تراجع الدراسة الطرق التي تعالج بها البلدان الخارجة من فترات الصراع والقمع ما عانته من انتهاكات متعددة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان، وتستقصي تجارب المصالحة في تشيلي وجنوب إفريقيا والمغرب. وتلاحظ الدراسة أن أوجه تطبيق العدالة الانتقالية تتباين حسب سياقاتها ودينامياتها السياسية والقانونية وأحيانًا الإجرائية بين تجارب الدول التي اختارت هذا المسعى لتجاوز أحقاد النزاع وتحقيق الأمن المجتمعي. وتكمن الإشكالية الرئيسية في الخيار الاستراتيجي الصعب بين السعي لعدالة “عقابية”، أو “تصالحية”، أو “انتقالية” تحت شعار تجاوز الصراع وتراكم العداء وترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع. وتنقسم الآراء بين أحقية تطبيق القانون نصًّا وروحًا وعقاب الجناة وإنصاف الضحايا وأفضلية التدرُّج في الحسابات القانونية والتريث في تحقيق مصالحة وطنية لا تعتد بإنزال العقوبات والزج بمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في السجون بقدر ما تحرص على التوصل إلى تعايش مجتمعي وطي صفحة الماضي الأليم.
من هذا المنطلق، تركز الدراسة على السجال المفتوح بين خبراء تسوية النزاعات والمؤسسات التي تسعى لبناء السلام حول تحديد الأولوية: هل هي أسبقية العدالة وتطبيق العقاب على مجرمي الحرب وسائر الجناة خلال فترة النزاع أم أولوية التعامل مع الآثار النفسية لما حدث من أعمال العنف، ومطالب الانتقام، وطبيعة الذاكرة الجماعية للضحايا، ومحاولة ترميم اللُّحمة الاجتماعية وبناء السلام. وتهتم بتحليل جدلية هذه الثنائية ليس على المستوى النظري الأكاديمي فحسب، بل وأيضًا تقييم الحصيلة العملية في محاولات تحقيق العدالة الانتقالية في مراحل زمنية متباينة وفي جغرافيات متباعدة. وتبعًا لذلك، تستهدف تقييم حصيلة التعامل مع جدلية: العدالة أم الأمن المجتمعي؟ ضمن لجان ومشاريع المصالحة في تشيلي أو ما عُرف بتقرير لجنة ريتيغ (1991)، ولجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا (1996)، وهيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب (2004)، وكيف حاولت التوفيق بين مقتضيات تطبيق القانون والعقاب واعتبارات السلام المجتمعي.
وتعزو الدراسة سبب اختيار هذه التجارب الثلاث إلى قربها الزمني من هذه المرحلة، وقد تمت بين نهاية قرن وبداية آخر بين أقصى جنوب وأقصى شمال القارة الإفريقية ووسط القارة الأميركية اللاتينية. كما أنها تعدُّ من أهم، إنْ لم تكن الأهم، بين تجارب العدالة الانتقالية في العقود الثلاثة الماضية لاستخراج بعض الدروس والعِبَر التي يمكن أن تفيد في بناء السلام المأمول في سوريا بعد سنوات الحرب الأهلية، وتشريد نصف الشعب السوري، ومقتل قرابة نصف مليون من المدنيين منذ أحداث درعا، في مارس/آذار 2011.
غير أن مسارات العدالة المنشودة، ليس في سوريا فحسب، بل وأيضًا في اليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وبقية الدول العربية، تنطوي على ضرورة التفكير والتخطيط المتروِّي في التعامل مع التركة النفسية، وآثار التعذيب الجسدية أحيانًا، لدى ضحايا البطش والاستبداد، أو ما يتعارف المغاربة على تسميته “سنوات الرصاص” خلال حكم الحسن الثاني (1961- 1999). بيد أن تفعيل آليات تلك العدالة من خلال عمليات كشف الحقيقة أو إجراءات العدالة الجنائية يمكن أن يهدد عمليات بناء السلام في دول لا يزال مرتكبو أعمال العنف فيها يتمتعون بقوة النقض.
ويرى الدكتور محمد الشرقاوي أن إرهاصات السعي للمصالحة، أو بالأحرى الحاجة لمصالحات عربية داخل المجتمع الواحد، تفتح الباب على المربع الأول من أجل تصميم النموذج والآليات المناسبة لتعقيدات الحروب الأهلية والصراعات الداخلية على امتداد الجغرافيا من المغرب حتى العراق. وأصبحت جل الدراسات واستراتيجيات الهيئات الدولية التي تتعامل مع الصراعات تدافع عن ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بتفريعات مختلفة كإحدى أهم ركائز بناء السلام في المجتمعات التي مزقتها الحرب. وتستمد زخمها النظري من الفكرة المفصلية التي بلورها أستاذ دراسات الإجرام هاورد زيهر في كتابه “تغيير المنظار: تركيز جديد على الجريمة والعدالة”.
تهتم الدراسة أيضًا بدراسة الرؤية الفلسفية ضمن عمل المحكمة الجنائية الدولية في معاقبة الجناة بمعزل عن متطلبات بناء السلام، وإلى أي حد تدور هذه الفلسفة في فلك حقل الدراسات الإجرامية التي ترعرعت فيها منظومة العدالة الانتقالية وليس في حقل فض النزاعات وبناء السلام الذي لا يتحمس لعدالة انتقالية لن تخدم بالضرورة الهدف الرئيسي المتمثل في الأمن المجتمعي. ويتحرك هذا التحليل على مستويين: أولهما: اعتماد عنصري المنطق القانوني ومنطق الأمن المجتمعي كنقاط تقاطع في تحليل مشاريع المصالحة الوطنية في الدول الثلاث. وثانيهما: ضرب مقارنة بين التأطير النظري الفلسفي لفكرة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية قبل ستة عشر عامًا مع ما كشفته عمليًّا استراتيجيات تغيير الانطباعات والسرديات والذاكرة الجماعية بين الضحايا والجناة في حقبة ما بعد وقف إطلاق النار.
وخلصت الدراسة إلى أن النخب العربية ونشطاء الحرية والإصلاحات الديمقراطية في الجزائر والسودان والعراق في عام 2019، على غرار نظرائهم في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا عام 2011، بحاجة لأن يعودوا إلى المربع الأول لتركيب نظرية عربية للعدالة الانتقالية أو بالأحرى إعادة اكتشاف فلسفة الصلح أو المصالحة في مجتمعات لا تزال مظالم الأمس القاتم جاثمة على صدور الضحايا وذويهم في ضوء سياقها المحلي العربي. وكما دافع المفكر الإيطالي، أنطونيو غرامتشي، عن دور المثقف العضوي، ثمة حاجة لفلسفة عضوية في مسعى تحقيق العدالة.
في الوقت ذاته، تُخلِّف خارطة الصراعات المفتوحة وتعثر مسلسل الانتفاضات العربية عدة تركات نفسية مرضية وتراكم صدمات عميقة من جرَّاء التعرض للعنف وسوء المعاملة. وتنطوي أيضًا على عدة مفارقات مثيرة منها شحُّ المعرفة المنهجية لدى المؤسسات العربية في التعامل مع تلك الأزمات والصراعات. وتطرح هذه المفارقات أكثر من سؤال عن نصيب المنطقة العربية من نظريات وأدوات فض الصراعات، ومدى تناسب الاستراتيجيات التي تعتمدها الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية والحكومات الغربية مع طبيعة وتعقيدات الصراعات العربية. في المقابل، يتساءل المرء عن مدى استحضار أعراف الوساطات العربية، مثل الصلح أو المصالحة، على طريق العدالة الانتقالية والتعامل مع الصراعات وإقراراها ضمن أدبيات فضِّ الصراع كعلم اجتماعي مركَّب وقائم بذاته.
للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)
رابط المصدر: