د. نبيل جعفر المرسومي
تتعرض أسواق النفط العالمية حاليا إلى أسوأ ازمة في تاريخ النفط، إذ فَقَدَ النفط نحو 70% من سعره في بضعة أسابيع، فقد انخفض سعر خام برنت القياسي إلى ٢٥ دولارا للبرميل وهو أدنى من مستوى القاع الذي وصل إليه خلال الأزمة الاقتصادية العالمية عام ٢٠٠٨ عندما وصل خام برنت إلى ٣٦ دولارا وأدنى من مستوى القاع في شباط ٢٠١٦ عندما انحدر خام برنت إلى ٢٧ دولار للبرميل.
وعلى الرغم من ان المعروض النفطي لم يزد حاليا لأن أوبك + لم تتخل بعد عن قيود الإنتاج ومستمرة بالالتزام بالتخفيضات المقررة التي تبلغ 2.1 مليون برميل يوميا طيلة شهر آذار الحالي فيما انخفض الطلب العالمي بنحو 4 ملايين برميل يوميا أي بنسبة 4% فقط من اجمالي الاستهلاك العالمي للنفط، علما ان ثلثي النفط يجري تداوله في مناطق انتاجه، أي ان ما يدخل في التجارة الدولية نحو 33 مليون برميل يوميا.
إن هذا الوضع يعني أن الخلل في اساسيات السوق ليس كافيا لتبرير الانحدار الهائل في أسعار النفط الخام وانما يعزى ذلك أيضا إلى أسباب أخرى مرتبطة بالعوامل السلوكية–النفسية، وهي مجموعة عوامل تتعلق بسلوك المنتجين والمستهلكين والمضاربين، وقراراتهم بخصوص الإنتاج والبيع والشراء لعقود النفط في السوق العالمية.
فقد يستمر المنتجون أحيانًا في إنتاج النفط وزيادة العرض منه على الرغم من انخفاض السعر، رغبةً منهم في الحفاظ على حصصهم تجاه منافسيهم في السوق. كما قد يتعمّد بعض المنتجين –أحيانًا– تخفيض أسعار بيع نفطهم مقابل منافسيهم الآخرين، في خضم توافر معروض كبير في السوق العالمي، لإبقاء سيطرتهم على بعض الأسواق، ضمن ما يمكن وصفه بحرب الأسعار التي يستعر لهيبها خلال أوقات تخمة المعروض العالمي من النفط وانخفاض السعر، ويقلُّ عند نقص الإمدادات وارتفاع السعر.
وبالنسبة إلى المستهلكين للنفط لأغراض واستخدامات متعددة، فإنّ قراراتهم بالشراء تتأثر بحالة السعر الراهنة وتوقعاتهم المستقبلية له. ففي حالة استمرار انخفاض السعر لمدة زمنية معينة، سيعمدون إلى تخفيض كميات الشراء الفوري، وقد يمتنعون تمامًا عن الشراء الآجل توقعًا منهم لانخفاض آخر في الأسعار، مما يخفض تكلفة حصولهم عليه. وهذا يعني ان الطلب الكلي العالمي على النفط سينخفض، الأمر الذي من شأنه أن يوجد ضغوطًا باتجاه خفض السعر بغض النظر عن حجم العرض العالمي. وفي الحالة المعاكسة، عندما تسود حالة من الاعتقاد أو التوقع بارتفاع الأسعار، فإنّ المستهلكين سيسارعون إلى شراء كميات أكبر (عقود شراء فورية أو آجلة) تحسبا لارتفاع الأسعار وأثره في زيادة تكلفة الحصول على النفط.
أما بالنسبة إلى المضاربين والمستثمرين في الأسواق المالية، فسلوكهم يشبه سلوك المستهلكين مع اختلاف اهدافهم، فهم يتّخذون قرارات البيع والشراء لعقود النفط الفورية أو الآجلة، مستهدفين تحقيق أكبر قدر من الأرباح نتيجة الفروقات بين أسعار البيع والشراء. وهكذا، عندما يشعرون أن استثماراتهم المالية في عقود النفط مهددة بالخطر نتيجة استمرار حالة انخفاض الأسعار، فسيعمدون إلى بيعها لتجنب الخسائر، ما يعني زيادة في الضغوط على أسعار النفط نحو الانخفاض في الأسواق العالمية. بالمقابل، فإنّ إقبال المستثمرين والمضاربين على شراء الأصول المالية ذات العلاقة بالنفط إذا توقعوا ارتفاع أسعارها وبهدف جني أرباح كبيرة، يشكّل ضغوطًا تصاعدية على أسعار النفط في السوق العالمية.
تشير بعض الدراسات إلى أن كمية النفط التي يتم تداولها في أسواق المستقبليات تمثل نحو ثلاثة أضعاف الإنتاج اليومي الفعلي، والبعض الآخر يشير إلى أن صافي هذه المعاملات ربما يصل إلى نصف الإنتاج اليومي للعالم. وأيا كان الوضع فإنه من الواضح أن الكميات التي يتم التعامل عليها في أسواق المستقبليات هي بالفعل كميات ضخمة، وهي من هذا المنطلق مرشحة لأن يكون لها تأثير على الأسعار الفعلية التي يدفعها العالم للنفط الخام. ويشير الاقتصادي Nick Butler إن كل شحنة يتم تداولها 10مرات كمتوسط، وبذلك نجد إن عدد العقود المتداولة يفوق بعشرات الأضعاف الكميات المتبادلة فعليا وان كل تداول جديد يضيف او يخفض دولارات إضافية (حسب نسبة التأثير) على سعر البرميل الورقي ومن ثم يؤثر على سعر البرميل الفوري.
