أناتول كاليتسكي
لندن ــ على عكس توقعاتي الأولية، لا يتبع انتشار مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) إلى مختلف أنحاء العالَم المسارات الحميدة نسبيا التي تشهدها الصين خارج ووهان ومقاطعة خوبي، وفي كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وبقية آسيا. بدلا من ذلك، في مختلف أنحاء أوروبا ــ وعلى الأرجح في الولايات المتحدة ــ يشبه انتشار الفيروس على نحو متزايد المسار الذي اتخذه في خوبي.
هذا يهدد بكارثة طبية واقتصادية. ولكن في حين أنه ربما فات الآن أوان التحرك من جانب صناع السياسات لتجنب أزمة الصحة العامة، فلا يزال من الممكن تنفيذ التدابير المالية والنقدية اللازمة لمنع وقوع كارثة اقتصادية. لتحقيق هذه الغاية، يتعين على صناع السياسات أن يذهبوا إلى ما هو أبعد كثيرا من الخطوات النقدية التي أعلن عنها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ومقترحات إدارة ترمب بفرض تخفيضات ضريبية غير موجهة وتقديم هِبات نقدية حتى الآن.
في مستهل الأمر، توقعت أن يقترب عدد الحالات في بلدان الاتحاد الأوروبي من المستوى الغالب في آسيا خارج مقاطعة خوبي (من 10 إلى 100 مريض لكل مليون نسمة)، وأن تتبع الولايات المتحدة نمطا مماثلا تقريبا. لكن ما حدث في الحقيقة هو أن إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وغيرها من بلدان الاتحاد الأوروبي، لا تشهد التباطؤ في معدل تغير التسارع، كما حدث في ووهان وبقية الصين في هذه المرحلة من الوباء.
أحد التفسيرات المحتملة هو أن إجراءات الإغلاق التي نفذتها إيطاليا كانت أقل صرامة من تلك المتخذة في آسيا، وأن أنظمة الرعاية الصحية كانت أقل استعدادا. على سبيل المثال، لم يتم إبعاد المرضى عن أسرهم بالسرعة الكافية، وبالتالي أصابوا آخرين بالعدوى. إذا كان الأمر كذلك، فإن التسارع في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة سيكون حتى أسرع مما هو عليه في أوروبا القارية، بسبب الاستجابات السياسية المجزأة والمضللة من قِبَل الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون.
وعلى هذا فمن المحتمل تماما أن تكون النتيجة الـمُـقارِبة في بلدان أوروبا وأميركا أقرب إلى 1000 حالة لكل مليون، كما هي الحال في ووهان. أو في ما كان ليبدو قبل أسابيع قليلة أشبه بكابوس مروع لكنه الآن تحول إلى أسوأ سيناريو معقول، ربما تنتهي الحال بأوروبا والولايات المتحدة إلى معدلات إصابة أعلى كثيرا من تلك في ووهان نسبة إلى عدد الأفراد. الواقع أن إيطاليا، حيث بلغ عدد الإصابات المؤكدة 32 ألفا بين سكانها الذين يبلغ عدد 60 مليونا، تقترب بالفعل من المعدل في ووهان ــ ولا يزال الوباء في إيطاليا يتسارع في مرحلة حيث كان يتباطأ في ووهان. من ناحية أخرى، تداولت الحكومة البريطانية علنا التفكير في سياسة تسمح للفيروس بإصابة 60% من السكان على أمل توطيد “مناعة القطيع”، لكنها تراجعت عنها في النهاية. كان معدل الإصابة هذا ليعادل 600 ضعف المستوى في ووهان.
الخبر السار الوحيد في هذا الوضع المخيف هو أنه على العكس من التأثيرات الطبية المترتبة على الفيروس، من السهل التنبؤ بالتأثير الاقتصادي والتغلب عليه. هناك استجابة سياسية واحدة يمكن أن تمنع الوباء، حتى في هيئته الخبيثة نسبيا التي شهدتها مقاطعة خوبي، من إحداث كارثة اقتصادية أسوأ من أزمة 2008 المالية. يتعين على الحكومات في كل اقتصاد رئيسي أن تضمن التعويض غير المحدود عن العائدات والأجور المفقودة لكل الشركات والعاملين المتضررين بالحجر والإغلاق ــ إن لم يكن بنسبة 100% كاملة، فعلى الأقل بنسبة 80% إلى 90%.
في الظروف المثالية، من الممكن أن يأتي هذا التعويض عبر منح وتحويلات مالية صريحة، لكن الخيار الآخر للشركات الأكبر حجما ربما يكون القروض الطويلة الأجل بدون فوائد، أو ضمانات القروض. وما يدعو إلى التفاؤل أن هذه الاستجابة أصبحت الآن قابلة للتطبيق بسبب الطريقة التي حولت بها أزمة 2008 الاقتصاد العالمي والأسواق المالية، مما قدم للحكومات تمويلا غير محدود بمعدلات فائدة صِفرية، في ظل معدل تضخم منخفض، فضلا عن التسامح مع التجارب المالية والنقدية التي لم تكن متصورة من قبل.
من الواضح، في الوضع الحالي، أن السياسة النقدية لن تفعل أي شيء لتحفيز النشاط الاقتصادي. ولا يريدها صناع السياسات أن تفعل: فالمزيد من النشاط الاقتصادي الآن لن يؤدي إلا إلى تفاقم أزمة الصحة العامة. لكن تظل أسعار الفائدة الصِفرية وضخ السيولة بكميات ضخمة أمرا ضروريا لمنع انهيار الأنظمة المالية.
الآن، يجب أن تنتظر التدابير المالية المصممة لدعم التعافي إلى أن تتم السيطرة على الفيروس. ما يمكن للحكومات أن تقوم به الآن، وما ينبغي لها أن تقوم به، هو أن تعمل على طمأنة الشركات والمواطنين إلى أنهم يمكنهم البقاء في منازلهم وأن ليس هناك ما يدعو إلى القلق بشأن فقدان الدخل، لأن الحكومة ستعوض عن الخسائر بمجرد انتهاء الأزمة.
استنادا إلى تجربة الصين، ربما تصل التكلفة المالية للتعويض الشامل عن الدخل المفقود إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي بسهولة. وإذا تبين أن الوباء أسوأ مما هو عليه في الصين، وهو ما يبدو محتملا الآن، فقد تصل التكلفة المالية إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي. ربما تبدو هذه الأرقام مذهلة، لكن تمويلها ممكن بطريقة أو أكثر من ثلاث طرق.
أولا، تستطيع كل دولة في مجموعة العشرين، باستثناء إيطاليا المحتمل، أن تعمل بسهولة على زيادة نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 25 نقطة مئوية دون إثارة أي تساؤلات جادة حول القدرة على السداد. ولن ترتفع تكاليف خدمة الديون على الإطلاق إذا تعهدت البنوك المركزية بالإبقاء على أسعار الفائدة القصيرة الأجل عند مستوى الصِفر لمدة عامين على الأقل، وأُجبِر المستثمرون من خلال الضوابط التنظيمية والقمع المالي على مطابقة الالتزامات المالية مع آجال الاستحقاق الطويلة.
هناك فارق جوهري بين التحويل المالي لمرة واحدة، مهما كان كبيرا، والتحفيز المالي من خلال التخفيضات الضريبية أو تعهدات الإنفاق التي تزيد العجز السنوي بشكل دائم. أي أن تحويل 25% من الناتج المحلي الإجمالي لمرة واحدة يلحق ضررا أقل بالقدرة المالية الطويلة الأمد مقارنة بالتخفيض الضريبي بنسبة 1% أو 2% من الناتج المحلي الإجمالي أو التزامات الإنفاق الطويلة الأجل التي تغير البنية المالية لعقود مقبلة.
ثانيا، تستطيع البنوك المركزية أن تزيد من برامج التيسير الكمي لاستيعاب إصدارات الديون الإضافية بالكامل. باختصار، من الممكن أن تتسع القاعدة النقدية في كل من اقتصادات مجموعة السبع بمقدار 25% من الناتج المحلي الإجمالي ببساطة.
أخيرا، من الممكن أن يأتي تعويض الشركات والعمال بشكل مباشر من البنوك المركزية من خلال قطرات موجهة من أموال “الهليكوبتر”.
إن الاتفاق بين الحكومات والبنوك المركزية في مختلف أنحاء العالمي على طريقة موحدة من شأنه أن يعزز مصداقية الاستجابة. ولكن في الممارسة العملية، يمكن توظيف مزيج من هذه السياسات الثلاث.
ولكن هل ينبغي أن يحدث ذلك؟ هناك اعتراضان على التعويض الحكومي الكامل: فقد يؤدي إلى التضخم في نهاية المطاف، وقد يمثل تدخلا غير مسبوق من قِبَل الحكومات لإنقاذ ودعم الشركات.
الواقع أن مثل هذه الاعتراضات ضعيفة. فاليوم، يريد الجميع معدل تضخم أعلى. ورغم أن هذا قد يثبت كونه خطأ في نهاية المطاف ــ ربما بحلول النصف الثاني من هذا العقد ــ فسوف تكون هناك وفرة من الوقت للتحول إلى سياسات مضادة للتضخم بين الآن وذلك الحين.
إن التعويض الكامل ليس غير مسبوق على الإطلاق. فعلى نحو منتظم يجري تعويض المزارعين عن الكوارث الزراعية، مثل مرض جنون البقر، أو حتى بسبب انخفاض الأسعار الزراعية بشدة والحروب التجارية. كما يجري تعويض المناطق والأسر المتضررة من الفيضانات أو الزلازل أو حرائق الغابات عادة من خلال الإغاثة من الكوارث أو التأمين المدعوم.
ومنذ عام 2008، تلقت البنوك وشركات التأمين والأسواق المالية تحويلات مالية فعّالة في العديد من البلدان تتجاوز كثيرا 25% من الناتج المحلي الإجمالي. الفارق في هذه الحالة هو أن الكارثة تؤثر على الجميع، وهو ما يدعم الحجة من حيث المبدأ لصالح التعويض. السبب الوحيد الذي يجعل الحكومات في مختلف أنحاء العالم لا تزال تفكر من منظور القروض وضمانات الائتمان، بدلا من التعويض المالي المباشر، هو عدم وجود جماعات ضغط ذات مصالح خاصة، مثل المزارعين أو المصرفيين، تطالب بإغاثة موجهة.
رابط المصدر: