دانيال ميرا-سلامة
الترابُط هو السمة التي تجمع بين كل شيء.
باستخدام نظرية الفوضى، عندما ترفرف فراشة بجناحيها في نيو مكسيكو، فإنها ستبلغ من القوّة ما يتسبب في إحداث إعصار في الصين. لكن الأحداث المتلاحقة، التي تبعت ظهور فيروس كورونا المُستجد (كوفيد-19)، تخلو تماماً من العشوائية الواردة في نظرية تأثير الفراشة. فالتفسير الغالب حالياً هو في الواقع التفسير المُتعارف عليه من قبل والذي يؤكد على فداحة العواقب المترتبة على التصرفات المترابطة للبشر.
العلاقة بين الحياة البرية والأمراض المُعدية المُستجدة
على الرغم من عدم توصل العلم إلى إجابة قاطعة بعد حول هذه العلاقة، فمن المؤكد، وبما لا يدع مجالا للشك،
حيث يُحتمل انتقال الفيروس من الخفاش إلى مُضيف وسيط، تزعم النظريات الأولى أنه حيوانات البنغول (المعروفة باسم “أم قرفة” أو آكلة النمل الحرشفي) التي يتم الإتجار بها على نحو غير شرعيّ للحصول على لحومها وحراشفها والاستفادة من القيمة المزعومة لهذه الحراشف في التداوي. وساهم اتصال البشر بهذا المُضيف الوسيط في تسهيل حدوث الطفرة الأخيرة لعامل الإمراض، مُسببة تفشي الجائحة التي ظهرت في ما يزيد على 140 بلداً وقت كتابة هذه المدونة لتصيب أكثر من 150 ألف شخص بالعدوى وتُسجِّل خسائر لا تُحصى.تسهيل ظهور عوامل إمراض جديدة ومميتة
فقد انتقل وباء سارس المتفشي عام 2003 إلى البشر من سِنَّوْرِ الزَّبَاد، وهو نوع من القطط التي كانت تُباع في الأسواق ليس كحيوانات أليفة فحسب بل كمصدر للحم يشتهيه بعض الناس. أما متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) فقد انتقلت من الجِمال إلى البشر عام 2012. وكما هو الحال مع إنفلونزا الطيور وفيروس نيباه والإيبولا والإيدز…. فجميعها وغيرها من الأمراض المُعدية الناشئة الأخرى كانت حيوانية المنشأ ثم انتقلت إلى البشر – في ظاهرة يُطلق عليها “انتقال الأمراض حيوانية المنشأ للبشر (Zoonosis)”. وفي الواقع تشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من إجمالي حوادث تفشي الأمراض المُعدية المُستجدة في العالم جاءت من أصل حيواني، وكان مصدر معظم تلك الأمراض حيوانية المنشأ (أكثر من 70% منها) هو الحياة البرية.
كما يتضح من تفشي فيروس كورونا المُستجد، نجد أن الأمراض حيوانية المنشأ التي تظهر في البيئة البرية تُشكل تهديدات خطيرة على الصحة العامة والسلامة البيولوجية فضلا عن الأمن العالمي.
وبهذا تكشف احتمالية تأثير حيوان البنغول الستار عن النهاية الحتمية وغير المتناسبة لبداية بسيطة نسبياً كان من الممكن تفاديها: حيث ينتقل الفيروس الموجود في مُضيف طبيعي موجود في البريّة ليسبب جائحة مَرَضية وينتشر عالمياً عبر استغلال سلسلة طويلة من الأحداث المترابطة.
ويعتبر تزايد التعرّض لبيئة الحياة البرية أول وأكبر عناصر تضخيم هذه الظاهرة. إذ نتسبب، بما نُمارسه من أنشطة بشرية، في زيادة فرص تعرضنا لعوامل إمراض لم نتعرّض لها من قبل على نحو كبير، ومن ثم لن نكون مستعدين لمواجهتها. ونفعل ذلك بطريقتين رئيسيّتين: إما بإفراطنا في تقريب الحياة البرية إلينا، أو بإفراطنا أنفسنا في الاقتراب أكثر من اللزوم من الحياة البرية. أما ثاني أكبر عناصر تضخيم هذه الظاهرة فيُمكن عزوه إلى العولمة: فبمجرد انتقال عامل الإمراض إلى البشر، وإصابة عدد لا بأس به من الأشخاص بالعدوى، تسهم الرحلات الجوية والبحرية الدولية وسلاسل القيمة العالمية بدورها في نقل الأشخاص المصابين بالعدوى إلى جميع أرجاء العالم.
إفراطنا في تقريب الحياة البرية إلينا: المُتاجرة في الأحياء البريّة
تحتل التجارة غير المشروعة في الأحياء البريّة المرتبة الرابعة بين أكبر الجرائم المحظورة في العالم بعد المخدرات والتزييف والإتجار بالبشر. وتخضع أنشطة التجارة المشروعة في الأحياء البرّية لأحكام اتفاقية الإتجار الدولي بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المعرضة للانقراض (CITES)، إلا أنها تهدف بالأساس إلى ضمان عدم تهديد حفظ الحياة البرية. ويعمل كلا النوعين من التجارة كمسارات نقل ضخمة، تنقل الأحياء البرية – وعوامل الإمراض بها – إلى حدود أبعد وأوسع، لتكثّف من فرص احتكاكها بالبشر وتزيد كثيراً من فرص انتقالها.