لم تعد أسواق النفط تقتصر على صفقات البيع التقليدية بل أصبحت عملية المضاربة عاملاً فاعلاً في السوق، فقد تنوعت الجهات المشاركة في أسواق النفط وتوسعت كثيراً، اذ شملت شركات ومصارف ومؤسسات مالية وحتى أفراد. وقد نشط الكثير من هؤلاء التجار في أسواق النفط الآجلة، ففي عام 2008 كان أكثر من نصف المشاركين في سوق النفط نايمكس مستثمرين تجاريين ليس لهم علاقة بسوق النفط. ان دخول هؤلاء إلى أسواق النفط ادى إلى زيادة نشاط العقود الآجلة، وما يميز هذه العقود انها تباع وتشترى في تاريخ مستقبلي محدد سلفاً ولا تمثل أداة ملكية كالأسهم، ولا يتداول المستثمر في العقود بسلعة مادية أي لا يشتري نفطاً خاماً وانما يقوم بعمليات بيع وشراء العقود بشكل مخطط لها وهدفه الأساس من هذه العملية هو التحوط من المخاطر او المضاربة.
إن المضاربة على النفط، من الظواهر الجديدة التي تتعرض لها صناعة النفط حاليا، إذ تكونت صناديق للمضاربة فيه، وهو ما جعل النفط احد سلع المضاربة، وتقوم عمليات المضاربة في النفط على أساس التوقعات المستقبلية للأسعار والتي ترتكز إلى مجموعة من المتغيرات الاقتصادية الكلية وكذلك السياسية والمناخية، وعندما تشير هذه التوقعات حول المتغيرات المؤثرة في النفط إلى احتمال ارتفاع الأسعار يبدأ المضاربون في شراء النفط فترتفع أسعاره بصورة أكبر، وعندما تنعكس تلك التوقعات تبدأ عمليات بيع النفط فتنخفض أسعاره بصورة اكبر، وهو ما يؤدي إلى زيادة نطاق التقلبات السعرية في النفط بفعل اتجاهات المضاربة.
تعد المستقبليات من أهم العقود الآجلة. وتقوم فكرة المستقبليات على نظام الوساطة بطريق السمسرة بين البائعين والمشترين بالآجل، والاستفادة من هذا الآجل بإعادة تدوير صفقات البيع خلال هذا الآجل في سوق (بورصة) معينة. وتعد السوق الورقية أو المستقبلية من أكثر الأسواق نشاطاً في العالم فقد تحولت إلى الأساس الذي يتم عن طريقه تسعير النفط في العالم، وتعمل هذه السوق على مدار الساعة فهي تعاملات ورقية بالعقود المستقبلية قصيرة وطويلة الآجل، إذ تسمح أسواق النفط الفورية للمتعاملين ببيع وشراء النفط الخام والتسليم والدفع الآني المباشر، لكن في بعض الحالات يكون المشتري قلقاً من السعر الذي سيكون قادراً على دفعة أو يتوقع ارتفاعه في المستقبل.
إن إحدى طرائق التخلص من المخاطر السعرية للصفقة تكون عبر الدخول بعقد تسليم مؤجل (العقود المستقبلية)، وهو اتفاق ثنائي بين المشتري والبائع على توفير كمية محددة من النفط (الخام أو المشتقات) بسعر متفق عليه مسبقاً في موقع معين في وقت محدد في المستقبل (عادةً 21 يوما)، وحينما يصل تاريخ البيع ولا يرغب المشتري في التمديد فإن المشتري يدفع المبلغ النقدي المتفق عليه، وهذا الأخير يقوم بتسليم السلعة المتفق عليها.
وتستخدم تلك التجارة في بعض الأحيان للمضاربة لأنه في الأسواق الآجلة يتعاقد الطرفان البائع والمشتري على تسليم النفط في المستقبل، بسعر متفق عليه مسبقاً بغض النظر عن الأسعار السائدة في السوق وقت التسليم، ويجد المضاربون فرصاً ضخمة في هذه الأسواق لأنها تمكنهم من جني الأرباح عن طريق تداول عقود النفط على الورق فقط حتى يأتي وقت التسليم، بدون القيام بأي عمليات فعلية للشحن والتسليم إذ يتداول يوميا نحو 150 ألف عقد في (NYMEX)، ويصل حجم النفط الخام التي تتداوله هذه العقود إلى ضعف الانتاج اليومي للعالم.
يرى بعض الباحثين ان المضاربة في العقود الآجلة اثرت في سعر النفط وهذا الأثر يتراوح ما بين 15 إلى 60% من سعر النفط في عام 2008. وقد استمر تأثير المضاربة وصولا إلى العام 2014 حيث انخفض سعر النفط حوالي %70. وفيما لو أوعزنا هذا التغير إلى عوامل السوق من عرض وطلب نجد انها لا تقدم تفسيراً مقنعاً، فعلى الرغم من زيادة المعروض النفطي عن الكمية المطلوبة إلا أن الطلب لم ينخفض بمقدار %70 وكذلك زيادة المعروض لم تصل إلى الـ%50، ولكن ما تغير هو توقعات المضاربين إذ توقع المضاربون بأن الدول المنتجة وبالأخص الأوبك سوف تعمل على تخفيض الإنتاج لرفع السعر وهو ما لم يحدث مطلقا مما قلص من فرض المضاربة. ومثلما كانت للمضاربة دورا كبيرا في التأثير على أسعار النفط في أزمتي النفط عامي 2008 و2014 فمن الممكن جدا ان يكون لها ذات التأثير في الازمة الحالية لسوق النفط العالمية.
رابط المصدر: