابقة. كما أنه بوصف الشك البحث عن اليقين يقوم على فهم خاطئ للحالة المعرفية للإنسان.

يشير بيرس إلى فكرة الشك بوصفها فكرة قديمة جداً من خلال التذكير باقوال  الشكاك القدامى، بيرالإليسي Pyrrho of Elis  وأغريباس التريما Agrippa’s trilemma[19] الذين كانوا يقولون: لا يوجد أي دليل يمكن أن يكون له قيمة، لأنه هو نفسه يتطلب إثباتًا، والذي يجب أن تستند بدروه  الى دليل، وبالتالي  نقع في الما لانهاية. يظهر هذا أنه لا يمكن إثبات أي شيء يتجاوز احتمال وجود الشك؛ وأنه لا يمكن استخدام أي حجة بصورة صحيحة ضد الشك المطلق؛ وأن الاستدلال هو مجرد انتقال من إدراك إلى آخر  وليس إنشاء لإدراك.[20]

يقبل بيرس كل افتراضات الشكية حول احتمال الخطأ، لكنه لا يقبل النتيجة النهائية للشك ودعاة الشك المطلق. وفقًا له فإن الشكاك على حق عندما يقولون أننا لا نستطيع أن ننتج أدراكاً معصوماً، لكنهم ليسوا على صواب في قولهم، أننا لا نستطيع إنتاج إدراك معرفي على الإطلاق. إن الطريقة  الصحيحة لتجنب نتائج الشك هي تغيير مفهوم المعرفة ذاته.

ظهر مفهوم المعرفة الضعيفة المحتملة في العصور الوسطى (وكانت من صوغ كلاً من نيكولاس أوتريكورت؛ وجون بوريدان)، وقد تم تطوير هذا المفهوم  في العصر الحديث من قبل (فرانسيس بيكون)، لكن بيرس هو من نقله إلى مجال النقاش الفلسفي. لقد ربط المفهوم الفلسفي للمعرفة بالمفهوم المستخدم في العلوم والنشاط  البشري المشترك العام. يذكر بيرس راي فرانسيس بيكون: أن تفسير التجربة يجب أن  يكون مفتوحًا للتحقق وإعادة النظر”.[21]

يقدم بيرس، في بحثه المنشور “أثبات الأعتقاد” (1877) و”كيف نوضح أفكارنا” (1878)، تحليله العملي لفكرة الأعتقاد والشك. الأعتقاد هو قاعدة للعمل، وتأسيس للسلوك  الذي يحدد أعمالنا. إذا كان شخص ما يعتقد، فهو مستعدة للعمل. “لا يجعلنا الأعتقاد نقوم بالعمل ولكن يضعنا في الحالة التي سنتصرف فيها بطريقة معينة، عندما تأتي المناسبة”.[22]  الأعتقاد هو وقف الشك وتثبيت الرأي. إن “الشك هو حالة من عدم الارتياح وعدم الرضا نكافح من أجل تحرير أنفسنا منها والدخول في حالة الأعتقاد”.[23] الحالة الذهنية المقلقة مزعجة ويميل الناس إلى تثبيت الأعتقاد للحصول على راحة البال. “يحفز الشك العقل على النشاط”.[24] يكتب بيرس بطريقة عملية عادةً”، تتميز المعتقدات المختلفة بأنماط العمل المختلفة التي تثيرها”.[25] يستبعد هذا الفهم للمعرفة كأعتقاد ثابت الأطروحة  الشكية التي تدعي أن المعرفة غير موجودة، ويؤكد على أن المعرفة كمعتقد ثابت موجودة.

تتعلق الحجة الرئيسية المضادة للشك بفكرة سبب الشك. يشكك بيرس في  أفتراض الشكاك بأنه يجب علينا تبرير كل معتقداتنا بينما يمكنهم( الشكاك) أن يشكوا بحرية دون سبب كاف. إن نقطة انطلاقنا – كما يرى بيبرس- هي المعتقدات الحالية، وأنها تمتلك الصحة حتى يظهر داع أو سبب للشك. ويعبر هوكوي عن رأي بيريس في الصوغ التالي: “ما لم يكن لدينا سبب للشك في أحد معتقداتنا، فلا نحتاج إلى سبب للاعتقاد به”.[26] هناك حاجة إلى الأسباب عندما نريد تغيير نظام معتقداتنا. يقوم بيرس بنقل عبء الإثبات من المؤمن أو المُعتقد ويحاول توزيعه على جميع الذين يريدون بعض التغييرات في النظام.

عندما نقبل مثل هذه القواعد، فعلى الشاك أن يكون لديه سبب  قاطع.[27] لكن لا يوجد سبب من هذا القبيل (بصرف النظر عن إمكانية الخطأ الخالصة) يمكن الوصول إليه عندما نتحدث عن الشك الشامل. وعليه، وفقًا لبيرس، لم يكن لدى ديكارت أي سبب كاف لشكه الشامل. كان شكه مجرد “خداع ذاتي وليس شك حقيقي”.[28] إن مطلب أن يكون هناك سبب للشك هو طريقة بيرس لدحض حجج الشك بسرعة وإفساح المجال للمعتقدات المشروعة.

تم تطوير هذا الخط من النقاش حول الشك مؤخرًا من قبل مايكل وليامز [29] الذي سلط الضوء على العديد من الشكوك كأفتراضات غير واضحة توصول إلى نتيجة متشككة. ويؤكد أن احتمال الخطأ لا يشك في وجود المعرفة. النظام المفاهيمي البديل هو: التبرير الافتراضي، والمعرفة الخاطئة، وأسباب للمتحدي، وعبء الإثبات مقسم إلى مؤمن ومعارض. يؤكد ويليامز رد بيرس على كتابات الشكاك بأن الشك هو ” نتاج  الأفكار النظرية المسبقة التي يمكننا الاستغناء عنها بشكل معقول”.[30]

كما يقدم بيرس بعض التغييرات في مفهوم الحقيقة الذي سوف يستمر مع وليم جيمس والذي سيتنهي الى نتيجة هي ، أولاً، أننا نعترف بأن المعرفة مستقلة عن الحقيقة الموضوعية” بمجرد وصولنا إلى اعتقاد راسخ، راضون عنه تمامًا، سواء كان الاعتقاد صحيحًا أو خاطئًا”.[31] أذ  يكفي إذا الاعتقاد صحيحًا. ثانياً، يفسر نوعًا من نظرية الحقيقة بالتراضي كآراء بين الباحثين. فـ “الرأي الذي يجب أن يوافق عليه جميع من يدقق هو ما نعنيه بالحقيقة في النهاية “.[32] الحقيقة والواقع مستقلان عن التفكير الفردي وأنهما بناء اجتماعي متطور.[33] وحتى لو كان مفهوم بيرس للحقيقة يصف فقط ما يعتبره الناس حقيقة (تاركا المفهوم المثالي دون تغيير)، فقد كان بمثابة إعلان عن نظرية جيمس العملية البراغماتية للحقيقة الذاتية.

وليام جيمس: المفهوم الجديد للحقيقة والخوف من الخطأ

يشترك جيمس  مع بيرس في مفهومه الجديد للمعرفة. إنه مقتنع بأن المعرفة موجودة  حتى لو لم تكن معصومة. “لا شك في أن الأدلة الموضوعية واليقين هي مُثُل جيدة للغاية، ولكن أين يمكن العثور عليها.[34] أن وجود الوعي هو أستثناء. ولايوجد سوى حقيقة واحدة غير مؤكدة، وهي الحقيقة التي تتركها الشكوك البيرونية pyrrhonistic نفسها قائمة، وهذه الحقيقة هي وجود ظاهرة الوعي الحالية”.[35] لكن يلاحظ جيمس على الفور أن هذا ليس سوى تعبير عن شعور غير مفاهيمي بوجود الفرد؛ ليس له أي مضمون  وينهار اليقين به حالما نحاول التعبير عنه. ويكتب جيمس، مثل بيرس، أن الحقائق الرياضية لا تخبرنا بشيء عن الواقع.

يقبل جيمس جميع المقدمات المنطقية  للشكاك القدامى والمحدثين  لكنه يرفض النتيجة النهائية التي يصلون اليها: “نحن نتخلى عن عقيدة اليقين الموضوعي، لكن لا نتخلى عن السعي وراء الحقيقة نفسها أو نأمل  بها.[36] طريقة الجمع بين القابلية للخطأ أو للاعصمة ومكافحة الشكية هي في التمييز الواضح بين المعرفة واليقين. أن نعرف شيئ، وأن نعلم بشكل مؤكد أننا نعرفه هذا أمر آخر. يمكن للمرء الأعتقاد بالأول دون الثاني “.[37]

قام جيمس في “البراغماتية” بتطوير مفهومه البرغماتي الجديد للحقيقة. الأفكار الحقيقية هي تلك التي يمكننا استيعابها والتحقق منها وتأكيدها.أما الأفكار الخاطئة فهي تلك التي لا نستطيع معها ذلك. هذا هو الفرق العملي الذي يجعلنا نملك أفكارًا حقيقية؛ وهذا، إذن، معنى الحقيقة، لأنه كل ما تعرفه هكذا هو الحقيقة. هذه الأطروحة هي ما يجب الدفاع عنها طبقاً لرايه. فحقيقة الفكرة ليست خاصية راكدة متأصلة فيها. تحدث الحقيقة لفكرة ما. وأنها تصبح حقيقة، وتتحقق من خلال الأحداث. الحقيقة هي في الواقع حدث يصبح صحيحا، وتتحقق من خلال الأحداث.  إن صدقها هو في الواقع حدث وعملية: وتعني العملية التحقق من نفسها.[38]

لقد أعلن جيمس عن الفكرة الرئيسية للمفهوم البرغماتي للحقيقة في كتابه” ارادة الأعتقاد”: ” كقاعدة، لانؤمن بكافة الوقائع والنظريات التي لا نستخدمها”.[39] النظرية البراغماتية هي الرفض المؤكد للحقيقة الموضوعية واستبدالها بحقيقة ذاتية. شك المتشكك لامعنى له عندما تكون الحقيقة ذاتية، لأننا نعرف هذه الحقيقة.

المفهوم البرغماتي  الجديد للحقيقة هو رفض للعقيدة الفكرية الخالصة. لا تتم مناقشة المشاكل الفلسفية هنا على أرض فكرية خالصة ولكن على أرضية النشاط البشري بعواطفه ورغباته. يرى جيمس أن الإيمان بالحقيقة  لا دليل أو حجة عليه، أنه تأكيد عاطفي للرغبة أو”شغف عاطفي”.

نحن نريد أن نحصل على الحقيقة ؛ نريد أن نصدق أن تجاربنا ودراساتنا ومناقشاتنا يجب أن تضعنا في وضع أفضل وبشكل مستمر. لكن إذا سألنا أحد المتشككين كيف نعرف كل هذا، فهل يمكن لمنطقنا أن يجد ردًا؟ لا! بالتأكيد لا يمكن. إنه مجرد إرادة واحدة ضد الآخرى.[40]

يأتي كتاب “أرادة الأعتقاد”  بحجة مهمة مناهضة للشك تستند إلى التمييز بين البحث عن الحقيقة وتجنب الخطأ. “هناك طريقتان للنظر في مهمتنا في مسألة الرأي (…). يجب أن نعرف الحقيقة، ويجب أن نتجنب الخطأ”.[41] الحالة المثالية هي احترام كلا الواجبين في وقت واحد. لكن جيمس يكشف أنهما قانونان منفصلان وأن الشاك يعامل أحدهما، ألا وهو تجنب الخطأ، باعتباره أكثر ضرورة. ينصحنا أحد الشكاك  بما يلي: “تُبقي عقلك في حالة قلق وأنتظار إلى الأبد، بدلاً من إغلاقه على أدلة غير كافية تتسبب في مخاطرة فضيعة تتمثل في  تصديقك الأكاذيب”.[42] وفقًا لجيمس، فإن الأمر يشبه الجنرال الذي يخبر جنوده أنه من الأفضل الابتعاد عن المعركة إلى الأبد بدلاً من المخاطرة بإلأصابة بجرح.

عندما يفترض الشكي أن تجنب الخطأ هو أكثر أهمية من البحث عن الحقيقة، فهذا نوع من الافتراض أو التقييم المسبق غير القائم على على سبب كافٍ ولكن على بعض المواقف العاطفية (أعطاء الأولوية للخوف من الخطأ):” الشك، إذن، ليس تجنب الأختيار؛ إنه خيار نوع معين من المخاطر. إن خطر فقدان الحقيقة أفضل من أحتمال الخطأ.” [43]

لا يوجد دليل على أن هذا النوع من المخاطر أفضل من الموقف المقابل. يمكن أن يقول أحدهم أنه من الأفضل أن تكون مخطئًا في البحث والتحقيق بدلاً من أرجاء فرصة تخمين الحقيقية. لذا، يخلص جيمس إلى أن الشك (تعليق الأحكام) ليس واجبنا الفكري، بل هو القرار العاطفي الذي يسترشد به الخوف من الخطأ. ومثل كل قرار يمكن أن يكون خطأ.

هذه حجة مهمة مُناهضة للشك لأن الشكاك التقليديين يعتبرون تعليق الحكم واجبهم الفكري. ييثبت جيمس أن موقفهم من من جانب واحد ويستند إلى افتراضات تقيمية مشكوك فيها. يركز الشكاك على تجنب الخطأ ويتجاهل الحصول على معلومات جوهرية. إنه موقف الحذر المبالغ فيه.  نقدر طبقاً  لمنظور الحياة اليومية المعلومات الجوهرية لتوجيه الأفعال وتلبية الرغبات. وفقا لجيمس ليست العفوية أسوأ شيء يمكن أن يحدث لنا. الأسوأ سيكون الإغلاق الكامل للحقيقة بقاييس متطرفة للمعرفة. إن التبشير بالشك كواجب فكري إلى أن يظهر سبب كاف، هو الادعاء بأن الخوف أفضل من الأمل. لكن هذا الادعاء لا يمكن إثباته فكريًا.

لقد كان اختراع البراغماتية هو أنه لا توجد معتقدات / مواقف فكرية خالصة، فكلها مدعومة بالعواطف والرغبات. يطبق جيمس هذه القاعدة على حالة الشك ويظهر العواطف التي أدت إلى وجود قاعدة  شكية لتعليق الأحكام. إنها الخوف من الخطأ. لذلك، أن تكون شاكا أو لا تكون هي مسألة تفضيل عاطفي. الشك ليس نتيجة لوصف خالص للحالة المعرفية للإنسان ولكنه نوع من التقييم.

يرى جيمس أنه من الأفضل أحيانًا تعليق الحكم والانتظار حتى ظهور أدلة كافية. هذا هو الحال دائمًا في الأسئلة العلمية؛ وحتى في الشؤون الإنسانية عمومًا، فنادرا ما تكون الحاجة إلى التصرف ملحة لدرجة أن الاعتقاد الخاطئ بالعمل أن يكون أفضل من عدم الاعتقاد على الإطلاق. يتعين على المحاكم القانونية اتخاذ قرار بشأن أفضل الأدلة التي يمكن الوصول إليها في الوقت الراهن.[44] لكن لا يمكن أن تنتظر الأسئلة الأخلاقية والشخصية والدينية الأدلة الكافية. الخيارات الدينية حيًة وبالغة الأهمية وأجبارية؛ لأنه “من المفترض نربح مع ايماننا ونخسر الخير  إذا لم نؤمن. ثانياً، الدين خيار قسري، وعلينا الأ نخسر خيره. لا يمكننا الهروب من هذه المشكلة من خلال البقاء متشككين وانتظار مزيد من الوضوح، لأنه على الرغم من أننا نتجنب الخطأ بهذه الطريقة إذا كان الدين غير حقيقي، فإننا نفقد الخير إذا كان  الدين حقيقي، وتمامًا كما لو أننا اخترنا الكفر “.[45]

تعتبر المعتقدات الدينية مثالاً جيداً لإثبات أن الشكوك عاطفية، أحادية الجانب وغير مجدية في النشاط العملي. أنا لا أتفق مع أولسون بأن استجابة جيمس تتعلق فقط بالشك الديني وليس لها أي معنى في الشك  الشامل.[46] أذ يكشف جيمس أن الشك العام ليس له أسباب كافية وأنه نتيجة الخوف المبالغ فيه من الخطأ.

البراغماتية كعلاج ضد التشكيك

يتم تقسيم الشكوك المعاصرة والقابلية للخطأ من خلال مفهوم المعرفة. يؤكد كلا الموقفين  الشك والقابلية للخطأ على نقص اليقين. يفترض بيتر أنجر، بوصفه أحد الشكاك المعاصرين، أن المعرفة هي أن تعرف بيقين، وبالتالي فإن المعرفة غير موجودة.[47]بينما يرى كواين بأعتباره من المؤيد للقابلية للخطأ أن المعرفة لا تتطلب اليقين وبالتالي المعرفة موجودة. ويرى كواين، ايضاً، لدينا معرفة علمية ولكن أي من معتقداتنا حول العالم قد تكون خاطئة. الفرق هو مفاهيمي وعاطفي. من السهل تغيير معنى كلمة الشكوك (الى لا يوجد يقين) وستُعتبر القابلية للخطأ نوعًا من الشك المعتدل.

لقد جمع بيرس وجيمس بين القابلية للخطأ والموقف الواضح ضد الشكية؛ فكانت، منذ ذلك الوقت، تعارض وفصل بين هذين الموقفين حيث لم تكن متميز في العصور القديمة والحديثة. كان لدى ديفيد هيوم أسباب الشك نفسها لدى كواين، اعتبر هيوم نفسه شكاكاً معتدلًا، بينما  يعتقد كواين بالقابلية للخطأ فيقول “على الجانب العقائدي، لا أرى أننا نمضي قدماً اليوم ابعد من ماضى هيوم.”.[48] فالشك القائم على حجج هيوم في  مفردات المعجم المعاصر هي التي نسميها القابلية للخطأ.

لاحظ هيلاري بوتنام بحق أن الرؤية الفريدة للبراغماتية الأمريكية هي أن شخصًا ما يمكن أن يتبنى فكرة القابلية للخطأ وأن يكون ضد الشكية.[49] تعتبر القابلية للخطأ نوع من الشك أحيانأً ، لذا تكون مثل هذه الاستجابة للشك موضع تساؤل. لكنني أعتقد أن استجابة البراغماتية في القابلية للخطأ  تجاه للتشكك واضحة ومتسقة. إنها ترفض فكرة أنه ليس لدينا أي معرفة، لكن تقبل  فكرة أن يمكن أن تكون معرفتنا خاطئة. تتشابه استجابة البراغماتية / القابلية للخطأ مع الأستجابة للتهمة الأكثر فاعلية ضد الشك القديم، التي صاغها الرواقيون: إن تعليق جميع الأحكام يؤدي إلى الخمول والموت.

كان لدى الشكية مشاكل مع متطلبات نشاطات الحياة اليومية دائمًا. بينما كانت البرغماتية على العكس من ذلك، فقد كانت قريبة من النشاط البشري. فبالنسبة الى البراغماتيين، أي شك جذري أو اصلي أمرًا خطيرًا لأنه يعوق طريق الأستقصاء والبحث بالإضافة الى أنواع أخرى من النشاط. لهذا السبب أعتقد أنه من غير الممكن ربط البراغماتية بالشك، حتى لو كانت البراغماتية تستوعب وتفهم الوصف الشكي  للحالة المعرفية للإنسان، ايً عندما تقول: ليس لدينا اليقين ولا نضمن الحقيقة الموضوعية. فليس هذا الأً تشابه ظاهري حتى لو ساهم فلاسفة براغماتيون في الحجج ضد الحقيقة. أخذت البراغماتية النتائج العملية كأهم اختبار لصحة النظرية. بينما ضحت الشكية بالنتائج العملية لصالح الحجج النظرية وتجاهلت حقيقة أن المعرفة هي نوع من النشاط يسترشد بالرغبات والعواطف. تتطلب البراغماتية كنظرية للعمل الحق في الاعتقاد. بينما تطلب الشكية تعليق الأحكام. تستند البراغماتية كنظرية إلى متطلبات النشاط كالأمل والتفاؤل؛ في حين تؤدي الشكية الى اليأس والتشاؤم. نجد أن هناك أنقسام كبير بين هذين الموقفين. أنهما موقفان متعارضان. فبالإضافة إلى ذلك، أخذت البراغماتية في الاعتبار الميتافيزيقيا التطورية الجديدة وممارسة العلوم التجريبية. كان هذا مصدر إلهام لتحسين المفاهيم المعرفية المتأصلة في الفلسفة التقليدية.

اتبعت الفلسفة المعاصرة المسار العملي. ولا يعتبر الفلاسفة المعاصرون أنفسهم شكاك  لأنهم غيروا مفهوم المعرفة. هذا هو السبب وراء كونهم يتبنون مفهوم القابلية للخطأ ولكن ليسوا شكاك. في رأيي ساهم البراغماتيون الأمريكيون في هذا التغيير المفاهيمي. فقد كان بيرس  فيلسوف مهم في هذا التغيير و جيمس في تطوير ونشر هذه الفكرة. لقد نُظر الى المفهوم البرغماتي للحقيقة على أنه مبدعـ، وقام  في الوقت نفسه بهجوم قوي على تلك  المعتقدات التي أعتبرت عزيزة، وانه كان نوعا من الثورة الفكرية. وأسمي هذا “المنعطف العملي” في تاريخ الشك.

[1] المبدأ  الذي يقول أنه يمكن قبول الأفتراضات المتعلقة بالمعرفة التجريبية على الرغم من أنه لا يمكن إثباتها على وجه اليقين.

[2] Hookway, C. (2008). Peirce and Skepticism. In:J. Greco (ed.), The Oxford Handbook of Skepticism, pp. 310-329. Oxford/New York: Oxford University Press.

Olsson, E.J. (2005). Not Giving the Skeptic a Hearing: Pragmatism and Radical Doubt.

Philosophy and Phenomenological Research 70 (1), 98-126.

[3] Pritchard, D. (2002). Recent Work on Radical Skepticism. American Philosophical Quarterly 39 (3), 215-257.

[4] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers. Edited by C. Hartshorne and P. Weis (vols.1-6) 1.13).

[5] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.171.

[6] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers. 1.172.

[7]Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.108.

[8]  Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.144.

[9] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.149.

[10] Cooke, E.F. (2006). Peirce Pragmatic Theory of Inquiry: Fallibilism and Indeterminacy. London: Continuum. 61.

[11] Hookway, C. (2008). Peirce and Skepticism. In:J. Greco (ed.), The Oxford Handbook of Skepticism, pp. 310-329. Oxford/New York: Oxford University Press. 314.

[12] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.145.

[13]Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers. 256.

[14] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.148.

[15]  Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.14.

[16] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.153.

[17]  Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.256.

[18] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers..318.

[19] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers. . 617.

[20] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers.327.

[21] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers..593.

[22] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .373.

[23] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .372.

[24] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .394.

[25] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .398.

[26] Hookway, C. (2008). Peirce and Skepticism, p. 311.

[27] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .265.

[28] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .265.

[29] Williams, M. (2001). Problems of Knowledge. A Critical Introduction to Epistemology. New York: Oxford University Press.

[30] Williams, M. (2001). Problems of Knowledge. A Critical Introduction to Epistemology.197.

[31] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .375.

[32] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, .407.

[33] Peirce, C.S. (1931-58). Collected Papers, ..408.

[34] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Esscrys in Popular Philosophy. The Project Gutenberg EBook.p.14.

[35] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. pp. 14-15.

[36] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy.  p. 17.

[37] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. p. 12.

[38]James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. p. 79.

[39] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. p. 10.

[40] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. Pp9-10.

[41] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy.  p. 17.

[42] ames, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy.  p. 18.

[43] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy.  pp. 26.

[44] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. p. 20.

[45] James, W. (2009). The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy. p. 26.

[46] Olsson, E.J. (2005). Not Giving the Skeptic a Hearing: Pragmatism and Radical Doubt.

107, 124.

[47] Unger, P. (1975). Ignorance. A Case for Scepticism. Oxford: Clarendon. p. 99.

[48] Quine, W.V. (1969), Ontological RelatMty and Other Esscrys, New York and London: Columbia University Press.p, 72.

[49]Putnam, H. (1994). Words and Life. Cambridge, MA: Harvard University Press.p.152.

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=64868

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M