قد شكلت التجارة غير المشروعة على الأرجح القناة التي انتقلت عبرها الحيوانات المُصابة بعدوى فيروس كورونا لتحتك بالبشر
(فإذا تم التأكيد على أن حيوان البنغول هو حقاً المُضيف الوسيط، فسيشكل هذا منعطفاً مثيراً للسُخرية، إذ يُعد هذا الحيوان الثديي الأكثر تداولا حول العالم، فجميع فصائله الثماني مُدرجة على القائمة الحمراء للأنواع المُهددة بالانقراض الصادرة عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، ومن بينها ثلاث فصائل ضمن تصنيف الأنواع المُهددة بالانقراض بشكل حرج). ويتم الإتجار في الأحياء البريّة بهدف الغذاء أو للاستفادة من أعضائها أو كحيوانات أليفة أو لاستخدامها لأغراض الطب التقليدي وغير ذلك من الأغراض الأخرى. ففي مناطق كثيرة حول العالم، نجد استخدام وتناول الأحياء البرية كطعام ضارباً في جذور ممارساتها الثقافية. ويتضح أن تعجيل الصين بحظر جميع أنشطة الإتجار في الأحياء البرية كطعام، بهدف تقليص احتكاك البشر بالحياة البرية، هو خطوة أساسية للحيلولة دون ظهور أمراض مُعدية مُستجدة أخرى. كما يُعد تحسين ظروف النظافة والصحة العامة إلى جانب السيطرة على السلسلة الكاملة للإتجار المشروع في الأحياء البرّية، وفرض شروط صارمة وآمنة على بيعها وتناولها كطعام، من الركائز الرئيسية أيضاً. وعادة ما تكون هذه العناصر ضعيفة في الكثير من البلدان، حيث تكون خدمات الطب البيطري للماشية متطورة للغاية، بينما تُعاني ممارسات الرقابة والتفتيش على الحياة البرية من قصور في التطوير والتكامل.
الإفراط في الاقتراب من الحياة البرية – تدهور الموائل
يمنحنا التنوّع البيولوجي خدمة أساسية يغفل عنها الكثير منّا وهي: السيطرة على الأمراض.
ويشكل كل من تجريف الغابات وتغيير استخدام الأراضي وتفتيت الموائل والزحف العمراني والنمو السريع لتعداد السكان، نماذج للعوامل البيئية والسلوكية والاجتماعية الاقتصادية المؤثرة في تضخيم فرص تعرّض البشر ومضاعفة فرص الإصابة بالعدوى. كما يعد تغير المناخ من العوامل الإضافية المعروفة بمساهمتها في ظهور الأمراض المُعدية المُستجدة، حيث يتيح فرصاً جديدة لظهور عوامل الإمراض، وتعجيل ظهور فصائل غازية وتوسيع نطاق التواجد الطبيعي للفصائل.إن الأنشطة البشرية تعمل على تقليص تأثير التخفيف الذي يوفره التنوع البيولوجي والمنظومات الإيكولوجية، مسببة زيادة خطر ظهور الجائحة التالية.
تساهم جميع تلك العوامل في تمكين الباحثين من تحديد بؤر أخطار الأمراض المُعدية المُستجدة حيوانية المنشأ، حيث تظهر النتائج ارتفاع حدة ذلك الخطر في مناطق الغابات الاستوائية المعرضة لتغيرات في استخدام الأراضي والمُتميّزة بكثافة مرتفعة من التنوّع البيولوجي (غنية بفصائل الثدييات). وتعد الصين وجنوب شرق آسيا من البؤر المعروفة أيضاً. وبهذا فإن الأنشطة البشرية تعمل على تقليص تأثير التخفيف الذي يوفره التنوع البيولوجي والمنظومات الإيكولوجية، مسببة زيادة خطر ظهور الجائحة التالية. لذا، فقد أصبحت مواجهة وإيقاف هذه التوجهات قضية عالمية أكثر أهمية من ذي قبل، بالنسبة للصحة العامة للبشر.
صحة واحدة
في حين يوجّه النصيب الأكبر من الاهتمام بالأمراض المُعدية المُستجدة والإنفاق عليها نحو الجانب البشري من المعادلة (الاستعداد والاستجابة لحالات الطوارئ والصحة العامة)، ينبغي أيضاً إيلاء المزيد من الاهتمام لردع العوامل الرئيسية المُسببة لظهور تلك الأمراض المُعدية المُستجدة في المقام الأول. وتقر منهجيات “صحة واحدة”
. ويمنحنا الإعلان الذي صدر مؤخراً عن البنك الدولي بتخصيص مبلغ 14 مليار دولار لمساعدة البلدان على مواجهة تهديد فيروس كورونا، فرصة لبناء حزمة إجراءات شاملة تراعي صحة كل من البشر والحيوانات والبيئة. وتشكل الصحة البيئية الحلقة الأضعف في هذه السلسلة. وينبغي لنا، كممارسين في مجال التنمية، أن نُشرك وزارات البيئة والموارد الطبيعية، وإدارات الحياة البرية والمؤسسات البحثية والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، ومناقشة الثغرات التي تعاني منها الرقابة على صحة الحياة البرية وظهور الأمراض، والممارسات البيطرية للإتجار في الأحياء البرية، ولوائح النظافة العامة، وسياسات وممارسات الإتجار في الأحياء البرية، والإعلان الفعال عن المخاطر.و
ويبدأ تأثير حيوان البنغول التالي بالقضاء على التجارة غير المشروعة في الأحياء البرية، وتحسين اللوائح المنظمة لأنشطة التجارة المشروعة، وتعزيز جهود حماية التنوع البيولوجي والموائل الطبيعية، والاستمرار في توفير خدمات قوية للمنظومة البيئية. فالفرصة السانحة لنا مفتوحة على مصراعيها لكنها قصيرة الأجل أيضاً.
رابط المصدر: